ي دولة الإمارات بدأت مشواري الصحفي الحقيقي المهني، وفيها بدأت حقبة الهجرة المفتوحة، بمعنى أنني، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي أدركت أن السودان، بدأ التقدم الى الخلف بخطى واسعة، وأتى الإدراك من معطيات كثيرة، منها ان حكومة المشير جعفر نميري فرضت ضرائب إلزامية على المغتربين، ومنها أنني ظللت لسنوات طوال مسؤولا عن أمي وحدها، وشيئا فشيئا اتسعت دائرة المسؤوليات لتشمل حتى الأقارب من الدرجة الرابعة: حيطة بيت طمبور الدبور وقعت أرجو إرسال مساهمة لإعادة بنائها.. بس يا جماعة أنا لا أعرف طمبور هذا، ولا أعرف أي شخص من عائلة الدبور!! إخص عليك، صرت تتنكر لأهلك؟ نسيت طمبور ولد زينب بنت خالة راجل بنت عم أبوك؟ مين زينب دي؟ والله عيب يا جعفر!! نسيت زينب حفيدة نفيسة الكديسة.. جدك عم أبو، أبو أمك كان متزوج أختها.. هذه قرابة من فصيلة السودوكو، بس أمري لله فطالما هو قريبي بواسطة زينب بنت خالة زوج بنت عم أبي، فلابد من الإسهام في إعادة بناء الحيطة. شيئا فشيئا اكتشفت أنني عاجز عن التواصل مع الناس بوجه عام حيثما ذهبت في دولة الإمارات، فالتعامل مع حارس البناية وسائقي سيارات التاكسي والعاملين في البقالات ومحلات بيع الخضراوات واللحم كان \"مشكلة\"، كما أن اللهجة الخليجية نفسها كانت تصل إلى أذني فلا أستوعب إلا كلمة من كل جملة تتألف من عشر كلمات.. وكان أكثر ما يغيظني أن يبرطم آسيوي بكلام كثير فأسأله عن فحوى كلامه فيسألني محتجا: أنت أرابي ما في مالوم؟ وأصيح بدوري: انت بتقول شنو يا زول.. فيحتدم الجدل وينتهي بأن يعلن الآسيوي أنني \"مُك ما في\" وبعد شهور وربما سنوات فهمت أنني تعرضت لتهمة فقدان العقل (مك/ مخ مافي)، وأنني أرابي ما في مالوم، أي لا أعرف اللغة العربية. وإذا وجدت للآسيويين العذر في بهدلة اللغة العربية فإنني لا أفهم لماذا قدّم الخليجيون تنازلات ضخمة لهم، بأن صاروا هم (الخليجيون) يجارون الآسيويين في خلخلة معمار وأعمدة اللغة العربية باستعارة مفردات من الهندية والأوردو رغم وجود نظائر لها في العربية: رفيق شيل سامان مال شيكو ودي ستور (شيل الأشياء التي تخص الطفل وضعها في المخزن).. وبعدين ارمي التايرات والهوز والويرات في درام مال كشرة (في التسع كلمات السابقة كلمتان فقط عربيتان والمطلوب من الرفيق - وكل هندي في الخليج رفيق بينما الباكستاني \"خان\"- أن يرمي إطارات السيارة وخرطوم الماء والأسلاك في مقلب القمامة. ولم تكن قدراتي لاستيعاب العامية الخليجية كبيرة، وقد عانيت كثيرا من مفردة \"بطِّل\" بكسر الطاء المشددة،.. بطِّل الباب يعني افتحه بينما تعني عندي كسوداني أن أقوم ب\"إلغاء\" الباب، ولم أكن أفهم كيف ولماذا يتم إلغاء الباب.. وكان زميلي ابن رأس الخيمة محمود يوسف، رحمه الله، من أحب الناس إلى قلبي، وكان أحيانا يفرغ من عمله، ويجلس لساعات في انتظار ان أفرغ من عملي، ليقوم بتوصيلي الى بيتي او اصطحابي الى مطعم لتناول وجبة.. ذات يوم رأيت وجهه شاحبا وعلامات الإرهاق بادية عليه، فسألته عما به، فقال: فيني النودة.. لم أكن أعرف ما هي النودة، وانصرفت الى عملي ولكن وبعدها بدقائق، انتبهت إلى أن رأسه سقط على الطاولة، وفمه نصف مفتوح، فاستنجدت بزميل إماراتي: محمود حالته غير طبيعية وشكا لي قبل قليل من أنه يعاني من النودة، ثم سقط راسه وفكه.. هل نستدعي الإسعاف؟ ضحك صاحبي وقال إنه أيضا \"فيه النودة\"، ثم شرح لي ان النودة هي النعاس.. وكنت أتصل - مثلا - بصديق خليجي هاتفيا فيرد علي شخص غيره ويقول إنه \"راقد\"، فأقول: أوكي خليه إذن يكلمني، فيأتي الرد: معليش أخوي، .. هو راقد!! وأتساءل: وما المانع في ان يكلمني وهو راقد؟ فينفعل من هو في الطرف الثاني من الخط الهاتفي: خبل أنت وللا مينون (مجنون) أقول لك راقد.. راقد!! وهي في الخليج تعني \"نائم\".. ولك ان تتخيل معاناة معارفي من الخليجيين عندما كنت اتكلم معهم بالعامية السودانية!! أخبار الخليج - زاوية غائمة [email protected]