وقفنا فيما مضى عند الرق في اليونان القديمة و قلنا إن الإنسانية لم تكن عمياء البصيرة بحيث لا ترى كلها بشاعة الرق فقد رأي أهل البصائر تهافت حجج من برروا شناعات الرق منذ القرن الخامس قبل الميلاد (و سنرى أخا لهم ذو بصيرة جلية و حس إنساني و قلب ذكي سبقهم بقرن تقريبا في مكان آخر في بلاد فارس رأى بشاعة الرق و كان حاكما في الفترة (550 529 ق.م) فأصدر أمرا بتحريم الرق و تجريم مرتكبه و ذلك فيما عرف بأسطوانة قورش أو (كورش) التي سنتناولها فيما سنتناوله) ... قادنا التناول عن الرواقية إلى ما بثته تلك الفلسفة الإنسانية في وعي ذلك الزمان خاصة في المشرق عبر مدرستها في الأسكندرية و الشام ... ففي سوريا نادى كريسبوس (284 209 ق.م) بأن الشر ينحصر في استعباد الإنسان للإنسان ... و ربطنا بين ما دار في العقول نتيجة تلك الفلسفة و المذاهب الفدائية التي انتشرت في المنطقة و التي كانت تنتظر مخلصا ، و أشرنا إشارة سريعة إلى أن المخيلة الفدائية توارثت اعتقادا قديما يقول إن المخلص ابن إلهي تلده عذراء بصورة إعجازية ( أو مولود إلهي بصورة إعجازية حتى و لو لم تكن أمه عذراء) و لم نتوسع في ذلك لأنه خارج موضوعنا ، لكن لا بأس من التأكيد على أن فكرة الثالوث المقدس و أن مبعوثا إلهيا يبعث و يموت متحملا العذاب ليخلص البشرية و يفديها ، و يقوم في اليوم الثالث ، هي فكرة قديمة سبقت المسيحية بزمن طويل ، لكنها كانت من ضمن دعاوى المسيحية ، و هي دعاوى عارضها من لا يؤمنون بأنه كانت هناك ولادة اعجازية إنما ألصقتها المخيلة بالأحداث لتستكمل شروط الفادي فيما بعد ، و أن الفادي كان الابن الأكبر ليوسف النجار من السيدة مريم ، و أن حدثا إعجازيا كهذا حسب زعمهم كان أحرى بأن يذكره المؤرخ (يوسيفوس) مثلا في العقد الأخير من القرن الأول ، فقد كتب عن إدانة الساندهارين (المحكمة الدينية) لمن يسميه (يوسى) بالكفر و حكمت عليه بالموت رجما بالحجارة (يوسى أخ مفترض للمسيح) و يعلق (يوسيفوس) على ذلك بقوله ( و كالحدث حدث آخر مؤلم انتهى بالصلب) ... أما ما و ما ورد في الانجيل عن التوراة أن : )هُوَ ذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا ، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ، الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللهُ مَعَنَا)(إنجيل متى 1 : 23 ورد في سفر أشعياء و لكن الكلمة التي وردت في الانجيل (العذراء) ، في سفر أشعياء ترجمتها (الصبية ، السيدة الصغيرة)... أما المخلص أو المسيح فقد استلهمته العقلية العبرية التي كانت تنوء تحت الاضطهاد الروماني من مقاطع أو آيات من التوراة أولتها انتظارا للفادي المخلص ... لا ننسى أن الفيلسوف اليهودي الرواقي فيلون السكندري (25 ق.م 50م) كان الأسبق في تأويل التوراة لتتوافق مع ما ساد في أرجاء ذلك الزمان من مباديء الفلسفة الرواقية و علوم العصر ، فاجتهد في التوفيق بين ما ورد في التوراة من صفات التجسيد للإله و ما جاءت به الرواقية من أن الله عقل مطلق مجرد من المادة منزه من الشبيه . احتاج فيلون لاستخدام المجاز بدرجة تكاد تفقد اللغة مهمتها و تجعل العقل محتارا : لماذا لا يفصح الإله عن مقصوده و يحتاج قوله للتأويل و المجاز كأنه عاجز عن الإفصاح البليغ عما يود قوله ؟ كان فيلون أول من استنبط معاني لخلق الأرض الوارد في سفر التكوين في ستة أيام ، بقوله إن لفظ الأيام المذكور في سفر التكوين ليس المقصود به أيامنا العادية هذه إنما هي مراحل (رغم أن النص يتحدث عن الخلق يوم الأحد ثم يوم الإثنين ... و هكذا بقية الأيام) ، حتى لفظ (استراح) يوم السبت ، وجد له معنى بأنه جلّا و علا لا يحتاج للراحة لكن المقصود راحة المخلوقات .... أهمية فيلون أنه طوّع (الكلمة) الرواقية أو (اللوغوس) بتأويلاته ليكون ابن الإله ... استطردنا في هذا الجانب لأهمية تلك المرحلة و لأن المسيحية رغم تبنيها للرواقية كأعمدة أخلاقية راسخة في وعي ذلك الزمان ، إلا أنها لم تستطع تجاوز نصوص التوراة التي تشرعن الرق و تتبحر في أحكامه من رقيق عبراني إلى رقيق غير عبراني و إلى سبي نساء الشعوب التي تعاديها و أحيانا قتل الجميع عدا الأبكار من النساء ، و ذلك مصداقا لما جاء في الانجيل من قول المسيح فيما معناه : (ما جئت لانقض الناموس إنما لأكمله )... فيما بعد اعتبرت الكنيسة أن الفلاسفة هم ألد أعدائها و هم رؤوس الفتنة و زعماء الهرطقة فقتلت و عذبت و حاربت الفلاسفة و الفلسفة عندما اشتد عودها ، ففي سنة 391 م أمر أسقف الاسكندرية ثيوفيلوس بهدم (السيرابيون) فقاومه الفلاسفة و العلماء و الفنانون السكندريون و تحصنوا فيه بقيادة الشاعر و الفيلسوف السكندري (أوليمبوس) فهدمه المؤمنون على رؤوسهم جميعا و دفنوهم تحته ، و بعد أقل من ربع قرن حدثت مأساة الفيلسوفة العالمة هيباتيا في نفس مدينة الاسكندرية التي كانت منارة للعلم و التسامح ، فسحلوا العالمة الجليلة و مزقوا ثيابها و كشطوا لحمها باعتبارها رأس الفتنة و زعيمة الهرطقة ، رغم إنها لم تؤذ أحدا ، لا بالفعل و لا بالقول ، كانت مأساة هيباتيا من أبشع ما استهلت به الكنيسة فظاعاتها متحولة من دعوة للسلام و المحبة في عهد الضعف لوحش كاسر في عهد الاستقواء . إذا انتقلنا للعهد الروماني نجد أن أعداد الرقيق كانت مهولة خاصة في عهود التوسع الامبراطوري إذ كان المهزومون يسترقون ، و طالما افتخرت روما بانتصاراتها بجلب المهزومين مقيدين عبيدا . تكاثرت أعداد الرقيق و كان بينهم علماء و مثقفين من الشعوب المهزومة . كان الرقيق اليوناني يعج بالفلاسفة و المثقفين و هو ما أثر فيما بعد في الامبراطورية الرومانية فتبنت رؤى و فلسفة اليونانين ، و كما نلاحظ أن الفلسفة الرواقية انتقلت لروما مع الأفكار التي نقلها الرقيق اليوناني حتى أن الرواقية الجديدة بعد ثورة العبيد الأشهر في التاريخ بقيادة سبارتاكوس (73 ق.م) أنجبت الفيلسوف سينيكا (4 ق.م 65م) الذي خاطب أهله الرومان قائلا : (تذكر أن ذلك الذي تدعوه عبدك ، ينتمي إلى نفس المعدن الذي تنتمي إليه، وتبتسم فوقه نفس السماوات وهو أيضا مثلك يتنفس، ويحيا، ويموت .) ، سينكا هذا ادعت الكنيسة أنه آمن بدعوة المسيح ... مع سينيكا (ابيكتاتوس) الفيلسوف الذي نادى بتحرير الرقيق ورد كرامته اﻹنسانية . كانت لأفكار مدرستهم صداها مما أدى لإصدار قوانين لحماية الأرقاء و بتأثيرها أصدر الإمبراطور الفيلسوف الرواقي ماركوس أوريليوس(121 180 م) القانون الروماني الذي ساوى بين البشر في كل الإمبراطورية الرومانية و منح المواطنة لكل سكانها بعد أن كانت المواطنة حكراً على الرومان فقط . ننتقل لعهد أقدم قليلا و إلى الشرق حيث الامبراطورية الفارسية في عهد كورش ، و كما ذكرنا أنه حكم في الفترة (550 529 ق.م) . يحسن بنا أن نطلع على أهم ما ورد في أسطوانته التي احتفت بها و نشرت الأممالمتحدة عام 1917 ترجمة لها بجميع اللغات الرسمية في الأممالمتحدة ، جاء في تلك الاسطوانة : (... فإنني أصرّح بهذا بأنني سوف أحترم تقاليد، عادات وأديان كافة الشعوب في إمبراطوريتي ..... كل الشعوب حرّة بأن تقبل سلطاني أو ترفضه. لن أعتمد الحرب وسيلةً من أجل السيطرة....... سوف أمنع العمل بإكراه دون دفع أجور"... أمنع العبودية كما ان على المحافظين والعاملين تحت إمرتي منع الاتجار بالعبيد في نطاق حكمهم... لا بد من القضاء على مثل هذه المواريث في جميع العالم أعلن بأنني سأحترم التقاليد والعادات وأديان الأمم الموجودة في إمبراطوريتي، ولا أسمح لأي حاكم أن ينظر إليهم بدونية أو يهينهم. ألغي العبودية، وآمر حكامي منع تبادل الرجال والنساء كعبيد في مناطق حكمهم ، لأن هذا من شأنه أن يدمّر العالم. إذا قام أحد الأفراد باضطهاد الآخرين ، وإذا ما وقع ذلك ، سأسترجع حقه منه ، أو حقها منها ، وأقوم بمعاقبة المضطهدين . أعلن اليوم حرية الأديان ، وأن الجميع أحرار فيما يختارون من دين ، واعتناق جميع الأديان وممارسة المهن التي يريدونها ، من دون أن يتجاوزوا على حقوق الآخرين. ناضل رواد المدرسة الكلبية ثم الرواقية ضد الرق فلم يروه قدرا محتوما و كذلك فعل الرجل المضيء كورش الذي جرّم الاسترقاق قبل أكثر من خمسمائة عام من ميلاد المسيح ... سنعبر للجزيرة العربية إن شاء المولى . سرحان ماجد [email protected]