?? الجامعات الحكومية في موقف لا تُحسد عليه بسبب مأزق التمويل.. فكل ميزانية التعليم العالي لا تصل الى «1%»، ولذلك تشير الأرقام المؤكدة أن «70%» من تمويل الجامعات تمويل ذاتي.. والأخطر من هذا وذاك أن جامعاتنا الحكومية، بالعاصمة والولايات، وجدت نفسها محيرة للتوسع في القبول الخاص، رغم قناعتها أنه شر لا بد منه لآثاره السالبة على مخرجات التعليم العالي.. فكيف ننقذ جامعاتنا الحكومية من هذا المأزق؟ الوضع الراهن في أغلب دول العالم تتولى الدولة أمر تمويل التعليم العالي بدرجات متفاوتة بين دولة وأخرى بل الدول المتقدمة تدعم تمويل البحث العلمي بمبالغ محددة من الناتج القومي الإجمالي تصل في بعض الأحيان الى «7.1%» كما في أمريكا و«5.1%» في مصر وغيرها من الدول التي تنشر التقدم وتتطلع الى التطور وتطمح الى استدامة رفاهية شعبنا، وفي المقابل توجد بعض الدول في العالم الثالث خاصة في افريقيا وبعض الدول الفقيرة ترى أن التمويل عبارة عن بذخ، فهي ما زالت ترى انه لا ضرورة في تمويل التعليم العالي، اما أنها غير قادرة على ذلك، أو لأنها غير راغبة في ذلك ويذهب جل صرفها الحكومي الى الأمن والدفاع ليصل في بعض الدول أكثر من «78%» بينما تجد العائد من التعليم يساوي «37» ضعفاً مما يعود على أي استثمار آخر، فالسودان ليس استثناء من دول العالم الثالث الفقيرة رغم أن الناتج القومي الإجمالي ارتفع في السنين الأخيرة من «6» مليارات دولار الى أكثر من «70» مليار دولار، وارتفعت صادرات السودان من «600» مليون دولار الى أكثر من «عشرة» مليارات دولار، رغماً عن ذلك ظل تمويل التعليم بنفس الوتيرة، ولم يتغير كثيراً مع تزايد عدد الجامعات الحكومية وتزايد عدد الطلاب الذي وصل حوالى إلى نصف مليون طالب. بدأ تمويل التعليم برعاية شاملة من الدول كانت تفي بحاجته في ذلك الوقت وكان العدد محدوداً للجامعات لذا كان مقدوراً عليه «4» جامعات، ووصل التمويل في تلك الفترة الى حوالى «6%» من المصروفات الحكومية، ولكنه تدهور ليصل لحوالى «0.24%» في العام 2008م، وهو العام الذي وصل فيه سعر البترول «147» دولاراً للبرميل، وكان من المتوقع زيادة الصرف على التعليم العالي، وقد وصل أدنى حد في العام 2007م حيث كان «0.21%» وفي العام 2008م ارتفعت الى «17.7%» مع عدم انتظامها والمعاناة في استخلاصها من وزارة المالية مما يعني أن الدولة تمنع التعليم العالي الفصل الأول ولكن لا تمنحه تمويل البرامج البحثية وبرامج البنيات الأساسية وغيرها. وفي العام 2009م بلغت نسبة التغذية «5%» للتنمية في الوقت الذي بلغت فيه مؤسسات التعليم العالي الأهلية والحكومية «95» مؤسسة منها «39» جامعة حكومية وبلغ المخطط للقبول للعام 2009 - 2010م حوالى ألف طالب. ويعتمد تمويل التعليم العالي على الدعم الحكومي الذي يمثل لبعض الجامعات «30%» ويرتفع لبعض الجامعات ليصل الى أكثر من «70%» وأيضاً يمثل دعم حكومات الولايات للجامعات الإقليمية كبيراً ولكنه بدأ يضمحل ووصل الى الصفر في بعض الولايات والدعم الحكومي غير المباشر وتشمل إعفاء الجامعات من رسوم بعض الخدمات والضرائب ونسبة من عائدات الجمارك «5%» خصصت للتعليم العالي بقرار من البرلمان وهي تعادل تقريباً «10» ملايين جنيه سوداني في العام، ولكن توقف بقرار من المجلس الوطني وأيضاً مساهمة المغتربين وقد بلغت في العام 2000م حوالى «3» ملايين جنيه، ولكنها أيضاً توقفت. الإيرادات الذاتية تمثل الإيرادات الذاتية لكل جامعة أكثر من «70%» من ميزانية كل جامعة، وتكاد أغلب الجامعات تعتمد على هذه النسبة مقارنة بتمويل وزارة المالية وتتمثل هذه الايرادات في الرسوم الدراسية وهي متفاوتة ومتنوعة وفقاً لنمط القبول ونوع الدراسة المقترحة وتشمل الرسوم الدراسية على طلاب القبول العام وهي مكون ضعيف ونسبة تحصيلها متدنية تتفاوت بين «5% - 50%» في بعض الكليات وهي رسوم قليلة تتفاوت بين «800-300 جنيه» ولا تتناسب مع تكلفة الطالب، فطالب الهندسة والطب والصيدلة والفنون يدفع نفس رسوم طالب الدراسات الإنسانية اي ذات التكلفة القليلة ونجد ما يدفعه الطالب في القبول العام يمثل «10%» فقط من تكلفته مما يزيد العبء على الجامعات حيث تقدر الرسوم الطلابية حسب وضع ولي الأمر وأصبح «90%» من الطلاب في القبول العام غير راغبين في سداد رسومهم الدراسية، وأصبحت الرسوم الدراسية مسيسة الأمر الذي أغل يد الجامعات في الحزم في استخلاص هذه الرسوم من الطلاب، وتضرر من ذلك الطلاب الفقراء، هذا بالإضافة الى إعفاء طلاب دارفور مما أثر سلباً على جامعات دارفور وأصبحت تحت رحمة التمويل الحكومي والولائي الشحيح وغير المنتظم. القبول الخاص يمثل القبول الخاص حجر الأساس في تمويل الجامعات وتعتمد عليه الجامعات اعتماداً شبه كلي في تمويل مشاريع البنيات الأساسية واستيفاء الأساتذة وغيرها من المشاريع ويمثل بين «25% - 70%» من الإيرادات الذاتية للجامعات، وتبلغ نسبة تحصيل رسوم طلاب القبول الخاص حوالى «90%» وهو من المصادر المهمة لتمويل الجامعات ولكن تكمن المشكلة في قلة عدد الطلاب فهم في أحسن الأحوال يمثلون «25%» من الطلاب، وإذا ارتفع العدد الى «50%» من الطلاب سوف يؤدي ذلك الى تحسين وضع الجامعات بصورة كبيرة والتوسع في القبول الخاص يمكن ان يجلب للجامعات السودانية خاصة الكبيرة مبالغ جيدة لتمويل العملية البحثية والتدريسية ويمكن لهذا النوع من القبول أن يعود على جامعة الخرطوم مثلاً بمبلغ «50» مليون جنيه سنوياً وحوالى «20» مليون جنيه لجامعة السودان وحوالى «24» مليون جنيه لجامعة النيلين حيث أنه يمكن توفير مصدر بديل لتمويل الجامعات ويوفر تمويلاً مناسباً للبنيات الأساسية ويمنع هجرة الأساتذة الجامعيين وتنفيذ الخطط والمشاريع لانتظام مصدر التمويل بدلاً عن الاعتماد على التمويل الحكومي. الإعتراف أولاً الدكتور عبدالعال حمزة باحث ومتخصص في شؤون التعليم العالي يقول: لمعالجة معوقات التمويل العالي يتطلب في الأول الاعتراف الحقيقي بأهمية التعليم العالي والبحث العلمي ودوره في إحداث التغيير في مختلف المجالات وبالتالي وضعه في قمة الأولويات بإعطاء الأولوية في التمويل لمؤسسات التعليم العالي من قبل وزارة المالية، مع العلم بأن العملية التعليمية تحتاج لتمويل اكثر، فمؤسسات التعليم العالي السودانية ليست وحدها التي تعاني من عجز في تحقيق الآمال المتعلقة بالتنمية، فقد أكد تقرير اليونسكو أن هناك أزمات عديدة يعاني منها التعليم العالي على نطاق العالم. التمويل ضعيف الدكتور عبدالعظيم سليمان الاستاذ بكلية الدراسات الاقتصادية بجامعة السودان يرى أن تمويل الجامعات يعتمد على الموارد التقليدية ولم تستطع الجامعات عمل موارد بديلة اخرى، بالاضافة الى أن وزارة المالية لا تعتبر للتعليم العالي أولوية، لذلك تمول وزارة المالية الفصل الأول فقط من بنود الميزانية ولا يزيد ذلك عن «30%» من التمويل المطلوب للجامعات، وهو تمويل غير منتظم ومتقطع مما أضر بالعملية التعليمية، مما اضطر الجامعات الحكومية الى فرض رسوم عالية على الطلاب نتج عنه خلق إتكالية كبيرة في تمويل هذه الجامعات وعجز في موازناتها، وكان يمكن لهذه الجامعات أن تتجه الى رفع الرسوم الدراسية والتشدد في تحصيلها مثلما تفعل الجامعات الخاصة وبالتالي تسد العجز، ولكن القوانين والتشريعات والسياسة والسياسيين تمنع الجامعة عن ذلك، فطلاب دارفور معفيين من الرسوم الدراسية فشعار الدولة مجانية التعليم في الوقت الذي فيه وزارة التربية والتعليم تدفع إيجارات لبعض المباني التي تستضيف فيها بعض إداراتها، وبالمقابل فإن ميزانية البحث العلمي «0.45%» وميزانية التعليم العالي أقل من «1%»، فالتمويل مقارنة بالدول الأخرى ضعيف للغاية ولا يفي بالغرض. تجربة الأردن اهتم الملك الراحل حسين بالتعليم العالي واستقطع من موارد الدولة الشحيحة لتمويل التعليم العالي وسخر العلاقات الجيدة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا والغرب بصورة عامة لتأهيل الجامعات والأساتذة فبعث عدداً كبيراً من الأساتذة الى الغرب، وكان التمويل الحكومي هو أساس تمويل الجامعات الاردنية أدى ذلك الى رجوع هؤلاء العلماء الى الأردن وقادوا النهضة في المجالات المختلفة، فرغم قلة موارد الأردن إلا أنها قبلة للعلاج والتعليم، وعاد ما صرف على التعليم بأضعاف مضاعفة، والى الآن يستغل الأردن علاقاته الخارجية مع الغرب في تأهيل الأساتذة في الجامعات ودعم البنيات الأساسية لجامعاته ويمول التعليم العالي الأردني عن طريق الدولة والحكومة في أعلى مستوياتها وتقود حملة تمويل التعليم العالي وتمنحه الأولوية.. فلماذا لا نستفيد بتجربة الأردن هذه؟ ?? أخيراً ?? يبدو أن التعليم الحكومي في السودان أمر ميؤوس منه، لذلك بدأت الدولة ترفع يدها تدريجياً من مسألة دعم وتمويل التعليم، فالدعم الذي تعطيه الدولة للتعليم العالي لا يكفي الأجور والمرتبات، مقارنة بالدول الأخرى التي تسخر العلاقات والاستثمارات الناجحة لدعم التعليم، لذلك لجأت الجامعات للإكثار من طلاب القبول الخاص الذين يعتبرون تمويلاً أفضل من التمويل الحكومي، مما أدى الى خلل في العملية التدريسية، فقبول الطلاب دون توسعة المواعين التدريسية يؤدي الى فشل العملية التعليمية ويتعارض مع مبدأ مجانية التعليم. دار السلام علي :الراي العام