هيئة الإذاعة البريطانية «بي. بي. سي» أنجبتها عقلية أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، اتساقاً مع مستحقات ميلاد حقبة الاستعمار الناعم «الفكري والثقافي» التي بدأت تطل برأسها مع هدير مسيرة التحرر التي انتظمت مستعمرات أروبا في المنطقة الأفروأوسطية. وعملية التسويق لمفاهيم الثقافة الاروبية والتبشير بها هي الآلية البديلة لحماية مصالح البيض في مستعمراتها القديمة عبر سلاح الميديا وغزو الفضاء العريض. وهذه الرؤية الإستراتيجية البعيدة المدى هي التي أنجبت مؤسسات إعلامية ذائعة الصيت من شاكلة مونت كارلو وصوت أمريكا وبرلين وتطوير استديوهات لندن التي انتقلت منها العدوى إلى صوت العرب بالقاهرة ولسان العرب بالكويت ووادي النيل وهنا أمدرمان التي سبقت رصيفاتها في منطقة إفريقيا السمراء. وعلى خلفية الدور المتعاظم للإذاعة كوسيلة اتصال جماهيري قليلة الكلفة وسهلة الانتشار، شديدة الفعالية والتأثير في صهر مكونات الدولة من إنسان وتأريخ وجغرافيا وموارد، حرصت الحكومات الوطنية المتعاقبة على تشجيع قيام الإذاعات الإقليمية التي انتشرت بعدد حبات الحصى، ومن هذا الباب خرجت إذاعة نيالا في عقد الثمانينيات إلى الوجود كمحطة اتحادية برعاية مركزية كاملة الدسم لتغطي رقعة دارفور الكبرى، بجانب دول الجوار الإفريقي كتشاد وإفريقيا الوسطى ومنطقة اليمن والسعودية شرقاً وليبيا شمالاً، وتجدر الإشارة إلى أن المحطة كانت تشيكية الصنع وتعمل بنظام الصمامات بطاقة «50» كيلواط، وتم استحداثها سنة 2006م بتزويدها بمحطة جديدة بطاقة «50» كيلواط كندية الصنع وتعمل بنظام الترانسستر الحديث، وكل هذه الطفرات النوعية أهلت محطة إذاعة نيالا لتلعب دوراً حيوياً ومؤثراً في خدمة قضايا المجتمع المحلي وعلاقاته المتداخلة بدول الجوار، لدرجة بات فيها نشر الخبر وتسويقه في مدن وقرى دارفور عملية متاحة وتحت السيطرة، الأمر الذي مكن الحكومة من امتلاك زمام المبادرة في مخاطبة المجتمع المحلي وتحصينه ببرامج مدروسة ضد اختراق الإذاعات الموجهة وهي معلومة بالضرورة. وتعاقب على إدارة هيئة الإذاعة وتلفزيون نيالا عدد من المديرين الأكفاء بدءاً بمحمد صالح يس الموجود حاليا بفرنسا، ثم عبد الله الربيع الذي راح ضحية لنظرية المؤامرة فغادر ليترك فراغاً عاد على إثره يس ثانية، ولكنه ولى الأدبار هرباً من كلاب الليل واستقر نهائيا بجوار العطر الباريسي. ولأن الحياة لازم تستمر أسندت مهام الادارة للمهندس أبو بكر عبد الرحمن الذي أبلى بلاءً حسناً إبان فترة ولاية الحاج عطا المنان على جنوب دارفور، وهي الحقبة التي شهدت تسمماً في العلاقة التنسيقية الإشرافية بين محطة نيالا ورئاستها القومية على خلفية مغاضبة الخرطوم بسبب جلب محطة جديدة دون استشارة فنية مركزية جعلت إذاعة نيالا خارج مظلة الدعم الاتحادي لأغراض التشغيل والتجديدات والصيانة، فتدنى أداء الأجهزة الى معدل «20» كيلواط بدلاً من «50» كيلواط، وتعمل المحطة الآن بكفاءة 40% من طاقتها التشغيلية والتدني مستمر، الأمر الذي انعكس سلباً على برامج الإذاعة وخريطة بثها بالرغم من محاولات مستميتة بذلها الدكتور ياسر أبو عقيلة مديرها الذي أغتيل بسلاح الشائعة فغادر مأسوفاً عليه، ليحل محله سياسي ضل طريقه باعتباره من خارج أسوار المهنة والدراية بشؤون الإذاعة والإعلام والخبر، ورغم خلقه الرفيع وأدبه الجم فلا طائل من ورائه لإنقاذ الموقف لقلة المال وانعدام الخبرة وغياب عصا موسى عن مسرح الوظيفة التي أُقحِم «بضم الالف وكسر الحاء» فيها بأسلوب المحاصصة!! وفي ظل هذا الوضع المربك باتت الإذاعة تتقهر إلى الوراء حتى وصلت عتبة الانهيار مكشوفة العورة يحاصرها أصحاب الخيال المريض والطامعون، وفي كل يوم تضيق حولها دائرة الحصار حتى باتت خارج أطر الاهتمام الرسمي والشعبي والسياسي بالولاية، وإزاء هذا الوضع المتراجع لإذاعة نيالا ظهرت نوايا سيئة لابتلاعها «أرضاً وأصولاً»، وحتى لا تموت هذه المؤسسة التثقيفية التوعوية الترفيهية التبصيرية الإعلامية التوثيقية نناشد الأجهزة الرسمية المختصة بولاية جنوب دارفور «وزارة الشؤون الاجتماعية» وكل منظمات المجتمع المدني والواجهات الأهلية والشبابية والشعبية والأحزاب، أن يستجيبوا لصرخة الاستغاثة التي أطلقتها إذاعة نيالا عندما بلغ نخر دودة الخراب قلبها الذي بات مهدداً بالتوقف لنقص في المال الذي هو بمثابة الدم المؤكسد النقي.. والوالي مطالب بالتدخل الفوري المباشر لوضع حد لتدهور الموقف ونقل الإذاعة من خانة النسيان إلى الواجهة كما كانت، وما لم يتم ذلك سيكتب التأريخ على بوابة المباني الواقعة على ضفاف وادي نيالا عبارة «هنا كانت إذاعة نيالا»... وهذا ما لا نتمناه أبداً.