عذراً أيهاً الباسل الصنديد أن أتجرأ وأكتب عن ملاحمك التي لا تنتهي، عذراً لو سال مداد قلمي في الثناء عليك، فهو مهما بلغ من الفصاحة وحسن البيان لما أوفى بمثقال ذرة من دمك الطاهر الذي سال ليؤمن الحياة للآخرين فشتان بين سيل المداد ومسيل الدم!! عذراً أيهاً الباسل فأنت أكبر من أن يكتب عنك قلمي، ولكن المداد سال تحت ضغط المشاعر التي أطلقت عنان البيان فما كان للقلم إلا أن يرسمها بالكلمات!! ليس غريباً على جيشنا المغوار حماية الأرض والعرض والعقيدة، فقد حمى من قبل دياراً غير داره وأهلاً غير أهله، فكيف به إذا مس الخطر أرضه وعرضه وعقيدته!! وأدلل بحديثي هذا عن واقعة حدثت في ستينيات القرن الماضي، فقد كان بواسلنا في طليعة قوات الأممالمتحدة في الكنغو والتي أشعلت فيها بأيدي الاستعمار الغربي حرب أهلية، وكانت قوات الجيش السوداني تدافع عن ذلك البلد، الذي اعتبره الاستعمار من ضمن ملكية ملك بلجيكا ليوبولد وبلغت المؤامرة اغتيال الأمين العام للأمم المتحدة داج همر شولد وهو أميز أمين عام مر على المؤسسة الدولية منذ انشائها وحتى اليوم!! الجيش السوداني وضع من ضمن مهامه حماية أسرة باتريس لوممبا بعد أن اختطفته المخابرات وأعدمته ثم وضعت جثته في حوض مليء بحامض الكبريتيك حيث ذابت الجثة!! ولم يعثر لها على أثر، ولم تجد أسرة لوممبا يداً حنوناً إلا يد الجيش السوداني، وإلا لعانت من ذات المصير!! انتشلت أيادي الجيش السوداني تلك الأسرة المكلومة ووسط دهشة العالم وصلت إلى مطار الخرطوم، وبقيت عدة أيام في ضيافة حكومة السودان، وبطلب من الحكومة المصرية نقلت الأسرة إلى القاهرة فقد كانت الأمم مصرية الجنسية!! باتريشيا لومما كانت صغيرة في سن الثالثة أو الرابعة نجت الابنة الوحيدة لباتريس لوممبا وكان طوق نجاتها هو جيش السودان الأبي. تعلمت باتريشيا لوممبا في مصر وأجادت اللغة العربية إجادة أهلها من ذوي العلم بقواعدها ونحوها، حتى أصبحت وزيرة الثقافة في وزارة الرئيس كابيلا!! باتريشيا لم ولن تنسى فضل السودان وجيشه المغوار عليها، كما لن تنس حرائر السودان فضل قواته المسلحة عليهن، فالذي يتصدى لحماية الآخرين لا عجب إن تصدى لحماية أهله في أبوكرشولا وغيرها من بقاع السودان الواسع!! التاريخ سجل لذلك الباسل مآثر كثيرة في فلسطين والعلمين وكرن وفي كل مكان كان له فيه موطئ قدم، وصمام الأمن لأي بلد يتجسد في قوته، وجيشنا في هذه الظروف الصعبة استمد من الضعف قوة أثارت إعجاب الآخرين والفخر لأهل السودان إلا من أبى!! يكفي أنه ولا يزال يحمي خط الدفاع الجنوبي للوطن العربي وشمال إفريقيا وحده، فشمال إفريقيا يمثل الثقل السكاني العربي وأكثرهم استنارة وعلماً من الآخرين، فإن أوتي السودان من جنوبه فإن ذلك يمثل بداية النهاية لشمال إفريقيا العربي المسلم الذي فعل به الربيع العربي الفعائل!! الجيش السوداني يتحمل كل هذه المسؤولية وكل العبء وهو صابر ومحتسب!! وتلك نظرة حكام المسلمين كعمر بن عبد العزيز الذي بلغه خبر أسير مسلم لدى قيصر وكان قد أغراه بالارتداد عن الدين الإسلامي وبلغ الإغراء أن وصل إلى نصف ملك قيصر فرفض الأسير كل الإغراءات، وبدأ مسلسل التعذيب والأسير متمسك بدينه وعقيدته!! بلغ خبر الأسير الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز، لم يشجب ولم يستنكر ولم يشتكِ لمجلس الأمن ولا لحقوق الإنسان بل أرسل رسالة عابرة للقارات كان أثرها على قيصر أشد من صاروخ كروز وإليكم نص الرسالة الصاروخية: «أما بعد... فقد علمنا بأمر أسيرنا لديكم، ابعث به إلى من فورك، فو الله إن لم تفعل لأرسلن لك جيشاً أوله عندك وآخره عندي»!! قرأ قيصر الرسالة فارتجفت أوصاله، فهو يعلم تماماً أن عمر إن قال فعل، فهو المسلم الذي لا يخشى إلا الله، إنه عمر حفيد عمر بن الخطاب الذي كتب بدوره إلى كسرى قائلاً «أسلم تسلم وإلا لأرسلن لك رجالاً يحرصون على الموت بأكثر مما تحرص أنت على الحياة»!! واستنجد كسرى بإمبراطور الصين الذي ردّ عليه قائلاً: (هؤلاء رجال لا قبل لي بهم هؤلاء رجال لو أرادوا خلع الجبال لخلعوها) «يعني بالبلدي كدا أكل نارك براك».. ونعود لقصة الأسير الذي أمر قيصر بإحضاره وأفرد له عربته الملكية لتقله إلى دمشق مع قافلة محملة بأثمن الهدايا وعاد الأسير معززاً مكرماً، وكما تصدى ابن عبد العزيز عليه رضوان الله لحماية فرد واحد من أمة الإسلام، يتصدى بواسلنا في الجيش لحماية الأمة في السودان!! قبل أعوام كتبت مقالاً في صحيفة «الإنتباهة» بعنوان «كن عمراً يا عمر» وأوردت فيه قصة الخلاف بين الفاروق عمر عليه رضوان الله وسيف الله خالد، وقد بلغ الأمر أن شكل الفاروق رضي الله عنه محكمة كان المتهم فيها هو «يا سبحان الله» والشاكي سيف الله خالد بن الوليد، المحكمة العليا كانت برئاسة عبد الرحمن بن عوف عليه رضوان الله، كل يلقي بحجته وأثناء المحكمة جاء ساعي البريد برسالة عاجلة لأمير المؤمنين، قرأها عليه رضوان الله وأعطاها لرئيس المحكمة ليقرأها على الحضور «فهو الرئيس في هذه اللحظة» وجاء في الرسالة أن أسطول الروم يقترب من شواطئ جدة في هذه اللحظة وقف خالد وهو الشاكي، وطلب من القاضي حفظ القضية وبرر ذلك بأن الخطر القادم على الدولة وعلى الجميع، وطلب من أمير المؤمنين أن يسمح له بالجهاد جندياً لا قائداً وتحولت المحكمة إلى هيئة أركان، وبينما كانت الخطط ترسم والاستعدادات تُقام جاءت رسالة أخرى مفادها أن الأسطول الروماني كان يريد التزود بالماء فأخذ كفايته وغادر المياه الإقليمية!! قلت في المقالة أن خالداً الآن موجود ومولود، وأصدقكم القول أنني تلقيت عدداً لا يحصى من المحادثات التليفونية من ضباط معاشيين مستعدون في أية لحظة لحماية الوطن والأرض والعرض والعقيدة!! هذا هو جيشنا وهؤلاء هم أبناؤه كل منهم يمثل خالداً في صفاته حتى أولئك الذين غادروه، غادروه بأجسادهم أما أرواحهم فقد بقيت هناك تجسد خالداً في أروع صوره!!