عدت إلى الدوحة بعد عامين حسومين قضيتهما مع عائلتي في لندن، خلال عملي في تلفزيون بي بي سي، وكانت جهة العمل (شركة الاتصالات القطرية – كيوتل) قد جهزت لي مسكنا مؤثثا مؤقتا، وكان المسكن فيلا صغيرة في حي الهلال بالقرب من النادي العربي، ولما دخلنا الفيلا، طار إعياء السفر من جميع أفراد عائلتي، وانطلقت من حناجرهم صيحات الدهشة والاستحسان، فرغم أن الفيلا كانت في نصف حجم تلك التي تركناها عندما سافرنا إلى لندن إلا أنها بدت لنا في حجم قصر بكنغهام الملكي في لندن.. غرفة النوم الرئيسية كانت من حيث المساحة أكبر من طابق كامل بغرفه الأربعة في بيتنا اللندني.. وغرفة الجلوس بدت لنا حوض سباحة أولمبيا، وكيوتل سخية مع موظفيها الجدد، ولهذا كنت أعرف أن الثلاجة في المطبخ بها أطعمة بسيطة ستغنينا عن أن نشيل همّ الاستطعام خلال يومنا الأول على الأقل: بيض وزبادي ولبن وشاي وسكر وجبن الخ.. وجاءني أصغر أولادي وهو يصيح: بابا تعال شوف الثلاجة.. قلت له إنني كموظف سابق في كيوتل أعرف ما بداخلها، ولكنه ألح في أن ألقي عليها نظرة، وتعجبت لأنه وقف عند باب المطبخ وتفصله مسافة لا تقل عن أربعة أمتار عن الثلاجة، وطلب مني مجددا ان «أشوفها»، فسألته عما هو عجيب في أمرها حتى أشوفها من تلك المسافة، فقال: بابا إت إز سو بِق.. إنها ضخمة جدا.. ولم تكن ضخمة إلا مقارنة بالثلاجات في بيوت لندن، والتي لا يمكن التعامل معها من دون الانحناء، لصغر أحجامها. نبهني حجم الثلاجة تلك إلى أمر إيجابي يمارسه الخواجات، وهو أنهم يعملون في مجال الوجبات بنظام «رزق اليوم باليوم»، أي يطبخون يوميا من الطعام ما يكفي حاجتهم ليوم واحد، وليسوا مثلنا يحشون الثلاجات والفريزرات بالأطعمة المطبوخة والنيئة، بل إنهم لا يعرفون فضلات الطعام، لأنهم يطبخون «على قد» ما يكفي بطون أفراد العائلة، وقد عانيت في أيامي الأولى هناك من أمر القمامة، فهناك لكل بيت برميل قمامة بلاستيكي موضوع أمامه، وهناك يوم واحد أسبوعيا لجمع القمامة من كل برميل، وفي أول يوم لعائلتي في لندن، كان البرميل المخصص لنا قد عانى من التخمة وتعذر إغلاقه، ولم نكن نعرف بأمر جمع القمامة مرة واحدة في الأسبوع، (وليس على مدار اليوم كما تعودنا في الدوحة).. وحسبت أن جامعي القمامة يتعمدون عدم تفريغ البرميل المخصص لبيتي، لسبب أو لآخر، ولكن جاري أبلغني بأن حظي شاء أن انتقل إلى ذلك البيت يوم الأربعاء بينما لا يأتي جامعو القمامة إلى منطقتنا إلا كل يوم ثلاثاء، وخلال أسبوع واحد، كانت الحديقة الخلفية في البيت قد تحولت إلى مخبأ لأكياس قمامة سوداء، ونصحني الجار بأن أنتظر الجماعة يوم الثلاثاء وأقدم لهم حافزا لا يقل عن خمسة جنيهات لجمع مخزون القمامة الذي في الحديقة، لأنهم يمتنعون بحسب التوجيهات الصادرة اليهم من رؤسائهم حتى عن تفريغ أي برميل غطاؤه غير محكم. وشيئا فشيئا تخلصنا من الكرم العربي المتمثل في إطعام وإكرام براميل القمامة مع كل وجبة ببضع كيلوجرامات من الطعام الصالح للاستهلاك الآدمي، أي أننا صرنا مثل الخواجات نطبخ «يوما بيوم»، فلا يكون عندنا فائض يستوجب حشو البرميل بالفضلات، وبصراحة فقد كنا مكرهين على ذلك، بسبب حجم الثلاجة، ففي مدينة فيها كل شيء بحساب معلوم، ولا تتسع ثلاجتها إلا لكمية بسيطة من الأطعمة تجد نفسك تمارس ترشيد الإنفاق والاستهلاك.. وشيئا فشيئا صار برميل القمامة الخاصة ببيتي رشيقا مثل براميل بيوت الجيران لأننا حرمناه من اللحوم والشحوم والكولسترول وثاني أوكسيد الديتول. جعفر عباس [email protected]