** بعد إنتصاره على الفرس، عاد جيش المسلمين فرحاً إلى أمير المؤمنين، سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه..وكان الجندي منه يمشي كالأسد مزهوا بالنصر الذي تحقق بتلك البلاد البعيدة عن دياره.. إصطفوا أمام أميرهم بملابسهم الفاخرة التي أعادوا بها من بلاد فارس..وظنوا أن الفاروق سوف يفرح بلقائهم ويجزل لهم الشكر والثناء والعطاء نظير التضحية والفداء وبذل الجهد والعرق والدماء، أو هذا ما إعتادوا عليه في مواقف كهذه..ولكن خاب ظنهم، إذ فأجاهم الفاروق بحال آخر غير الذي في مخيلتهم..لقد أدار عنهم وجهه، ولم يهتم بأحد منهم..!! ** فاللقاء كان صادماً، لأن مشاعر الفاروق لم تكن هي ذات المشاعر التي ظلت تلتقيهم بالفرح والثناء على إنتصاراتهم وتضحياتهم.. فظهرت الدهشة على وجوههم، وبعض الحزن كذلك..فأسرعوا الخطى إلى ابنه عبد الله رضي الله عنه، وخاطبوه : ( لقد أدار أمير المؤمنين وجهه عنا، ولم يهتم بأحد منا، فما سبب هذا الجفاء بعد ما قدمناه من تضحية وفداء في بلاد فارس؟)..ولأن عبد الله بن عمر نشأ في بيت أبيه ويقرأ أفكار أبيه، نظر إلى ملابس الجند الفاخرة ، ثم خاطبهم قائلاً : ( إن أمير المؤمنين رأى عليكم لباساً لم يلبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا الخليفة أبوبكر الصديق رضي الله عنه)..!! ** لم يجادلوه، بل هرول الجند إلى ديارهم، وبدلوا ثياب بلاد فارس الفاخرة بثيابهم التي اعتاد أن يراهم بها، ثم أودعوا تلك في بيت مال المسلمين..ثم عادوا وإصطفوا - كما البيان المرصوص - أمام أمير المؤمنين رضي الله عنه..وهنا، فرح الفاروق وأحسن إستقبالهم، بل نهض يسلم عليهم، وعانقهم رجلاً رجلاً - كل الجيش - وكأنه لم يرهم من قبل..فوضعوا بين يديه غنائم معاركهم في بلاد فارس، ومنها (الخبيص)، وهو طعام مكوناته السمن والتمر..مد الفاروق يده إلى تلك الغنيمة وتذوق طعمها، وإذا به حلو المذاق، فأمر بتوزيعها إلى أبناء الشهداء..ثم غادرهم، وأدمعت مقل الجيش وهي تحدق في ثياب أمير المؤمنين ذات ال(12 رُقعة) في تلك اللحظة ..!! ** تلك حكاية مضت بزمانها ومواقف شخوصها، ليبقى المغزى إلى يوم القيامة..معنى أن يكون الرجل مجاهداً في سبيل الله لحد قتال الفرس وفتح بلاد فارس، لايعني - بأي حال من الأحوال - أن تمتد يده إلى الحق العام (مالاً كان أو ملابساً)، بحيث يحوله إلى (حق خاص)..ولو كان الأمر كذلك، لما أعاد جيش المسلمين ملابس بلاد فارس الفاخرة، والتي أخذوها عنوة وإقتداراً من جيش الفرس، إلى (الخزينة العامة)، ليتم توزيعها - لكل الناس - بقسط الحق وميزان العدل..!! ** وأن يكون الرجل قائداً في قومه وفارساً في جيش بلاده لحد تحقيق الإنتصارات على جيوش وبلاد الآخرين، لا يعني - بآي حال من الأحوال - أن يتميز عن أفراد شعبه وقومه ورعيته بمزايا هي في الأصل (ملك عام)، ويجب أن تنالها عامة الناس بقسط الحق وميزان العدل..ولو كان الأمر كذلك، لما غضب الفاروق على مشهد فرسان رعيته حين دخلوا عليه وعلى أجسادهم ثياب بلاد فارس الفاخرة، ولما نصح إبن عمر رضي الله عنهما الفرسان بأن تكون هيئتهم وملابسهم كما هيئة وملابس عامة الناس لحين توزيع الغنائم - بما فيها الملابس الفاخرة - لكل الرعية..!! ** فالأخيار والفرسان والأبرار، في أي زمان ومكان، هم الذين يتقدمون(صف العطاء)، ثم بعد ذلك يستديروا إلى وراء قومهم بحيث يكونوا في مؤخرة (صف الغنائم)، أموالاً كانت تلك الغنائم أو مناصباً..أوهذا هو المعنى الحقيقي لأن يكون المرء في شعبه ( مجاهداً أو مناضلاً)، حسب التعريف السياسي المعاصر لأي (زمان ومكان).. أي الإخلاص للوطن شئ و التنطع والبطش - بغرض إحتكار الحق العام - شئ آخر ..!! إليكم - السوداني [email protected]