الليل الهاجع بقلم/محمد التجاني عمر قش- الرياض e-mail:[email protected] يا ليل،الصب متى غده أقيام الساعة موعده رقد السمَّار وأرقه أسفُُ للبين يرددهُ أبو الحسن الحصري القيرواني الليل عند كثير من الناس ليس هو فقط ذلك الجزء من اليوم الذي يبدأ مع مغيب الشمس و حلول الظلام وينتهي بطلوع الفجر؛ بل هو عند كثير منهم وقت تحن فيه القلوب و الأرواح لبعضها كما أنه وقت يطل فيه طيف المحبوب و ينفرد فيه الشاعر مع نفسه و يخلو فيبث شوقه و شجنه و يسترجع فيه لحظات الصفاء أو الهموم و العنت أحياناً. و ليس أدلّ على ذلك من قول المرقش الأكبر: سرى ليلاً خيالٌ من سُليمَى فأرقني وأصحابي هجودُ فبتُ أديرُ أمري كل حالٍ وأذكرُ أهلَها وهُمٌ بعيد والليل بوجه عام هو ملاذ الشعراء و خاصة العشّاق، و لهذا السبب تشعبت استخدامات الشعراء المجازية و الحقيقية لكلمة الليل. فمنذ أن قال امرؤ القيس هذه الأبيات الرائعة ظل شعراء العرب يذكرون الليل في شعرهم لعدد من الأسباب و الأغراض. وليل كموج البحر أرخى سدوله عليَ بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطى بصلبه و أردف أعجازاً و ناء بكلكل ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي بصبح و ما الإصباح منك بأمثل فقد يكون الليل ليلين في بعض الأحايين كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي في وصف زحلة: ودخلت في ليلين فرعك والدجى ولثمت كالصبح المنون فاك ووجدتُ في كُنهِ الجوانح نَشوَةً من طيب فيك ومن سُلافِ لَمَاكِ فالليل الأول مجازي لأنه وصف لسواد شعر المحبوبة أو فرعها و الليل الثاني هو الدجى و هي كلمة مرادفة للظلام الذي هو من سمات الليل البهيم خاصة إذا أقترن بدلالة تدل على الروعة و الجمال و السكون و الرجوع إلى مكنون النفس و العاطفة أو الشعور. و قد يطول الليل أو يقصر ليس بسبب تعاقب الفصول بين الصيف و الشتاء و لكن بسبب الحالة العاطفية أو النفسية التي يكون فيها الشاعر حسب قربه و بعده من المحبوب كما يروي ابن زيدون الشاعر الولهان: يا أخا البدر سناءً وسناً حفظ الله زماناً أطلعك إن يطل بعدك ليلي فلكم بت أشكو قصر الليل معك و في قول بشار بن برد مناجياً حبيبته عبده شيء جديد بثه الشعراء عن الليل، فهذا الشاعر سهده الأرق لرؤية طيف زاره و مضى فقال شعراً حلواً و رقيقاً قد يخلو من المعنى عند بعض النقاد و لكنه معبر و له وقع جميل على كل من كابد السهاد و الشوق: لم يطل ليلي ولكن لم أنم نفى عني الكرى طيفٌ ألم رفهي يا عبد َ عني وأعلمي إنني يا عبدَ من لحمٍ ودم و كعادته يبلغ أبو الطيب شأواً بعيداً في الحديث عن الليل و بث اللوعة فيه حيث قال: ليالِيَّ بَعدَ الظاعِنينَ شُكولُ طِوالٌ وَلَيلُ العاشِقينَ طَويلُ يُبِنَّ لِيَ البدرَ الَّذي لا أُريدُهُ ويخفين بَدرًا ما إِلَيهِ سَبيلُ أَلَم يَرَ هَذا اللَيلُ عَينَيكِ رُؤيَتي فَتَظهَرَ فيهِ رِقَّةٌ وَنُحولُ و على الرغم من أنّ الحب لم يعرف إلى قلب أبي الطيب سبيلاً حيث ملأه الطموح و الهمة إلا إنه يصور لنا هنا حالة من الوجد و الشوق بحكم الخيال الشاعري و العاطفة العربية الجياشة التي هي صفة ملازمة لكل عربي حيثما حلّ و كان؛ أو أن هذا الشعر العذب هو نتاج طبيعي لوحدة المزاج العربي الفني في مجال الشعر الذي هو ديوان العرب و أداتهم التي عبروا بها عما بدواخلهم. فها هو أبو الطيب الذي قضى جل حياته في كنف سيف الدولة الحمداني في حلب و في بلاط كافور الإخشيدي في أرض الكنانة، وعاش حياة مدنية مستقرة نوعاً ما، يتحدث عن الظعن و الترحال و ما ينطوي عليه ذلك من فراق للأحبة بعد النوى و البعد، كما لو لأنه في بادية من بوادي نجد أو الحجاز. لكن العربي كما أسلفت شخص صاحب عواطف و حس مرهف تفيض مشاعره كلما عنّ له خيال أو تذكر موقعاً أو رأى مظهراً من الحسن و الجمال و الخضرة ولعل هذا المزاج هو الذي يجمع بين ما قاله المتنبي و شاعر البطانة الكبير ود شوراني هذا البدوي الذي يستخدم نفس الألفاظ و العبارات التي نجدها عند أبي الطيب، بل و يصور نفس العاطفة و يعبر عنها بكلام رقيق و جميل فيقول: شالو الليلة من دار الدَمَرْ ونقلو حازما ضعينتم مِنجَمْعه ما بِنْفلو سَقّد مايقي روقت الغمدة ما بِطلو وقلبي مع الجُراسه البِنقُرّنْ قام كلو و لعلك تلاحظ أيها القارئ الحصيف بعض التغيير في الألفاظ بتأثير من البيئة السودانية فمثلاً يستخدم ود شوراني كلمة \"ضعينة\" التي هي مشتقة من الظعن و الترحال الذي أشار إليه المتنبي، و هذا راجع في المقام الأول إلى المزاج الشعري و الحس الفني لدى العرب على مر الأزمان و اختلاف البيئات لأنه إحساس فطري لا تبدله الظروف. و دعونا نتأمل هذه الأبيات من قول ود شوراني أيضا و هي تصور بجلاء تام ما يكابده العشاق ليلاً و ترسم لوحة نفسية نادرة إن صح التعبير حيث يقول: نومي وصبري بِليّنْ والمعاهن قَلّتْ فاقد المنو ملسوعة الفؤاد أنعلت احسب في النجوم الطالعة والاتدلتْ لامن عُقدَةْ الليل بي الشُعَاعْ انِحَلّتْ و في الشعر الغنائي السودان نجد لوعة و شكوى مما يجده العشاق ليلاً من ألم و حسرة على فراق الحبيب فمن منا لم يردد هذا البيت في صباه الباكر: تطول يا ليل وفيك تطول مآسينا نسكب فيك دموع الشوق وما نلقى اليواسينا و تظل رائعة عمر البنا هي سيدة الموقف و سوف يظلل يرددها معه الشعب السوداني مهما تعاقبت الدهور: في الليل الهاجع غرد يا ساجع اذكر أحبابي وهيج أشجاني أرجوك يا بلبل حين تقفل راجع غرد وأذكر نوم عيني الناجع وهجراني الطال وبكاي وحناني ففي هذه الأبيات ينادي شاعرنا الكبير على هذا البلبل المغرد ليردد أنغامه ليلاً مذكراً حبيبه لعل قلبه يرق إليه بعد أن يعلم بما ألمَ به من شوق، وقد فارقه النوم و أحس بنار الهجران و لذلك كله يطلب من ذلك الحبيب أن ينظر إليه بعين الرحمة و الرضا حتى يذوق طعم الحب و قرب الحبيب. و بحلول الليل تنتاب العشاق حالات من الوجد و اللهفة على الحبيب حتى يظن أحدهم أنه قد لا يدرك ديار المحبوبة ومن أروع ما سجّل ديوان الشعر السوداني في هذا الصدد هذه الرباعية: الليل أمسى وكلب الحر بجض بارينا عقبان السمائم عكّرن صافينا نَتِلّ القود على الزول الخليقته حسينا ياليل غادي في بلد أم فلج ما جينا فهذا الشاعر يحث بعيره على زيادة السرعة \"نتل القود\" خوفاً من ألا يدرك ديار الحبيبة في الموعد.و يقول آخر مخاطباً جمله بعد أن جن عليه الليل و هو لم يدرك ديار الحبيب بعد: الليل بوبا و النجم الكبار إسرت طلع العنقريب ديك التريه أنصرت يا ود ناقة المياقنه للحليب ما درت بشوف جبد البطان في ضميرك حرّت و يعجبني كثيراً ما أورده الأستاذ أسعد الطيب العباسي في مقاله المشهور\" الفراق والليل و المطر في الدوبيت\" حيث جاء فيه الآتي: والليل هذا المؤثر الساحر عندما داهم شاعرنا المبدع (جبر الدار محمد نور الهدى) في غربته الموحشة وابتعاده القسري الممتد حمل إليه في دجاه كل أسباب الأرق وأخذ يترافق معه في سهر طويل وتباريح قاسية عبر عنها بقوله: بَعدْ ما الليل هِدا وسكَتن جَنَادبو صَرِيخِنْ ولوَّشْ نَجْمو غَرَّبْ وبومُو زَاد في نَويحِنْ عيون الرمادْ لجَّن وزاد الأسى تجْريحِنْ من وين أجِيب لَيهِن مَنَام طَوَّل معاي تَبْرِيحِنْ و لنتأمل هذه اللوحة الرائعة التي يرسمها لنا الشاعر على الطاهر العباس و هو يصف إحدى الحسناوات مستخدماً كلمات الليل و المساء و الصبح استخداماً مجازياً زاد الوصف رونقاً و ألقاً يندر أن يوجد في قصيدة واحدة ولم يجتمع لدى شاعر قديم أو حديث و هو وصف تتجلى فيه قدرة الشاعر على الإبداع و يعكس بصورة فنية محكمة دقة التعبير والقدرة على الرسم بالكلمات: عيناك ماذا فيهما أختاه فيهما سحب المساء ظلاله و الصبح تاه ليل أتى من غير وعد في المآقي ملتقاه و استرخى على حدقاتها إشراق فجر ناعس ضماه فلك أن تتخيل المساء و هو يسحب ظلاله وبجانبه الصبح و في خضم ذلك يأتي الليل من غير موعد و يسترخي الإشراق على الوجنات و هو ما يزال نعسان وسنان. هذا جمع للأضداد بكل ما تحمل الكلمة من معنى. و للطيب ود ضحوية أبيات مشهورة تعبر عمّا كان يكابده من سهر الليل في سبيل إرضاء المحبوبة حتى أنه يقسم قسماً مغلظاً بألا ينسى مواثيقه معها و هو يزرف الدمع بينما يخلد غيره من الناس ويغط في نوم و ثبات عميق و ذلك لأن حبها قد تمكن ليس من جوفه فحسب بل من أعضائه أيضاً فيقول: الليل بوبا يا أب سقدي النعامات غزّن الناس ناموا يا أب شنشون عيوني بعزّن كان أنسى المواثيق الجبال ينهّزن نعمين ريدها في جوفي وعضاي مخزّن أما شاعرنا الرائع يوسف البنا فيحكي لنا مغامرة عاطفية يصورها لنا بشيء من العفة و الذوق الرفيع قائلاً: البارح معاي سمحه أم فواطراً غر أداور فيها لللبياح أبت ما تدر من مكلوفة الشايقي السبيبها بجر أصبح منكلي هلكان و لايك المر و من يسير في الليل لابد له من مراقبة القمر و النجوم والاستئناس بأصوات الطيور أو الحديث إلى جمله علّه يجد من يشاركه همومه و شجنه. و في ذلك يقول يوسف البنا: الليل بوبا و القمر النضيف إسلخ ردع البونا لا تعرض حرن لا اشلخ عليْ سالك الوريد الساده ماهو مشلخ سادر واسع الصي و القنوب إتفلخ ويقول عمنا عبد الرحيم أبو شناح رحمه الله: في التلت الأخير قام الدباس ابقوقي طراني و طريت الليهو زايد شوقي أخير الجلسه عند السرّح مساير الموجي ولاّ الشدة فوق كير العريسها يموقي كل هذه الشواهد تدل على أن الليل قد كان له القدح المعلى من شعر العرب فصيح و عامي و دعونا نختم بقول الأمير الشاعر أبي فراس الحمداني الذي جمع بين التذلل و الانكسار للمحبوبة مع شيء من الكبرياء الذي يليق بأمثاله: أراك عصى الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهى عليك ولا أمر بلى أنا مشتاق وعندي لوعة ولكن مثلى لا يذاع له سر إذا الليل أضوانى بسطت يد الهوى وأذللت دمعا من خلائقه الكبر تكاد تضيء النار بين جوانحي إذا هي أذكتها الصبابة والفكرُ معللتي بالوصل والموت دونه إذا مِتُ ظمآن فلا نزل القطرُ