علي البصير/ عبد الرحمن صالح: ظلت غابة السنط الواقعة على الضفة الشرقية للنيل الأبيض بالقرب من ملتقى النيلين، واحدة من أعرق المحميات الطبيعية بولاية الخرطوم، وتقدر مساحتها وفقاً لمسوحات الهيئة القومية للغابات بحوالي «1500» هكتار.. هذا الموقع المميز في قلب العاصمة والمحمي بشريط نيلي مع انتشار كثيف لأشجار السنط جعل من هذه البقعة موقعاً سياحياً قل أن تجده في مكان آخر، والسؤال هل استفاد أهل الولاية من هذه الغابة لأغراض السياحة والترويح والتوازن البيئي، أم أن هناك استخدامات أخرى لغابة السنط؟ والشق الآخر من السؤال تجيب عنه «الإنتباهة» من خلال رصدها لواحدة من أكبر عمليات التمشيط الأمني التي نفذتها قوة تتبع لشرطة أمن المجتمع بولاية الخرطوم. حقيقة الغابة قبل أن نفصِّل عملية التمشيط وإزالة المخالفات فإن الهيئة القومية للغابات تؤكد بأن غابة السنط قد تم ضمها في العام 1939م إلى منظومة المحميات الطبيعية، وهي عبارة عن نطاق تقليدي حيوي طبيعي تتكون معظم أشجارها من السنط الذي يتميز بمقاومته العالية لمياه الفيضانات والتي تغمر الغابة في الفترة من يوليو وحتى سبتمبر إضافة إلى بعض الأعشاب والحشائش التي تنمو في أجزاء متفرقة من الغابة عقب الفيضان، وتعتبر الغابة مأوى للعديد من الطيور المستوطنة والمهاجرة مثل الأوز، طير البقر، خطاف البحر، أبو منجل، البط، النورس البحري ومالك الحزين، والتي في معظمها تعتبر طيوراً نادرة إضافة إلى العديد من العصافير والطيور المستوطنة في مناطق السافنا الفقيرة «إقليم الغابات السنطية» كما تزخر الغابة بعدد من الزواحف والحشرات والحيوانات البرية الصغيرة التي في مجملها تثري الحياة الطبيعية وتزيدها حيوية داخل الغابة. كل ذلك جعل من غابة السنط منتجعاً طبيعياً لسكان الخرطوم وزوارها فهي تشكل حلقة من حلقات التوازن البيئي في المنطقة، وتساعد في تلطيف الجو وامتصاص العديد من الغازات والسموم التي تفرزها العربات ومدافن المصانع في الجو، كذلك تمثل مكاناً مناسباً للرحلات وقضاء أيام العطلات والأعياد، حيث يتميز ذلك الجزء الذي يطل مباشرة على النيل الأبيض بأشجاره الباسقة المتشابكة التي تدوزن مع أمواج النيل وشقشقة العصافير لوحة طبيعية تأسر الألباب وتتيح للإنسان فرصة نادرة للانعتاق من ضجيج المدينة وصخبها إلى سكون الطبيعة ونقائها.. كل تلك العوامل والمقومات جعلت من غابة السنط إرثاً طبيعياً يمكن توظيفه لأجل خدمة وتنمية السياحة البيئية التي أضحت منذ العام 1990م واحدة من أهم الأنشطة السياحية التي تهدف لتحقيق التنمية السياحية المستدامة، حيث أن السياحة الجماهيرية قد ساهمت في العديد من أقطار العالم في تدمير البيئة الطبيعية الشيء الذي تطلب ابتداع أساليب ومفاهيم سياحية جيدة تتناسب واحتياجات الإنسان في الوقت الراهن، وعليه فإن الاهتمام بغابة السنط وتوظيفها لخدمة السياحة البيئية يسهم كثيراً في تنمية النشاط السياحي بالولاية، وتكون هذه التنمية بالمحافظة على المخزون الطبيعي الذي حظيت به الغابة وتنظيم الرحلات بحيث لا تؤثر سلباً على المحيط الحيوي للغاب. ما خُفي أعظم لم تعد غابة السنط كما تحدثت عنها الهيئة المختصة، بل تحولت لواحدة من أخطر المهددات الأمنية، وصارت وكراً للجريمة ومرتعاً للرذيلة ومكاناً لترويج المخدرات والخمور البلدية، ومأوى للنازحين ومعتادي الإجرام، وشهدت الغابة خلال الفترات الأخيرة أحداثاً تناولتها مجالس الرأي العام، لذلك كان لا بد من خطة أمنية وإجراءات صارمة تعيد إلى الغابة طبيعتها. ماذا يحدث؟ عند المدخل الرئيس للغابة وعلى شريط النيل تبدو الغابة كمنتجع سياحي للأسر وحولهم مجموعة من الباعة، ستات شاي وحاجَّات فول وتسالي وبائعات الساندوتشات وغيرها، دخلنا الغابة حوالي الثانية ظهراً هناك رحلة لطلاب ثانوي يلعبون ويمرحون بالزي المدرسي، بالقرب منهم طالبات مرحلة ثانوية بزيهن المدرسي، بصحبة معلمتهن على ما يبدو.. بالنظر هنا وهناك ترى عدداً من السيارات المتفرقة ومعظمها حافلات وكريس وقليل من المركبات الخاصة. تحيط بالغابة من كل أطرافها ستات الشاي اللائي يوزعن كراسي الاحتساء في أجزاء متفرقة من الغابة وبعيداً عن نظرهن... وهذا هو المشهد العام للغابة من الأطراف. بلاغات جنائية تقدم عدد من الفتيات والشباب في أوقات مختلفة ببلاغات جنائية تتعلق بالابتزاز حيث جاءت إفاداتهم بأنهم تعرضوا لابتزاز وعمليات نهب داخل الغابة. وقالت طالبة جامعية فيما دونته الشرطة إنها كانت تذاكر مع زميلها فتعرض لهما شخصان ادعيا أنهما يتبعان للمباحث بأمن المجتمع وابتزوهما ونهبوا هاتفها السيار وبعض المبالغ المالية التي كانت بحوزتها... بلاغ آخر في ذات الاتجاه حيث قالت أخرى إن أحدهم خطف سلسل ذهب من عنقها ولاذ بالفرار، وتقول أخرى إنها اغتصبت داخل الغابة والكثير من البلاغات. إجراءات شرطية بعد تزايد بلاغات النهب والسرقة والابتزاز والاغتصاب نفذت الشرطة حملات واسعة داخل الغابة وقد أسفرت الحملة عن ضبط تجار للمخدرات وأوكار معدة للرذيلة وضبطت كميات كبيرة من الخمور البلدية، وظلت تراقب الغابة من حين لآخر وقد صادفت جولتنا وجود قوة تتبع لمباحث شرطة أمن المجتمع وهي تقوم بواجبها تجاه إزالة المخالفات ومنع ارتكاب أية جريمة. رؤية من الداخل ظللنا نراقب هذه القوة وعلمنا أنهم موزعون على أربع مجموعات، وأنهم يقومون بعملية تمشيط واسعة سيراً على الأقدام في كل هذه المساحات الواسعة من الغابة وبتشكيلة أمنية مُحكمة حيث تمت تغطية الغابة بأكملها خلال خمس ساعات وحققت نتائج إيجابية. الأفعال الفاضحة توغلت القوة لوسط الغابة التي تناثرت فيها كراسي ستات الشاي وبعض الحجارة حيث تم تقديم الإرشاد لأكثر من «29» حالة تم ضبها في موقع مخل بالآداب وحقيقة كانت عناصر هذه القوة تنتهج أسلوب الإرشاد والنصح، فقد وجدت شاباً وفتاة وقد تلاصقت أجسادهما على حجر وسط الغابة فتم نصحهما بالمغادرة، وقال أحد الأفراد للشاب ما رأيك إن كانت أختك أو أمك تحت الشجرة الأخرى؟ غضب الشاب وقبل أن يرد قيل له ما لم ترضه لأمك وأختك فلا ينبغي لك أن ترضاه لبنات الناس.. وقال للفتاة «لن نفتح لك بلاغاً بس نسلمك لأبوك أو أخوك فما رأيك؟» امتلأت عينا الفتاة بالخوف وقبل أن ترد قال لها ما لا يرضاه أولياء أمورك يجب ألا تقدمي عليه. نحن هنا لحمايتكم ماذا أنتم فاعلون لو داهمتكم مجموعة من المتفلتين وابتزتكم وفعلت بكم الأفاعيل؟ اخرجوا من هنا واجلسوا في مكان عام... هكذا تم نصح جميع الحالات المنحرفة، خرج الجميع من الأوكار وهم مطاطئ رؤوسهم. «عرقي الغابة» بالغابة من الناحية الأخرى تقبع مساكن عشوائية ممتدة على الشريط الشرقي للغابة وقد جعلت منها مجموعات من الجنوبيين أوكاراً لترويج الخمور وبيعها، لاحظنا أنها كجزر معزولة بالغابة، اقتربنا منها وجعلنا الكاميرا تتحدث عن ذلك، ومما لاحظناه أنها منطقة عشوائية تسيطر عليها بائعات الخمور بدليل وجود كميات كبيرة من الكريستالات التي تفوح منها رائحة العرقي، ومن خلال الملاحظة يتضح أن الخمور تأتي هنا وقد تم تصنيعها في مكان آخر، وتروج بواسطة أطفال يحملونها للزبائن، فصاحب الطلب يأتي لهذه العشش والرواكيب ثم يؤتى له بها في الغابة وقد حملها طفل لم تتجاوز سنه الخامسة أو الثامنة. والشيشة لسه مدورة خلال تلك الجولة ومن الداخل رأينا مجموعة من ستات الشاي يحضرن الشيشة لبعض الشباب وبكميات كبيرة، وهو مظهر لا يخلو من مخالفة أخرى فقد تم توجيه الشباب بعدم تدخين الشيشة في الغابة ولخطورة النيران التي يمكن أن تشعل حريقاً لا يمكن السيطرة عليه.