لا أدري لماذا تطلق الصحف على مدينة أم كرشولا اسم أبو كرشولا؟ من أين جاءوا بهذا الأب؟ لقد عشت منذ أن لم تكن لي أظافر ومنذ نعومة أظفاري في مديرية شمال كردفان ونحن نعرف أم كرشولا، ونعرف كذلك أم روابة وأم كريدم وأم كويكة وأم مغد وأم ضبان أو أم ضواً بان وأمبدة وأم دبيكرات وحتى أم الجميع أم درمان «وإن كانت لي مع أم الجميع هذه قصة سأرويها فيما بعد». في الخمسينيات أصدر شاعر اسمه الحاج يوسف وكان يعمل بوزارة الري في ود مدني ديوان شعر بعنوان «ديوان أسعد الجولة في رحلة المؤلف من الرهد إلى أم كرشولا». وكان ديواناً طريفاً وصف فيه الشاعر عدداً من المعالم كأن يقول: وقال يصف شجر الدليب في أم كرشولة: شجر الدليب يا لك من نبات واعتدال كعود الرمح أو كالقناة أغصانك كشعر قصرت ذوائبه أو كتفة مجنون قوي عاتي «لاحظ أنها «تفة مجنون قوي عاتي». ثم وقال يصف مساعد الحكيم في أم كرشولا ، وقال يصف تجار الرهد وأم كرشولة ثم يقدم نصيحة «غالية» لمزارعي السودان وخاصة في أم كرشولة حيث يزرع القطن : هاكم المثل المأخوذ بغالي الشروة الإنسان أحسن يغسل بصابونة كبيرة أم بحتة بروة «ومعها شرح يقول إشارة إلى قطن السودان الأبيض». وهكذا نجد أن اسم أم كرشولا توثق في أدبيات أحد الشعراء ومنذ الخمسينيات وقبلها. إن تغيير الأسماء دون داعٍ يكون خطأ في كثير من الأحيان. فعندما وزعت حكومة الرئيس المغفور له الفريق إبراهيم عبود مدينة الثورة على عهد المغفور له عبد الرحيم شنان وزير الحكومة المحلية، أطلقت عليها اسم «الثورة» ولكن بعد ثورة «21» أكتوبر جاءت الحكومة الحزبية الجديدة آنذاك وأطلقت عليها اسم «المهدية». ولكن الناس رفضوا أن يستعملوا اسم المهدية وظلوا يستعملون اسم الثورة، وظهر المتنطعون المتشدقون المتفيقهون وهم قد خاب أملهم في أن يستعمل الناس اسم المهدية، فقالوا إن الناس يقصدون الثورة المهدية، ولأن الاسم طويل نوعاً ما فإنهم يختصرونه للثورة. ونحن لا نعترض على اسم «المهدية» ولكن كان على حكومة السيد الصادق المهدي أن تختار أية مساحة من أم درمان إبان حكمه والأرض كانت واسعة «حدادية مدادية» وتوزعها للمواطنين وتطلق عليها اسم المهدية، مثلما تم اطلاق اسم الصحافة على مدينة الصحافة التي قاد حملة توزيعها الصحافي الراحل المغفور له سيد أحمد خليفة. لقد كنت مستأجراً منزلاً يوماً ما في حي «يثرب»، وهذا الحي امتداد لحي الشجرة، ولكن تمت تسميته بيثرب «لا أدري.. تيمناً بماذا؟» هل تيمناً بيثرب التي غير النبي صلى الله عليه وسلم اسمها من يثرب إلى «المدينة» وقال لأصحابه في صحيح مسند أحمد «من يقل للمدينة يثرب فليستغفر الله ثلاثاً»؟ وقد قمت ببحث قدمته للجنة الشعبية أوضحت فيه خطأ تلك التسمية وكان مما قلته: «لقد تمت تسمية هذا الحي وأطلق عليه اسم «يثرب» تيمناً باسم «المدينة» قبل الإسلام، حتى جاء رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم فغير اسمها إلى المدينة، ونهى أصحابه عن أن يقولوا للمدينة «يثرب» كما جاء في كثير من كتب السيرة النبوية، وفي مسند الإمام أحمد 4/285 إذ يقول عليه أفضل الصلاة والتسليم: «من قال للمدينة يثرب فليستغفر الله ثلاثاً». والاستغفار عادة يكون عن ذنب ارتكب، ولكن لا يستطيع أحد أن يؤكد أن ذلك التوجيه النبوي يشير إلى ذنب، فربما كان المقصود منه أن يستغفر الصحابة ليتذكروا ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وأن يتبعوا ما وجه به. والقاعدة المتبعة في كل الحالات هي ما أمرنا الله سبحانه وتعالى به في محكم تنزيله: «ما آتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا»، لأن رسولنا الكريم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. فربما أوحى الله إلى رسوله أن يبدل اسم يثرب باسم المدينة. ونحن ما علينا إلا أن نتبع هداه. وعندما نزلت الآية الكريمة: «إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر فهل أنتم منتهون» المائدة: «91». وأجاب الصحابة عليهم رضوان الله: نعم، انتهينا يا رسول الله.. ومن يومها لم يقرب أحد الخمر أو الميسر. إن تاريخ يثرب كما جاء في المراجع التاريخية المختلفة يعود إلى أزمان سحيقة وقد سميت على القائد يثرب: «تجمع معظم المصادر العربية على أن «يثرب» اسم لرجل من أحفاد نوح عليه السلام، وأن هذا الرجل أسس هذه البلدة فسميت باسمه، ومن الشائع في الحضارات القديمة أن تسمى المدن باسم مؤسسها مثل الإسكندرية نسبة للإسكندر. وتختلف المصادر العربية في عدد الأجيال التي تفصل «يثرب» عن جده «نوح» عليه السلام، وفي بعض أسماء سلسلة الآباء والأبناء، فبعضها يجعل «يثرب» في الجيل الثامن بعد نوح، فهو «يثرب بن قاينة بن مهلائيل بن إرم بن عبيل بن عوض بن إرم بن سام بن نوح». وبعضها الآخر يجعله في الجيل الخامس «يثرب بن عبيل بن عوض بن إرم بن سام بن نوح». ولهذا الخلاف أثر في تقرير أية قبيلة سكنت يثرب أول الأمر، هل هي قبيلة عبيل، أم قبيلة العماليق، ولكن المؤرخين يتفقون على أن القبيلتين سكنتا يثرب على التوالي ويختلفون من هي الأسبق. والأرجح أن قبيلة عبيل هي الأسبق. ثم جاء العماليق فأخرجوهم منها وسكنوها. ولكن تاريخها القريب يعود باختصار إلى ما قبل الإسلام، حيث هاجرت إليها قبائل اليهود بعد طردهم من بابل «وكانت «يثرب» عندما جاءها أشتات اليهود الهاربين عامرة بمجتمع يضم قبائل عربية بعضها بقية من العماليق وبعضها قبائل توافدت من أطراف «يثرب» القريبة والبعيدة. وأول من وصل «يثرب» من اليهود ثلاث قبائل هم بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع، ثم تبعتهم قبائل أخرى ونزلت بنو النضير عند وادي «بطحان» وبنو قريظة عند وادي «مهزور» وبنو قينقاع في الوسط، ثم انتشروا في أخصب بقاع المنطقة. و «يتفق المؤرخون على أن الأوس والخزرج قبيلتان قحطانيتان، جاءتا من مملكة سبأ في اليمن على إثر خراب سد مأرب، وعندما وصلتا إلى يثرب أعجبتا بما فيها من أرض خصبة وينابيع ثرة، وقد كان سكانها وخاصة اليهود في حاجة إلى الأيدي العاملة لاستثمار الأراضي، فسمحوا لهم بالنزول قريباً منهم بين الحرة الشرقية وقباء، وكانت ظروف عملهم أول الأمر قاسية وبمرور الزمن تحسنت أحوالهم، فبدأ اليهود يخافون من منافستهم، فتداعى عقلاء الطرفين إلى عقد حلف ومعاهدة يلتزمان فيها بالسلام والتعايش والدفاع عن يثرب إزاء الغزاة، فتحالفوا على ذلك والتزموا به مدة من الزمن، ازداد خلالها عدد الأوس والخزرج ونمت ثرواتهم، ففسخ اليهود الحلف وقتلوا عدداً منهم وعملوا على إذلالهم، وبقي الأوس والخزرج على تلك الحال إلى أن ظهر فيهم مالك بن العجلان الذي استنجد بأبناء عمومته الغساسنة في الشام فاستجابوا له وأرسلوا جيشاً كسر شوكة اليهود فعادوا إلى الوفاق وعاشوا فترة أخرى حياة متوازنة، ولكن سرعان ما أجج اليهود نيران الفتنة بين الأوس والخزرج فعاشت القبيلتان أوضاعاً صعبة، حيثُ أن الشحناء المتأصلة بين أهليها استنزفت دماءهم، وقطعت أوصالهم. فانتشرت الحروب التي استمرت قرابة مائة وعشرين عاماً ولم تنته حتى جاء الإسلام فأطفأها. وعندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينةالمنورة أطفأ العداوة بين القبيلتين نهائياً، وصاروا بفضل الله إخواناً، وبدأت صفحة جديدة من تاريخ المدينةالمنورة. وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقطع بين ذلك التاريخ الدامي ويبني تاريخاً جديداً من المحبة والوئام، فأطلق عليها اسم المدينة. وقد ورد اسم يثرب في القرآن الكريم في قوله تعالى على لسان بعض المنافقين: «وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم ...» «سورة الأحزاب الآية «13» كما ورد اسمها الجديد «المدينة» في القرآن الكريم ثلاث مراتٍ هي قوله تعالى: «وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق...» «سورة التوبة الآية 101» وقوله تعالى: «ما كان لأهل المدينة ومن حولهم أن يتخلفوا عن رسول الله...» «سورة التوبة الآية 120»، وقوله تعالى: «يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل...» «سورة المنافقون الآية 8»، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسماء أخرى في عدد من الأحاديث النبوية، أهمها: «طابة وطيبة» وربما يكون سبب تغيير اسمها القديم دلالته اللغوية المنفرة، فكلمة يثرب في اللغة مشتقة من التثريب. ومعناه اللوم الشديد أو الإفساد والتخليط «لسان العرب مادة ثرب» وقد شاع اسم يثرب قديماً. ووجد في نقوش وكتابات غير عربية، فظهر في جغرافية بطليموس اليوناني باسم يثربا (YATHRIPA)، وفي كتاب اسطفان البيزنطي باسم يثرب (YATHRIP)، وظهر اسمها في نقش على عمود حجري بمدينة حران «اتربو»، (ITRIBO) أ. ه. ولكن كعادة أهلنا في السودان وجيناتهم المقاومة للتراجع لا يحب الناس التراجع مهما كان.. فظل ذلك الحي يحمل اسم يثرب وظل اليثربيون لا يفقدون إلا سوى عدم رؤيانا ومشاهدتنا المرضية. وتداعى الحديث عن أم كرشولا التي غيرتها أجهزة الإعلام إلى أبو كرشولا. ولكن أجهزة الإعلام لم تجرؤ على تغيير اسم أم درمان إلى «أبو درمان». والشخص الوحيد الذي غير اسم أم درمان إلى أبو درمان هو سعودي صاحب مؤسسة في جدة. ركب لافتة ضخمة لمؤسسة أبو درمان . فقابلت أحداً من العاملين معه وسألته عن فحوى ذلك الاسم فقال لي: - حنا لا نسمي المؤسسات بأسماء الحرمات. هذا لا يجوز. «انظر الصورة». فقلت له: يعني إنتو لقيتوا لأم درمان راجل هنا؟ وأظنه من المغتربين الأوائل. طيب أنا بديك أسماء عايزك تفتش لي رجالهم وين مكانهم: أكتب عندك.. أم جر، أم روابة، أم كرشولا، .. إلخ ... ويبدو أن الإعلام وجد «راجل» أم كرشولا هنا .. ولسع ما اغترب. المهم أم كرشولا ولا أبو كرشولا .. أم روابة ولا أبو روابة... أرجو أن تتوقفوا عن السؤال: هم كيف وصلوا أم روابة أو أم كرشولا؟ لأن هناك سؤالاً مازال معلقاً في فضاء تساؤلاتنا دون أن نحصل له على إجابة: هم كيف وصلوا أم درمان أو أبو درمان؟