أصل كلمة (اقتصاد) في اللغة من (القصد) وتعني استقامة الطريق، وهي مشتقة اصطلاحاً من لفظ إغريقي قديم معناه تدبير أمور البيت، وبالتالي لا يجب أن نتخيل هذا البيت الاقتصادي المأزوم وقد دبر نفسه بنفسه هكذا فجأة ودون تفسير مقنع . خبر هبوط أسعار الدولار خلال الأيام الماضية لا يختلف عندي في الوصف والفهم عن تلك الانفراجات الخادعة والعابرة التي كانت تمر بواقع اقتصادنا الملتهب خلال الأشهر الماضية وفي ظل النظام السابق، والتي كان سعر الدولار يعود بعدها مباشرة ليحطم سقفاً جديداً من الصعود المدمر .. الأزمات الاقتصادية تحدث حين يكون هناك خلل واضطراب في تدابير البيت، وبالتالي لا يمكن أن تزول الأزمة إلا بعد علاج هذا الخلل . والعلاج يكون بخطط وتدابير صحيحة تأخذ دورتها حتى تعود الأمور إلى طبيعتها . ولو كانت هناك مستويات ودرجات مختلفة في توصيف الأزمات الاقتصادية فإن الأزمة الاقتصادية السودانية كانت ولا تزال حتى اللحظة موصوفة بأنها مزمنة وخطيرة . هي أزمة حقيقية لا يمكن أن تزول فجأة وبلا تفسير منطقي لها أو عمل محدد علمي ومخطط يعالج جذور هذه الأزمة . هي ليست مثل حرية التعبير حتى تتحقق بشعارات الاعتصام وبيانات المجلس العسكري وتنفرج الأمور هكذا فجأة في بلاد كانت متعطلة تماماً اقتصادياً ولا تزال حتى الآن.. وكما قال أحدهم (لا تجعلوا انتصار ثورتكم هو أكبر عدو لها) .. تنتظرنا مهام كبيرة وربما قاسية وعمل مضنٍ وصعيب، حتى نخرج رأس بلادنا من عنق زجاجة الأزمة الاقتصادية الخانق، فلا يجب أن نستهين بالأمور ونستدعي الفرح والابتهاج بهبوط سعر الدولار لحظياً وبلا أي مبرر مقنع..!. ولا نريد أن نتبع منهج الحكومة السابقة في انتظار ما يجود به الأصدقاء من الودائع والمنح والمساعدات الخارجية كحلول مؤقتة وغير مجدية .. نحتاج لعمل سياسة اقتصادية جديدة مدروسة ومخططة ومضمونة النتائج لتحريك عجلة الإنتاج . تخيلت في لحظة من اللحظات لو هجم نصف هذا العدد الضخم من الثوار على ميدان العمل والإنتاج، بكل هذه الروح الوطنية وكل هذا الحب المبذول للوطن، ليحققوا معاني : والحقول اشتعلت قمحاً ووعداً وتمني والكنوز انفتحت في باطن الأرض تنادي ماذا لو نقلنا كل هذا العنفوان الثوري إلى حقل الإنتاج في هذا البلد الزراعي، وتلك الأرض الخصبة الشاسعة الواسعة.. وأفرغنا فيها ما استبقينا من طاقات ثورية هادرة لا تعرف المستحيل . لقد غنينا كثيراً للعمل والإنتاج، للحرية والسلام والعدالة ونظمنا القصائد وألفنا الألحان، لكن برغم ذلك جرفتنا الثقافة الاستهلاكية إلى عالمها ولوثت عقولنا بدلاً من ثقافة الإنتاج الأصيلة في مجتمعنا .. أجمل فكرة حملتها ثورة الشباب هي توصيفهم لها بأنها ثورة مفاهيم .. هذه عبارة كبيرة جداً وعظيمة المعنى لو تدبرناها جيداً وطبقنا معانيها، بمراجعة عملية لسلوكنا في العمل وتصوراتنا للنجاح .. ثورة المفاهيم يجب أن تعصف بالتفكير الانتهازي والطحلبي وبثقافة (الكوميشنات) والسمسرة والمضاربة في العملة وكل دروب ومفاهيم البحث عن الثراء السريع .. ثورة المفاهيم يجب أن تراجع وتبحث في الكثير من السلوكيات السالبة، التي تبدأ من ضعف إحساسنا بمسؤوليتنا الوطنية تجاه الممتلكات العامة، تجاه (حق الحكومة) الذي هو في الواقع حق المواطن.. مكتب الحكومة وعربة الحكومة وكهرباء الحكومة وأموال الحكومة .. فالمرحلة المقبلة مرحلة تغيير المفاهيم، يحتاج كل واحد منا لتطبيق معاني كل الشعارات التي رددها في ميدان الثورة في نفسه أولاً وفي سلوكه وتعامله مع الآخرين داخل وخارج بيته .. حرية سلام وعدالة.. إنتاج وعمل.. صدق وأمانة.. وطن ينتظر منا الكثير .. شوكة كرامة لا تنازل عن حلايب وشلاتين.