ربما يتفق الجميع أن هناك تغيرات مهمة طرأت على شكل تكون الدولة الإسلامية من حيث العوامل والوسائل والزمان والمكان وصيرورة هذه الدولة، ومجموعة التحديات والعقبات التي تقف في طريق هذا الواجب اللازم الحتمي، والقاعدة التي لا تقوم حياة الأمة ولا تنهض إلاّ بها، وهي قيام الدولة الإسلامية العادلة التي تحقق طموح أبناء الأمة في السياسة والحكم والدعوة والريادة والشهود الحضاري وهيمنة تسود ولا تقصي الآخر المخالف. هناك مناقشات نشطة موَّارة وجدل متَّقد كثيف يدور في أذهان كثير من الإسلاميين حول علاقة السياسة بالدعوة أيُّهما يقدَّم على الآخر؟ وهل يمكن أن يلتقيان ويتعايشان؟ أم هما شيئان مختلفان متضادان؟ إن المسوِّغ لهذه الأسئلة هو مواقف الإسلاميين أنفسهم من هذه القضية، فحين تجد فريقًا منهم يرى أنه لا يمكن أن ينشأ حكم رشيد وعادل ودولة قوية متطوِّرة تمكِّن لشرع الله والدعوة ونشر رسالة الإسلام إلاّ من خلال سلوك درب السياسية الذي يوصل إلى قيام الولاية والإمامة العظمى التي تنصب رأية الجهاد وتحرس الثغور وتذب عن بيضة الدين.. وتجد فريقًا آخر يرى أن السياسة باب يلج المرء من خلاله إلى الفتن والشرور وحظوظ الدنيا ومتاعها الزائل، ولذا تجد من يحذِّر من السياسة ويعتبرها ضربًا من النفاق، والحديث هنا عن الإسلاميين نقصد به المعنى الشامل الجامع الذي يقابل مصطلح العلمانيين الذين يرون لا ضرورة إلى الجمع بين الدولة والدين، لكن المسلم الفقيه الملتزم يرى ضرورة الجمع بين الدين والدولة؛ لأن الدين منهج حياة شامل جاء ليعالج مشكلات الناس في جميع مناحيها الدعوية والفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والعقدية والأخلاقية، وفي مجال العلاقات العامة أيضاً، ولكن هل يُعقل أن ينكر أحد الناس أن الدِّين في نصوص كثيرة تناول قضية السياسة وحرض على آلياتها؟ وإذا كان الأمر كذلك إن الدِّين جاء أيضاً لمعالجة قضايا الناس السياسية، بل حاجة الناس إلى السياسة أشدّ حاجة من سواها فإن الإنسان كائن اجتماعي حيوي لا يمكن بناء نظامه إلاّ علي هيكل وظيفي ينتهي به إلى قاعدة وهرم، وعلى رأس هذا الهرم يوجد قائد أو أمير أو رئيس أو رائد، أو سميه ما شئت، والقاعدة تؤازر وتناصر وتدعم موقف هذا الأمير الذي أُنتدب ليحقق أهداف ومطالب هذه الجماعة، وهذا القائد أو الأمير الضرورة تملي عليه أن يتبع نهجاً ويسلك مبادئ محددة، وهذا التصرف لا شك أنه تدبير لشؤون العامة وبذل الوسع في تحصيل الغرض والغاية القصوى، وهذا يستلزم توفر مهارة ودراية وملكات فن التصور والتدبير والتطبيق وتجنب القصور، وهذه هي السياسة.. وإذا كان العلمانيون بالنظر إلى تصوّراتهم الذهنية ومعتقداتهم الفكرية هم مدارس ومذاهب وطرائق قددا منهم المتطرفون والمعتدلون والمسلمون الجاهلون والفاسقون والملاحدة والكفار والوثنيون، كذلك الحال ينطبق على الإسلاميين منهم العوام والفقهاء والوسطيون والغالون، وحتى السلفية سلفيات فهناك حسب تصنيف بعضهم السلفية الإصلاحية، والسلفية الجهادية، والسلفية التقليدية والسلفية المعتدلة، وهناك الأخوان المسلمون وهناك أنصار السنة، وهناك جماعات الإسلام السياسي المبثوثة هنا وهناك خلال هذه الجماعات، وأنا لدي اعتراض على إطلاق هذا المصطلح (الإسلام السياسي) على جماعة المسلمين المشتغلين بالسياسة، وقد سجلت ذلك في مقالات خلت؛ لأن المقابلة تقودنا إلى أن نتصور أن هناك إسلامًا سياسيًا وآخر إسلام لا سياسي وهذا ينزلق بنا إلى تعسف فكري ومناقضة، وفي تقديري (مصطلح الإسلام السياسي) أطلقه أعداء الدين والمسلمين وتابعهم بغير إحسان، لإجهاض حركة التحرر والصحوة والانعتاق ومثله أطلقوا (مصطلح الإسلام فوبيا) يعني التخويف من الإسلام حتى لا يدرس من مصدريه القرآن والسنة. ومن الشراك المفتولة المفخخة والحيل الماكرة التي نصبها أعداء الأمة في طريق الصحوة الإسلامية تصوير جماعات الإسلام السياسي بأنهم منافقون.. إرهابيون.. متطرفون.. متشددون.. إقصائيون.. انتهازيون، وهدفهم من ذلك هو الفصل بين السياسة والدعوة والجهاد حتى غدا بعض إخواننا الدعاة وأئمة المساجد ترى أحدهم يحذر طلابه من السياسة أو الجهاد، ويكتفي بقوله: (نحن ناس دعوة فقط) وآخر سياسي لا يعير الدعوة إلاّ فضلات الأوقات، فلا همّ له بالتوحيد والتصفية والتزكية والتربية والاتباع، وثالث مجاهد تدفعه السمعة وذكر الناس فتراه لا يسعى إلى تحصيل فقه الثبات والصبر وذكر الله والدعاء واستصحاب النيَّة الصالحة عند لقاء العدو!!.. وبشرح مصطلح العلمانية بمفهومه العام أن هؤلاء الثلاثة من حيث لا يشعرون قد صاروا علمانيين.. إسلاميين علمانيين؛ لأنهم فصلوا الدين عن الحياة.. فالجهاد لا يقوم إلاّ بالولاء والبراء للدين ومنهج الدين في القتال، والدعوة لا تقوم إلاّ بالتدبير واختيار المنهج والأسلوب المناسب للحال، وهذه هي السياسة عينها. والسياسة من أعظم مقوماتها الأخلاق، الصدق والأمانة والعدل والوضوح والشجاعة والغَيرة على الدِّين والقوة في إظهار الحق وإبطال الباطل وحفظ الحقوق، وأدب الاختلاف.. إن الأدلة على أن السياسة لا تنفصل عن الدعوة كثيرة منها قوله تعالى في قصة نبي الله صالح لقومه: (إن أُريدُ إلاّ الإصلاح ما استطعتُ) سورة هود الآية (88) فالإصلاح لا يمكن أن يكون بالعمل الدعوي وحده؛ لأنه إذا فسد الناس (ما ينزع الله بالسلطان أكثر ممّا ينزع بالقرآن)، وفي قصة موسى عليه السلام ووصيته لأخيه هرون عليه السلام كما في قوله تعالى: (اخلُفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) ولعل الخلافة هنا ظاهرة فهي خلافة إمارة وحكم ونبوة و(اصلح) خلافة دعوة وفصل في الخصام وصون لوحدة الجماعة وهذه هي السياسة، ونحن نعلم أيضاً أن الله تعالى قد جمع لنبييه داؤود عليه السلام وابنه سليمان عليه السلام بين النبوة والملك، والملك سلطان وسياسة، والنبوة دعوة وسياسة، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو النبي وهو القاضي في الخصومات وهو الإمام الخطيب على المنبر.. وهو السياسي الحاكم.. وهو المربي المعلم في جامعة النبوة.. وهو القيادي العسكري المقاتل بيده الإرادة السياسية وسياسة السّلم والحرب والمفاوضات والعلاقات الدولية.. كان رسولنا الكريم سياسي داعية، وداعية سياسي وبه يُقتدى. ولذلك رؤية بعض الدعاة أن السياسة تصرف عن هموم الدعوة وتعطل مسيرتها نحن نقدر لهم حسن النية والغَيرة على تواصل الدعوة لكن الأمر يجانبه الصواب، هناك تحدّيات جديدة طرأت على الحياة لا تستدعي الجمع بين الدعوة والسياسة في ماعون واحد فحسب، بل الأمر يتعدى إلى أهمية تنظيم الصفوف في كيانات سياسية مستقلة أو متحالفة مع آخرين والمشاركة في العملية السياسية عبر آلياتها التي فرضت على واقعنا الحالي ومنها الانتخابات والمجالس النيابية ومعالجة صلاحية مصطلح أهل الحل والعقد، وتطبيق الشريعة وإصلاح حال العقيدة في بعض جوانبها، وتزكية المجتمع كل هذه القضايا لا يمكن إيجاد حل جذري لها إلاّ من خلال خوض غمار العملية السياسية، وفقًا لأطر السياسة الشرعية وهي باب واسع رحب، ولكي نصل إلى صياغة مرضية ومطمئنة لجميع أطياف الإسلاميين رفعاً للحرج الذي يجدونه نتناول بعض التحديات وكيفية معالجتها في مقالٍ آتٍ بعون الله العزيز.. { رسالة قصيرة: ونكرة مغمور (يُدعى) الله جابو سرور كتب في آخر لحظة سمى نفسه باحثًا في مجال السلام ورتق النسيج الاجتماعي سفسافاً.. ثم قال إن (عدتم عدنا) وإن كان في قلمنا أظافر وخراشات إلاّ أننا لا نرد على كل ناعقٍ، ونتذكر هنا قصص (الورل) في قيزان كردفان حين يراك ينتفخ ويُصدر صوتاً وحين تهوي عليه بالعصا (يديك الدرب) و(يقوم صُوف).. عفواً الوقت للعمل.. الوقتُ هو الحياة وهو أغلى عندنا من أن نغتاله في مساجلة مغمور (محرَّش).. نحن نقصر سجالنا دائماً مع أهل الفكر والنظر والموضوعية ولا يروق لنا مساجلة ببغاوات من عبّاد الرجال. موتوا بغيظكم. قال الشاعر: جزى الله عني عديٍ بن حاتم.. جزى الكلاب العاويات وقد فعل.