كان الزي الرسمي لتلاميذ المدارس المتوسطة في عموم السودان على عهدنا بتلك المرحلة، جلابية وعمامة، وكنا نستخدم عمائم طول الواحدة منها متر واحد نلفه حول رؤوسنا، فترانا وتحسبنا نلبس جبائر حول رؤوسنا أو مصابين بكسور في الجماجم ملفوفة بشاش طبي عريض، لأن طول العمامة لم يكن يسمح بأي «حركات استعراضية» في طريقة اللف، كما هو حادث مع العمائم السودانية التقليدية والتي يقضي العرف العام بأن يكون طولها خمسة أمتار، يتفنن كل شخص في لفها حول رأسه، وكان أكثر ما أسعدني بإكمال المرحلة المتوسطة ليس فقط الانتقال إلى المرحلة الثانوية بل طلاق العمامة بالثلاثة، فلأننا ونحن تلاميذ كنا نتعرض للضرب أو الزجر إذا سقطت العمائم من رؤوسنا فقد كنا نلفها بإحكام لضمان ثباتها على الرؤوس، وبالتالي كانت آذاننا تعاني من ضغط هائل وتمتلئ صيفا بالعرق، وكنا نغافل المدرسين، (في بعض الدول الخليجية يقال لك إذا سقط العقال من رأسك: الحق طاح شرفك) وكنا نسحب طرف العمامة لنستخدمه كمنديل لتجفيف العرق، وهي ممارسة عامة إلى يومنا هذا بين الشعوب التي تضع على الرأس غطاء من القماش أيّا كانت تسميته، ولم تكن عمائمنا مصنوعة من القماش الناعم الشفاف المسمى «كريب»، بل من قماش أبيض كان يسمى الدبلان تصنع منه الجلابيب والقمصان، مما يعني أنها كانت سميكة وقليلة المسامات، وهناك ثلاثة شخصيات سودانية معروفة (مطرب وإعلامي ورجل أعمال) يلفون حول رؤوسهم عمائم طول الواحدة منها عشرة أمتار، وكلما رأيت أحدهم تساءلت: هل المواطن السوداني ناقص هموم وكمان يحمل فوق رأسه إنتاج نصف فدان من القطن؟ لا أتفق مع الزعم بأن الجلابية والعمامة تمثلان «الزي الوطني السوداني»، فهما في الأصل زي عربي صرف كان حكرا لأهل السودان الأوسط حيث المركز (العاصمة) والوجاهة، ولهذا بلغ طولها خمسة أمتار وتخصصت في إنتاجها لهم مصانع في سويسرا وإنجلترا (تماما كما تخصصت مصانع أوروبية في إنتاج الغترة الخليجية)، وحتى لو تجاهلنا الأطراف البعيدة فإن غطاء الرأس الشعبي في السودان عموما هو «الطاقية»، وحتى الطاقية تعتبر لبس الوجهاء أو المناسبات الخاصة في بعض أقاليم السودان، ولكن وبصفة عامة فإنه من النادر أن تجد سودانيا في مدينة يرتدي الجلابية بدون طاقية على الرأس، ولا سبيل لإنكار أن العديد من أهل الأرياف النائية صاروا يستخدمون العمامة، وكان انتشار العمامة ناعما، ولو تركنا اللغة العربية تنتشر بنعومة من دون اللجوء إلى التعريب القسري للقبائل الإفريقية (وهو ما مارسته حكومة الجنرال إبراهيم عبود ما بين 1958 و1964) لما استعرت الحرب في جنوب السودان، وانتهت بانفصاله عن الوطن الأم، وما يعزز وجهة نظري هذه هي أن ملايين الجنوبيين الذين عاشوا في الشمال اكتشفوا أن العربية هي أداة التخاطب بينهم لأن لنحو كل 100 ألف من أهل الجنوب لغة خاصة، وحتى بعد الانفصال فإن العربية (المكسرة أحيانا والسليمة جدا أحيانا) هي لغة مداولات مجلس وزراء جمهورية جنوب السودان. وساعدني على طلاق العمامة أن البنطلون والقميص كانا الزي شبه الرسمي للعاملين في الخدمة المدنية، وحتى مطلع تسعينيات القرن الماضي لم تكن لتجد أكثر من موظف واحد من بين كل 5000 يذهب إلى العمل مرتديا الجلابية والعمامة، وعموما فإن عدم استخدامي للعمامة بل عدم امتلاكي لعمامة دليل على أنني أنتمي فعلا إلى جيل الشباب الذي يضع على الرأس «الكاب»، ولكنني لست على استعداد لوضع أي شيء على رأسي حتى كان ذلك سيؤدي إلى اسوداد شعر رأسي وإلغاء شهادة ميلادي «الأصلية» التي دبسني فيها والدي رحمه الله. جعفر عباس [email protected]