في الوقت الذي كان ينتقد فيه رئيس الجمهورية ميثاق الجبهة الثورية المسمَّى «الفجر الجديد» ويسميه دكتور نافع «الفجر الكاذب»، في هذا الوقت كانت قوات الجبهة الثورية تتحرّك من الجنوب إلى الشمال بعشرات الدبابات والمدافع الثقيلة لتدخل في مصيدة الجيش السوداني فتتعرَّض آلياتها العسكرية للتدمير ويسقط نحو خمسين متمرداً قتيلاً. إن الإعداد للفجر الجديد داخل القاعات أو تحت أشجار الغابات يبقى نظريات وأحلاماً وردية، ولو كانت الحكومة ترفض التفاوض وتسد باب الحوار مع حركات دارفور المسلحة أو ما الحركة الشعبية الحاكمة في جنوب السودان التي يتبع لها ما يسمَّى بقطاع الشمال، كان يمكن أن يُنظر إلى مثل ميثاق «الفجر الجديد» أو السودان الجديد «بصيغة معدَّلة» بأنه الخيار الوحيد، لكن ها هي الحكومة توفد المسؤولين إلى الدوحة للتفاوض مع حركات دارفور وتوفدهم إلى أديس أبابا للتفاوض مع الحركة الشعبية التي يتبع لها «قطاع الشمال».. وفي الداخل أبواب الحوار مفتوحة مع القوى المعارضة لدرجة تعيين نجلي الصادق المهدي والميرغني في رئاسة الجمهورية إلى جانب المساعد الأول للرئيس دكتور نافع.. وبقي أن تعين الدولة نجل الترابي السيد صديق الترابي مساعداً للرئيس وهو المنصب الذي كان فيه والده في حكومة نميري، وكان في هذا المنصب رئيس حركة تحرير السودان مني مناوي، وكان يمكن أن يشغله أيضاً عبد الواحد وخليل قبل وفاته، فالقصر مفتوح ببطاقة السلام للمتمردين ومفتوح ببطاقة المشاركة لمن يراهنون على التظاهرات تحت اسم الجهاد المدني. والحسابات الصحيحة هي جلوس المتمردين للتفاوض لتتحقق الأهداف الوطنية، والحسابات الصحيحة أيضا هي أن تعاد مصالحة يوم السبعات الطويلة يوم 7/7/1977م بين الصادق المهدي ونميري في بورتسودان، فلا خيار لهؤلاء غير هذا ولا خيار لأولئك غير ذاك. قل لي بربك هل الاعتداء على القرى والمدن البعيدة كل البعد عن عاصمة البلاد يمكن أن يحقق الغاية التي ينشدها المتمردون وهي إسقاط النظام في الخرطوم؟! وهل مشاركة بعض القيادات الحزبية في هذا الأمر يمكن أن تحقق تحولاً ديمقراطياً لصالحهم يأتي بعد إسقاط النظام، فيكون مثل انتفاضة السادس من أبريل عام 1985م؟! لكن لا بد من مستفيد من كل هذه الحسابات الخاطئة التي يتعامل بها التمرد، ترى من المستفيد غير القوى الأجنبية وأولها إسرائيل؟!.. إن إسرائيل نفسها ترى أن المتمردين في السودان بعد انفصال الجنوب ينفخون في قربة مقدودة، وهذا النفخ المُهَدر تستفيد منه القوى الأجنبية في زعزعة استقرار وأمن المواطنين الذين يقطنون بعيداً جداً عن عاصمة البلاد، حيث مقر النظام الحاكم.. أى أن أضرار التمرد لا تصيب النظام الحاكم الذي «يتمرغ» في رغد العيش، وإنما تصيب المواطن المحكوم، وهو الذي دون حروب يعيش حياة بائسة، فيأتي التمرد ليزيد له طينة معاناتة بِلةً. أيها المتمردون «الأعزاء» على بعض القوى الحزبية وأيتها القوى الحزبية الذليلة للتمرد، إن الواقع هو أن المستفيد من هذا العدوان الذي جاء هذه المرة تحت عنوان وشعار «ميثاق الفجر الجديد» هي إسرائيل والحركة الشعبية في جوبا وقادة الحركة الشعبية «قطاع الشمال».. إن إسرائيل تسخر من عقلية قادة التمرد وزعماء بعض الأحزاب، وهم يناطحون النظام الحاكم الذي استفاد بجدارة فائقة وفكرة ذكية خارقة من كل المعطيات على الساحتين الداخلية والخارجية، ولم يبق للتمرد والمعارضة إلا أن يؤذيان المواطن أذى شديداً.