وقع حزبا المؤتمر الوطني وحزب الحرية والعدالة المصري على اتفاق تعاون بينهما، في ختام زيارة الأخير للسودان برئاسة سعد الكتاتني، وهو اتفاق جاء متزامناً مع تصعيد خلافات ظلت تشكل غيوماً على العلاقة بين البلدين، وهي الخلافات على الحدود حول منطقتي (حلايب وشلاتين)، بجانب استقبال القاهرة للحركات المتمردة والمناوئة للحكومة في الخرطوم. والناظر إلى علاقات السودان ومصر بعاطفة التاريخ وطبائع وسلوكيات الإنسان الذي يسكن على دلتا النيل جنوب البحر المتوسط وحتى شمال السودان ووسطه، يجد هذا الإنسان متقارباً في سلوكياته ومكوناته الأساسية، وقد يكون هناك اختلاف في اللون واللهجة، لكن أصل العلاقة واحد من الناحية الإستراتيجية وجذورها، لكن لعبة السياسة والحكم فيها تقاطعات ولا تقوم على مكون واحد وأحياناً لا تراعي العناصر المشتركة للشعوب، فقط أنها تستجيب وتتدرج وفق المصالح والعوامل المساعدة على تحقيقها. الدكتور نافع علي نافع وهو رجل سياسي وحصيف قال عقب الاتفاق إن السودان لن يشغل (مصر) بقضية (حلايب وشلاتين) وإن العلاقات السودانية المصرية تظل مستهدفة من قبل الذين يعانون من قصر النظر الذين يريدون مكايدة الحزبين، معتبراً ذلك تجارة بائرة.. وأحسب أن الدكتور نافع قصد أن يبعث رسالة قوية إلى قيادة وشعب مصر بأن الخلاف حول المنطقتين قائم، لكن السودان حكومةً وشعباً يقدرون الظروف الداخلية الحرجة التي تمر بها مصر، وبذلك لا يريدون تعكير صفو علاقات البلدين والقيادة في مصر بإثارة نزاعات صغيرة كما وصفت مثل حلايب وشلاتين، وهو ما نطق به (نافع) بالنص بأنهم في البلدين ينظرون إلى القضايا الإستراتيجية الكبيرة بعيداً عن صغائرها والأهداف المتواضعة، كما أن السودان يقدر ظروف مصر. وإذا نظرنا إلى علاقات شعبي السودان ومصر نجدها متطورة وأزلية، وقد دخلت استثمارات مصرية كثيرة وعلى كل الأصعدة والمستويات، لكن تظل هناك الحاجة ماسة إلى استكمال عملية التكامل بين البلدين التي لم تتم بالصورة العملية المتوقعة، فهي قد تمت نظرياً على الورق، لكن المطلوب إنزالها إلى الحياة العملية حتى يستشعرها مواطنو البلدين في تجارتهم وتنقلهم وتملكهم.. د. نافع قد رمى باللائمة على الحكومات السابقة التي لم تراع علاقات البلدين، وقد تركت نزاعات الحدود قائمة، وفي المقابل نقول على القيادة الحالية في السودان ومصر الجديدة أن تراعي العلاقات الأزلية وتعمل على تذويب هذه الخلافات التي ظلت تتجدد من وقت لآخر، لا سيما أن هناك تجانساً وتفاهماً كبيرين بين النظامين في السودان ومصر في عهدهما الأخير، وتصبح الحاجة ماسة إلى ردم الهوة الكبيرة التي حفرها نظام حسني مبارك على مسار العلاقات السياسية بين الخرطوموالقاهرة، فنظام مبارك كان يتمسك بحلايب لأنها تمثل عين ونقطة المراقبة الرئيسة لدولة إسرائيل على مياه البحر الأحمر من حدود مصر الإقليمية وحتى رأس الرجاء الصالح، وهو محور في نظر تل أبيب يشكل مهدداً للأمن القومي لها. ومصر في عهد مبارك كانت لديها مطامع سياسية باعتبارها دولة محورية، وكانت معظم المعارضات السودانية تطلق نشاطها من القاهرة وطرابلس قبل أن تغير وجهتها إلى كمبالا بعد انفصال الجنوب، وقد كانت كمبالا فقط وجهة المعارضة الجنوبية (الحركة الشعبية)، أما المعارضة الشمالية فكانت وجهتها القاهرة.. صحيح بعد ثورات الربيع العربي والمتغيرات التي أحدثتها قد حدث تغير في المعاملة والأوضاع، لكن تظل هناك حقيقة لا بد من ذكرها، وهي أن القاهرة مازالت تستضيف المعارضة السودانية، وقد يسمونها معارضة رأي وفكر وغير مسلحة، لكنها على مقربة وتنسيق مع المسلحين، وتجمعهم ما تسمى (الجبهة الثورية).. وفي نهاية المطاف استضافتها لعناصر يديرون نشاطاً هداماً وضد الأمن القومي، وبالتالي فإن البلدين بحاجة إلى تفاهمات في ما يلي تنسيق الملفات السياسية والاقتصادية، وإن كان السودان سياسياً يرى أن قصيري النظر في المعارضة بين البلدين هم الذين يستهدفون علاقات البلدين لضربها وقطع الطريق أمام تنميتها وتطويرها. الخرطوموالقاهرة عليهما إعمال النظر بعمق في أطر تنمية العلاقات بينهما، والابتعاد عن نهج الاعتذارات وتقدير المواقف، لأن السياسة لعبة اغتنام الفرصة الذهبية، واليوم هناك سوانح عديدة متاحة مما يحتم استغلالها والاتجاه نحو تحقيق المصالح الكبرى لشعبي البلدين في التجارة والزراعة وتبادل المنافع والأفكار والرؤى، خاصة في ما يلي قضايا الإقليم وما يدور داخل مصر من اضطراب. والسودان لديه تجربة كبيرة في إدارة ملفات النزاع الداخلي، وبمقدوره المساهمة وتقديم مبادرة حتى تخرج مصر الشقيقة من أزمتها الداخلية التي بلغت مرحلة إضراب أصحاب التاكسي ورجال الشرطة، وهذه مرحلة متقدمة من عمر النزاع الداخلي بعد الثورة. وفي الماضي كان هناك عدم ندية سياسية بين السودان ومصر، لكن اليوم تبدو مساحة التوافق والاحترام أكبر، وهناك ندية تسمح للبلدين بأن يسمع كلٌ وجهة نظر الآخر ويمضيا معاً على طريق التكامل، وهذا يحتاج إلى وقت ليس بالقصير، لأن الأحلام والأهداف الإستراتيجية والطموحات الكبيرة لا تتحقق ما بين يوم وليلة، فقد تبدأ الخطوة اليوم وتكتمل مستقبلاً، كما أن حسن النوايا وتوفر الإرادة الصادقة هو ما يدفع البلدين إلى تحقيق مصالحهما المشتركة بعيداً عن تأثيرات أصحاب الأجندة، سواء أكانت معارضة حكومات البلدين أو دول الجوار الأخرى. تصعيد الأزمات ليس من الحكمة، وفي تقديري أن البروفيسور إبراهيم غندور وهو مسؤول العلاقات الخارجية لحزب المؤتمر الوطني وبحكمته ومرونته، بمقدوره إحداث اختراق حقيقي تجاه إسكات الأصوات السياسية التي تحاول تعبئة واستهداف علاقات البلدين بإثارة قضايا الخلاف، وهي معلوم أنها حقوق، لكن ربما الوقت غير مناسب لإثارتها في مثل هذه الظروف التي تعانيها (الخرطوموالقاهرة). والقاهرة تبدو اليوم أحوج ما تكون للمساعدة والرأفة، وهي لا تحتمل أكثر من الذي تعيشه شوارعها هذه الأيام، وبالتالي وضعها يتطلب الصبر عليها كثيراً.