العاصمة المغربية الرباط التي استقبلتنا ظهر أمس الأول، كأنها كانت تستدعي فينا وفيها ذلك التاريخ الطويل العميق الذي ربط بلاد المغرب بالسودان منذ عصور طويلة، طقس بارد وترحاب في كل مكان.. لكن تحوُّل الهواء المنعش الرطب المشبّع ببرودة مقدم الشتاء الطويل القاسي، القادم من جبهتين من المحيط الأطلسي من ناحية ونهايات البحر الأبيض المتوسط الذي يتجرد ويصيبه الهزال متحولاً إلى مجرد بحر صغير رقيق الحال عند مدخل جبل طارق.. تحوَّل هذا الجو المغاربي البارد، إلى سخونة لافتة ولافحة، من المناقشات التي جرت خلال الندوة الإقليمية التي ينظمها مركز «الشروق للديمقراطية والإعلام وحقوق الإنسان» بالرباط بالتعاون مع المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة «الإيسيسكو» تحت عنوان «الإعلام العربي في زمن التحولات هل انتصر للمهنية أم أجّج الفتن؟» وتستضيفها الرباط هذه الأيام.. لفيف من كبار القيادات الإعلامية العربية، وزراء ووزراء سابقين في عدة دول عربية، وعدد من المفكرين والأكاديميين والمديرين ورؤساء عدد من القنوات العربية مثل الإعلامي الجزائري المخضرم مصطفى سواق الذي اختير مديراً عاماً لقناة الجزيرة، ومحمد فائق الوزير السابق الناشط الحقوقي المصري، وأحمد أخشيشن وزير الإعلام السابق في المغرب، والخبير الإعلامي التونسي الكبير كمال العبيدي، والمفكر والسياسي محيي الدين اعيميور مستشار الرئيس والوزير السابق في الجزائر، وممثلين للقنوات والصحف العربية الكبرى، ومديري المراكز البحثية والدراسات وشخصيات أخرى معروفة في الفضاء الثقافي والفكري والسياسي العربي، كلهم التأموا في المغرب، لينظروا في قضية سياسية وإعلامية وتنويرية مقلقة تتعلق براهن المشهد الإعلامي العربي في ظل التحولات التي أنتجتها ثورات الربيع الديمقراطي في بلداننا العربية. وزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية مصطفى الخلفي وهو وزير شاب صغير ومثقف كبير وصحافي كان يرأس تحرير صحيفة الحزب الحاكم «العدالة والتنمية» برئاسة عبد الإله بن كيران رئيس الوزراء المغربي، رسم صورة باهرة لأثر الإعلام في الثورات العربية، ودوره في حركة الوعي والتبصير في الوطن العربي، كما قال: من الماء للماء «من المحيط إلى الخليج» وتحدياتها، لكنه في الجلسة الافتتاحية ابتدر نقاشاً عميقاً وشفافاً حول عنوان الندوة.. وسرعان ما تباينت الآراء خلال الجلسات التي تستمر حتى الخميس، بدا التيار العلماني العربي في نقاشاته غير راضٍ عمّا تمخض عن هذه الثورات التي رفعت الحركات الإسلامية في مصر وليبيا وتونس والمغرب ودول عربية أخرى إلى سدة الحكم، وظهر تخوف حقيقي من تجربة حكم الإسلاميين ومواقفهم من الحريات الإعلامية والصحفية وحرية التعبير، وهو فزع متوهم ومبالغ فيه، بينما اصطف تيار آخر خلال أيام الندوة في مقارعة حجج التيار الآخر. ومثلت محاور النقاش والحوار في الندوة التي اعتمدت طريقة النقاشات المفتوحة دون أوراق معدة قضايا مثل «كيف تفاعل الإعلاميون العرب مع ثورات وحراك الشارع العربي» و «وضع الحريات في الوطن العربي وتطور وسائل الإعلام والإعلام الجديد» والكلمتان الافتتاحيتان للدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري المدير العام للمنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة «إيسيسكو» والأخرى للأستاذ الإعلامي والوزير السابق محمد أوجار رئيس مركز الشروق للديمقراطية والإعلام وحقوق الإنسان. لقد مثلت المحاور والكلمتان، منطلقات جيدة للحوار الجاد والصريح بين المشاركين خلال الجلسات اليومية التي تنفق فيها سحابة النهار وآناء الليل.. وأتيحت فرصة للإعلاميين والصحافيين العرب المشاركين خلال هذه الندوة، لمناقشة تبايناتهم السياسية والفكرية والمهنية بشكل لم يكن مسبوقاً من قبل، فمستويات الحوار في عالمنا العربي كانت تتم وفق صيرورة الظرف السياسي المحيط بكل الأطراف والوسائل الإعلامية والمتاح من الحريات حتى في زمن الربيع العربي... المهم أن المشهد الإعلامي العربي مثخن بجراح التعارضات والتمحورات السياسية، وهو جزء مما حدث في المشهد السياسي العربي المنقسم بين تيارات علمانية تتحسر على عقود طويلة عاثت فيها باسم السلطة منذ خروج المستعمرين حتى سقوطها تحت زخات الربيع العربي، وبين التيار الإسلامي الصاعد وهو يريد بناء مستقبل جديد... --- الرجاء إرسال التعليقات علي البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.