قال الكاتب: «بل كان السلف يعظمون ذكر الصالحين ناهيك عن النبي صلى الله عليه وسلم» قلتُ: المعروف إذا ذكر العلماء والأئمة والزهاد والعباد وأهل الخير فإنه يترحم عليهم ويدعى لهم بالخير، وتذكر أعمالهم الفاضلة ليقتدي الناس بهم. وقد قال الله تعالى: «والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان..»، وقد أشرت في الحلقة الماضية إلى غلو المتصوفة في النبي عليه الصلاة والسلام حتى أعطى بعضهم حق الله تعالى له كإشفاء المريض وإجابة المضطر ومغفرة الذنوب وغير ذلك، وهنا نقطة مهمة بحاجة إلى بيان وهي أن القوم يمدحون النبي عليه الصلاة والسلام بأبيات عابرة وكثير منها يتضمن الغلو والإطراء المنهي عنه!! إلا أن الجهد الأكبر لديهم والنظم الأكثر في الغلو وصرف حق الله وخصائصه للمخلوقين إنما هو في مدحهم للشيوخ أو مدح الشيوخ لأنفسهم! فتجد المنثور أو المنظوم في القصائد يبدأ أحياناً بالثناء على الله والصلاة والسلام على رسوله عليه الصلاة والسلام ثم يكون بعد ذلك إعطاء خصائص الألوهية بل الربوبية أحياناً لأولئك الشيوخ، ومن باب: «البينة على المدعي» فأورد الأبيات التالية: من نماذج ذلك مما هو منشور في كتب الطريقة البرهانية، مما قاله الدسوقي: يقول الدسوقي «ديوان ابتسام المدامع طبع الطريقة البرهانية ص 295 -297»: وكل نعيم إنني منعم به == هو لي ملك ومن ثم راضع وكل هدى في العالمين فإنه == هداي ومالي في الوجود منازع أصور مهما شئت من عدم كما ==أقدر مهما شئت فهو مطاوع وأفني إذا شئت الأنام بلمعة == وأحيي بلفظي ما حوته البلائع وفي البحر لو نادى باسمي حوتُه== أجبت وإني للمنادين سامع إلى أن يقول: وإن طباق العرش تحت قوائمي == ورجلي على الكرسي ثم ترفع وبيتي سقف العرش هناك فليكن == مكاني ومن فيضي خلقت المواضع وأجري على اللوح المقادير ما أشا== وبالقلم الأعلى فكفي بارع وكل معاش الخليقة تجريه راحتي==لراحتهم جوداً ولست بصانع وأمحو لما قد كان في اللوح ثابتاً ==وأثبت إذا وقعت هناك وقائع ويقول محمد عثمان عبده البرهاني في ديوان شراب الوصل «ص3 »: أجود على أم لترحم طفلها== فرحمة من في الكون من بعض رحمتي وأنفخ في روع المريد فينتقي==جواهر علم الأولين بنفختي ويقول محمد عثمان عبده البرهاني في ديوان شراب الوصل «ص45»: وأحصيت أنفاس الخلائق كلها==والكل عندي شاهق وزفير ويقول أيضاً في ديوان شراب الوصل «ص218:» إذا ما الأمر كان على رضانا==يكون كلامنا كافاً ونونا ويقول أيضاً في ديوان شراب الوصل «ص4»: ولي كتب الأسرار أشهد ما بها==وإني عبد والعباد رعيتي وإن علوم الله في اللوح كلها==أطالعها من باب قوس الحظيرة ويقول الدسوقي «ديوان ابتسام المدامع «ص278»، جوهرة الدسوقي «ص389»: أنا العرش والكرسي واللوح والقلم==أنا الخمرة الصهباء لمن كان شارب أنا الحب والمحبوب والكأس دائر== وإني ولي التصريف أنت المخاطب ولننظر إدعاءه: «وإني ولي التصريف» ويقول أيضاً كما في ديوان: ابتسام المدامع ص 279: ملكت بلاد الله شرقاً وغرباً==ولو شئت أهلكت الأنام بلحظة ويقول في نفس الصفحة: مريدي لك البشرى إذا قمت بالوفا==إذا كنت في هم أغثك بهمتي ويقول في «ص 283»: تملكت تصريف البلاد بأسرها==حلفت وبالكرسي أجليت نائبي وفي «ص285» يقول: وشاهدت ما فوق السماوات كلها==كذا العرش والكرسي في طي قبضتي وكل بلاد الله ملكي حقيقة==وأقطابها من تحت حكمي وطاعتي ومن نماذج ذلك مما ورد في كتب الطريقة الختيمة، فقد عرفوا بأنفسهم في كتاب الأنوار وشرح التوسل بأسماء الله الحسني «ص228» بقولهم: يا معشر الخلق من جنٍّ ومن بشر==هل تنكروا فضلنا أم تجحدوا قدرنا نحن الملوك وكل الملك أجمعه ==أعلاه وأسفله في طي قبضتنا والأنبياء وجميع الرسل قاطبة ==من رشح نور بدا من ذات واردنا وجود آدم منا كان منشؤه==جمال يوسف من أنوار بهجتنا طوفان نوح لولا تداركنا==لأهلك الخلق إجمالاً وحرمتنا نار الخليل خبت من ريق تفلتنا==ونار موسى أضاءت من محاسننا أيوب لما دعانا عند بلوته ==أجابه الله إجلالاً لدعوتنا نحن المراغنة الأخيار من قدم==الختم منا وغوث الكون خادمنا ومن نماذج ذلك مما ورد في ديوان «جامع الشطحات» لإسماعيل الولي شيخ الطريقة الإسماعيلية حيث قال في بداية هذا الديوان: أنا القطب من قد جاءني أعظم الندا==بأنك فرد الوقت نور الدجنة ولو أن من سري على جبل بدا==لذاب ودك اليوم أعظم دكة ولو قطرة منه على النار قد بدت==لقد أخمدتها شعلة بعد شعلة أنا من رحيق السر أسقيت شربة==بها صار أهل العصر كلاً رعيتي وحكمت فيها جملة وملكتها==ودقت طبولي حيث شاعت سيادتي وإن حكمي في العوالم دائر==وصار جميع الكون في طي قبضتي ولو أنني خاطبت بالسر ميتاً==لخاطبني حالاً بأحلى مقالتي وكل خشاش الأرض يعرفني بلا==توسط شخص بل وهم تحت طاعتي إلى قوله: وألبسني مولاي حلة قهره==وأيدني دنيا وأخرى لصولتي وخيرني في الكون مهما أشأ يكن==فلا أحد غيري يفوز بخلعتي إلى قوله: أنا من رآني الله بفضله==مقامات أصحابي جميعاً بجنة وقد قال لي انظر هل لك الآن صاحب==له منزل في النار يا ذا الهداية وشاهدتها حالاً ولم أُلف منزلاً==لأصحابنا فيها وبؤت بفرحتي فمن جاءني بالصدق أقبله وإن==به كل وزر لا يبوء بخيبة إلى قوله: أيا صاحب ابشر بي فإني حاضر==إليك إذا ناديت في كل شدة ومهما ترمني في النوائب كلها==فنادي بيا إسماعيل كشف المهمة ومن نماذج ذلك من إحدى القصائد المشتهرة في وسائل الإعلام وهي قصيدة «التمساح» فقد ابتدأت بيا رحمان ارحم بي جودك.. لكن بعدها جاءت الاستغاثة في «الكرب» للأموات.. والذي منه قوله: شي لله يا ذات التجلي ==صاحب السر والفتح الكلي يا الغوث البي الكون «متولي==التصريف» هيلك عجلي وينكم لي وينكم يا كُمَل==«يا لُحّاق» فيكم بتأمل يا الفوت البي الكون اتحمل==عرض الدار راح «يتهمل» شي لله يا حسن البصري صهيب الروم ذا النون المصري يا الدباغ يا أبوسراً يسري==يا ابن المحجوب الناس متحسري يا ياسين يا ود حميدة==يا أهل القبة الباقية فريدة انتو ما أبطيتو أكيدة==ما بتغلبكم هذي الصيدة ومن النماذج ما ذكره البرعي عن أبيه بقوله: يرى بالغيب ما يخفى علينا==ويسمع صيحة القاصي المكلم ألا يا من تريد الوصل شمر ==وقف بالباب صامت لا تكلم وادخل بالخضوع بغير كبر==وعند مقامه ابرك وسلم لتحظى بالفيوضات العوالي==عياناً وبعضها في النوم يحلِّم وأما المنثور فهو كثير جداً وحسبك بكتاب طبقات ود ضيف الله لترى ما كتب فيه من تصرف الشيوخ في الكون ولتقرأ زعم الشيخ خوجلي أنه نازع ملك الموت في روح فاطمة بنت عبيد فتركها له ملك الموت وذهب !! ولك أن تطالع كتاب أزاهير الرياض لعبد المحمود نور الدائم يقول ص155: «من حصل به هم فليقل يا أحمد الطيب يا أحمد البدوي فلا يرى هماً بعد هذا» .. وفي ص127 ما يلي: أنا لمريدي جامع لشتاته ***وأخرجه من كل شر وفتنة تمسك بنا في كل هول وشدة***أغثك في الشدات طراً بهمتي مريدي إذا ما كان شرقا ومغرباً***أغثه إذا ما صار في أي بلدة» ... وفي ص156 من كتاب أزاهير الرياض قال: «ذكر سيدي عبد الوهاب الشعراني في ترجمة الشيخ محمد الزينبي قال: لما ضعف ولده وأشرف على الموت حضر عزرائيل لقبض روحه فقال الشيخ للملك: ارجع إلى ربك فراجعه فإن الأمر قد نسخ، فرجع عزرائيل ولم يقبض...» وفي أزاهير الرياض ص56 يقول: «إن سريّة الشيخ أحمد الطيب البشير التي أهداها إليه الشيخ ناصر ولد أبي الكيلك، لما توفيت ودفنت كان الشيخ جالساً على شفير قبرها فلما حضر الملكان زعق بهم الشيخ زعقة عالية ثم قال: يأبى الله ورسوله أن يفتن أو يعذب جسماً التصق بجسدي، فسئل عن ذلك فقال إن الملكين أرادا أن يفتناها فنحيتهما عنها...». وفي ص 183 من نفس الكتاب ذكر أن من رأى «سُرَّة» الشيخ لم يدخل النار.. ويقول في أزاهير الرياض ص74: «وكان الولي الصالح الزاهد الفقيه الأمين ولد دفين أبي عشر قد سمع رجلاً بحضرته يقول: زيارة سيدي الشيخ الطيب هي الحج الأصغر فقال له: ليس كما قلت بل زيارته الحج الأكبر، هكذا سمعته من شيخنا». وغير ذلك من الغلو في الشيوخ وإعطائهم حق الله تعالى وحده وهو للأسف مطبوع في الكتب ومنشور في الآفاق.. فالمسألة ليست تعظيماً للصالحين كما أراد أن يوهم الكاتب، وإنما هي عبادة وتعدي على حق الله وإعطائه لمخلوقين ضعفاء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيرهم، وهو لمن علم أكبر جريمة تقع على أرض الله. وأواصل في الحلقة التالية إن شاء الله.