«الموظف» لقب خشم بيوت كما ذكرت في مقال سابق، والشيء إذا كان خشم بيوت بعامية أهل السودان، فهو متاح حتى لمن «لا يسوى» أو لمن «لا يهب ويدب»، فالمدير في أعلى السلم الوظيفي موظف، والكاتب في أدنى درجات ذلك السلم موظف أيضا، ولكن لكل وظيفة مسمى محدد، فهناك المحاسب وضابط شؤون الموظفين وأمين المخزن، والصراف وجماعة الكمبيوتر ونظم المعلومات، وأعتقد أن الفئة التي تحمل مسمى موظف في العالم العربي هي الأقل إنتاجية مقارنة ببقية الشرائح المهنية أو الحرفية، فالموظف عندنا هو من يجلس على كرسي خلف طاولة، وغالبا ما تكون في جهة ما فوق رأسه مروحة أو مكيف هواء، ولو وضعت أمامه على الطاولة تليفونا أو كمبيوترا فعلى العمل والمصلحة العامة السلام، وأذكر أنني قرأت دراسة تقول إن الموظف في العالم العربي لا يكرس أكثر من 45 دقيقة (في المتوسط العام) لمهامه الرسمية في اليوم الواحد، واعتقد ان تلك الدراسة كانت متفائلة، فهناك وفي كل منشأة حكومية نفر من الموظفين لا يقضون فيها أكثر من 45 دقيقة في الأسبوع، ويرهقون أنفسهم بتكبد عناء زيارة أماكن أعمالهم غالبا لإجراء مكالمات هاتفية مجانيا، أو لاستخدام جهاز النسخ الرقمي لتصوير كتاب أو ملزمة تخص أحد العيال الذين يدرسون في الجامعة، وبالمناسبة فإن أكثر أساليب الاختلاسات تفشيا في العالم العربي، هي إدراج أسماء حقيقية أو وهمية في قائمة العمالة ومن ثم في كشف الرواتب، وقبض رواتب حملة تلك الأسماء ووضعها في جيب شخص واحد أو شركائه، وهذا النوع من الاختلاس قد يستمر سنوات طويلة من دون أن ينكشف أمره، لأنه من النادر جدا أن تتم مراجعة قوائم العاملين في جهة ما من قبل سلطة رقابية، وفوق هذا كله فهناك مخصصات الأوفر تايم (الأجر عن ساعات العمل الإضافية) وهي بند يتيح «المأكلة» المكشوفة أو المستترة، وتكون مكشوفة بأن يتفق كبير القوم مع موظف أو عامل بأن يتم تسجيل ساعات عمل إضافية له مقابل تقاسم المكافأة المالية نظير تلك الساعات، وتكون مستترة بأن يتم رصد ساعات إضافية لموظفين وعمال دون علمهم وتسلم المكافآت أيضا دون علمهم. وما جعل العمل المكتبي/ الديواني في بلداننا فرض كفاية، هو أن الحكومات قلبها أبيض وتحب المواطنين، وتوظفهم بالجملة كي تتباهى بتدني «نسب البطالة»، ومن ثم لا تمانع في أن تدار الوزارات والإدارات الحكومية على أساس خيري، فالوظيفة التي يمكن أن يؤديها شخص واحد في جهة واحدة يتم تكليف عشرة أشخاص بها، وفي هذا مصلحة للهوامير والتماسيح، فكلما كان عدد الموظفين كبيرا كلما كانت هناك حاجة إلى رؤساء أقسام ومديري قطاعات كثيرين، ومن ثم فإن جهة يعمل فيها 500 شخص، لا بد أن يكون فيها 50 مديرا (فرعي) ومائة رئيس قسم و150 رئيس وحدة، وهذا ما يسمى في علم السياسة: تقاسم السلطة والثروة، وفي مناخ كهذا يكون ثلثا المديرين وكبار الموظفين عموما «خالين شغل»، أي بلا مهام محددة، ومع هذا فإذا غاب أحدهم فإن المواطن صاحب الحاجة لدى تلك الجهة يكتشف أن «الشغل واقف» ولا تسلني كيف يكون الشغل الواقف أصلا «واقف» لغياب طرطور لا يحل ولا يربط. والشاهد هو أن الترهل الوظيفي يؤدي إلى ترهل الكروش وترهل الكروش يؤدي إلى التهاب المفاصل وكل ذلك يؤدي إلى الاتكالية، فإذا كنت أنت «مدير» وذاك «مدير» فمن الذي يسوق الحمير الذي هو دولاب العمل. جعفر عباس [email protected]