قل ما يطالع المتابع لمجريات السياسة في بلادي ما يسر من الأخبار، حيث أصبح ذلك في حكم النادر فما يحزن فيها أكثر بكثير مما يسر نسأل الله تعالى أن يُذهب عنا الحَزَن ويبدل أحزاننا أفراحاً، ومحننا أعياداً إنه على كل شيء قدير. الأربعاء الماضي طالعت خبراً ملفتاً احتفت به صحف ذلك اليوم بعث في النفس السرور والاطمئنان، فكان استثناءً على القاعدة. حيث أعلن فيه حزبا المؤتمر الشعبي والإصلاح الآن رفضهما المشاركة في أية لقاءات خارجية تتعلق بالحوار حول قضايا البلاد الداخلية وإعلانهما التمسك بالحوار الوطني داخل السودان. لقد حالف التوفيق قيادتي الحزبين في هذه الخطوة التي تعتبر بكل المقاييس نقلة نوعية ذكية وشديدة الأهمية على ساحة السياسة السودانية، وربما لو نجحت في الصمود والتمدد في أكبر مساحة منها لتتبناها بقية القوى السياسية يكون ذلك فتحاً مبيناً واختراقاً مهماً سيمثل نقطة تحول جديدة في مسار السياسة السودانية من ضيق التدويل ومساوئه التي أرهقت البلاد إلى رحاب التوطين ومحاسنه وميزاته العديدة التي افتقدها السودان طيلة العقدين الماضيين. وواقع السياسة الحالي بالبلاد يشهد انفراجاً ملحوظاً منذ إعلان الحكومة عزمها الدخول في حوار وطني شامل مع كل الكيانات السياسية ومنظمات المجتمع المدني دون شروط ودون سقوف، واتبعت ذلك بعدد من الخطوات على الأرض لتعزيز عزمها والتأكيد على نيتها القوية على إنفاذ الحوار، رغم ما حدث لهذه الخطوات من عثرات كادت تقضي عليها، لولا أن تداركتها بقدر من التنازلات والمراجعات انعشت الآمال في إمكانية السير قدماً نحو غايات الحوار. هذا الانفراج في تقديري يمثل بيئة صالحة ومواتية كي تتنادى كل القوى السياسية بالبلاد من الداخل ومن الخارج بما فيها تلك التي تحمل السلاح إلى مائدة مستديرة للحوار داخل حدود الوطن، ولا أعتقد أن هناك أزمة ثقة حقيقية حالياً بين الحكومة والحركات المسلحة تحول دون قدوم قادة وممثلي هذه الحركات للبلاد من أجل الحوار وخروجهم وعودتهم مرة اخرى، فقد ألمحت مصادر حكومية عديدة إلى ذلك وعبرت عن إمكانية توفير ضمانات قوية لهؤلاء القادة بالعودة للبلاد والخروج منها دون أن يترتب علي ذلك أي نوع من الملاحقات أو المضايقات. إن التعقيد والاحتقان الذي وسم الحياة السياسية في البلاد منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي كان في جوهره ناتجاً عن عبور قضايا السياسة السودانية الداخلية للحدود الى ما وراء البحار على أيدي المعارضة السودانية بمختلف مكوناتها، وكان لها وزر نشر غسيل الخلافات والتدافع السياسي بينها وبين الحكومة على حبال الحكومات والمنظمات الدولية والمؤسسات الأجنبية المشبوهة في الغرب تحديداً والتي تلقفتها ووجدت فيها ضالتها المنشودة فأصبح الشأن الداخلي السوداني وقضاياه الوطنية محل مساومات دولية وسلعة تباع وتشترى بأثمان بخسة في سوق السياسة الدولية، وفي أمريكا على سبيل المثال كانت قضية دارفور في مقدمة قضايا السياسة الداخلية لإدارة الرئيس جورج بوش الابن حيث تم استغلالها لتحقيق مكاسب سياسية خاصة بالحزب الجمهوري، وقد تم استغلال قضية دارفور بعد توصيفها عمداً وزوراً بالإبادة الجماعية في الدعاية الانتخابية للرئيس بوش، حيث نجح في الفوز بفترة رئاسية ثانية بفضل توظيف هذا التوصيف. وكذلك الحال بالنسبة للرئيس الديمقراطي الحالي باراك أوباما حيث كانت قضية دارفور النقطة التي انطلق منها نحو الدخول في السباق الرئاسي ومن ثم الفوز فيه. فالسودان تضرر كثيراً بفعل نقل المعارضة لقضاياه الداخلية إلى أضابير وموائد اللئام في العواصم الغربية، فضرب مصنع الشفاء والعقوبات الاقتصادية الأمريكية وتضمين اسم السودان على لائحة الإرهاب وتدويل قضية دارفور وقضية المحكمة الجنائية الدولية والتمرد في جنوب كردفان والنيل الأزرق وفصل الجنوب وزرع قطاع الشمال، كل أولئك كان بسبب لجوء المعارضة للخارج واحتمائها واستقوائها به ضد الحكومة، ولقد سمعت شخصياً من الدكتور لام أكول السياسي الجنوبي المعروف شهادة قال إنها للتاريخ أطلقها الرجل بشجاعة ودون حرج بعد أن غادر كرسي الوزارة معزولاً من قبل الحركة الشعبية، حيث ذكر في أحد المحافل السياسية بالخرطوم قبل نحو ست سنوات أنه لاقى عنتاً شديداً عندما كان وزيراً للخارجية في إقناع مسئولي ملف السودان بالخارجية الأمريكية بأن ما كانوا يمدونهم به من معلومات سالبة عن الحكومة السودانية كان من باب الكيد السياسي وأن أغلبها كانت محض أكاذيب من أجل إدانة الحكومة السودانية ليس إلا!!