كنا ونحن صغارا ذوي مشاعرة متناقضة تجاه ما يحصل من الألم للطير والحيوان, نقنص الطير بالمكفاة (طبق أو طست غسيل كبير نتركشه على بعدة مسافة منا ونوقفه على حافته بزوابة 45 درجة أو أقل, ونثبته على ذلك بعودٍ أو قصبة ذات قندول لم تزل فيه بقية حبوب لاستجلاب العصافير. وفي أسفل العود نربط حبلا أو خيطا طويلا نمسك بطرفه الآخر عى بعد أمتارٍ ونحن نتخفى بشجيرة صغيرة أو من وراء الصريف ونرقب وكان أعيننا سُمِّرت مع ذلك الطبق بخيوطِ غير مرئية. فن القنص هذا سيتعلمه قوةٌ سيولدون في عهد الإقناذ (الاإقناذ , الانقاص أو الاقناص, ولا يهم فالقنص انتشر والنقص ربا وترعرع) ويهرع الطير للظل الظليل , لأان القنص لا يحلو إلا في قيظ الظهيرة, ولما تزدحم البقعة الصغيرة بالشفشقة وتصفيق الاجنحة, يجر قائدنا الحبل وتحصل الإبادة, وتخرج علب الكبريت من اللفة تحت دكة السروال وبعض الجيوب ملأى بالبصل, ويتم الذبح بموس حلاقة وربتما حللها أخونا عمر عبدالجليل بظفر إبهامه, فيا لتوخي الرحمة !!!! ونكبر بشلاليفنا فقط أما القلوب فهي خالية إلا من حضور سلطان القسوة. والوليمة في العراء تحت لفح الشمس.. تلك حيلة وثمة حيلٍ أخرى في غاية السخف. سخفٌ في تغذية حبِّ الأذية: قيل لنا ان ابن خالنا الذي غلب اسم النساء عليه "بلة" على الاسم الذي اختاره له ابوه, كان اسما ه"محمداً". كان من أذكى خلق الله وأكدّ لي ذلك زكيله في الدراسة أحمد التجاني عبدالهادي, قال " أين بلة؟ كان يشففني في الحساب وفي العربيبة وفي كل المواد, خسارة أنه لم يواصل تعليمه, والتجاني نفسه مشهود له بالأدب والقانون والطرفة الحاضرة" كان بلة يستعذب عذاب الحيوان ويشرك للطير وللأضُّب والصقور وابتدع لذلك أساليب : إذا راى جيفةً في الخدوة (طرف القرية) أسرع وجاء بخيط دوبارة (خيط من نبات القنب يخاط به الخيش وجوالات المحاصيل) وجعل على رأسه عقدة فرطا (أم فِرِيّطو) سهلة الحل والربط ويضعها حول است الفطيسة (المقنط) وثبت الحبل بوتد على الأرض, وهو يعلم أن الصقر أبا ضلعة (كِلْدِنْق,الرخمة) لا يبدأ جراحته إلا من ذلك العضو الرخو. وبعد نقرة أو نقرتين يحصد الصقر مُزعةً شهية فيتراجع للوراء استعدادا لتفتيتها مستخدما منقاره ومخالبة المنخنية كإبار الداية (القابلة). وما أن يبدأ بالتلفت تخفظا وتلذذا حت تنفرط الحقدة حول عنقه حتى تبتديء البتبتة. ولا يستعجل بلةُ الانقضاض على الصيد وينتظر حتى يؤدي بها الإرهاق إلى الدوخة (بداية الغيبوبة) خيفة أن يكره الصقرعلى دفاع المستميت. ويأتي بلة بآله حادة ويحك بها في صلع الصقر فتحدث خدوشا لا يعبأ بها البطل شعار عرضة أوشيك وأدروب (الرقصة الصقرية المعروفة) ثم يخطو نحوها بخطوتين للأمام وخطوة للوراء بقدمين يتثقالان من فرط الترقب, وبخطف سريع ينثر مسحوق الشطة الحمراء في الصلع. وتفيق الفريسة كأنما أعتقها عزرائيل من الموت , وتفيق معها قوةٌ أسطوريةٌ خارقة: تنْسلُّ من إغماءةِ شمشون مقدرةٌ على خلع الوتد والتحليق به بعيداً بعيدا. كأنك تشاهد مروحية يتدلى منه حبلُ إغاثة, وتخال الزغب في أعلى الحرازة تطاولُ أعناقها للمدد اليومي فتُصفِّر حواصلها بحلاقيم مستعِدّةٍ. غير أن القدرً غدر, استحكم التفاف الخيط حول العنق والمروحية تترنح نحو الأرض وقبل أن يكتمل الهبوط يتوقف المحرِّك. "خلاس, مات , شوفو شوفو , ود أم مكنينة....." وتكتمل فرحة الصبية . ويخلف من بعدهم خلفٌ يتساءل الناس عن هويتهم ويقولون " من أين أتى هؤلاء؟ّ" ناس "قش واكنس وأكلو نَيْ ما تجيبو حيْ..., وكِدة يعني" ولم تكن أمي ستنا بت العوض لا تكبر أبن أخيها (لأبيه) إلا بسنين قلائل, وقد شاركته القنص وحكت لي عن تلك الأيام الخوالي كثيرا من ذكريات طفولتها وهي تأسى على فراق معظم رفيقات دربها وأخوانها من بني الجيران الذين لم يكونوا يعرفون كلمة "عمي" إلا في ما يختص في أمور النسبة الشرعية, وفي ما عدا ذلك فكل الكبار آباؤهم. لا ينادون محمد عبدالقادر إلا بأبوي محمد وعبدالمجيد سرور والفقيه محمد ود بلال وأحمد والفقيه ود الكبيدة والعالم عبدالجبار آباؤهم أيضا وإلى سابع جار وأبعد ممن تربطه مع أبيهم علاقة أخوة سواءً في السوق أو الطريقة الصوفية أو حتى صداقة أو صلّة قرابة بعيدة لكنها موثقة. صفات حميدة وتقاليد أصيلة نقلناها عنهم فأذاقتنا المرائر , صار تعقبنا لصلاة القربى مرضا ينعتنا به بنو الجيل اللاحق بأننا "رُخاص, لا نكتفي بما لدينا ونبحث عن العزة في الأهل, اولم نُرضع بأنّ "الجمرةْ وقعتْ في الحِزّةْ .. الزولْ بَلا الأهلْ شِن عِزَّه ؟"" هؤلاء أبقوا على ما ورثوا من جهالات الطفولة ونبذوا ما أرضعه المجتمع القروي النقي. واكسح واكسح , و"خلِّيك مع الزمن, وجِيب الكومبا من تنجانيقا وخّزِّن نصيبك من النّصْبِ في ماليزيا, زمن!". قالت والدتي : "وتفنّنَ بلّةُ في صناعة الشراك للعصافير, بطريقةٍ لم يسبقه عليها أحد. كان يأتي بقندول "سنبلة" أخضر في أيام الخريف أو الدرتية يأخذه من "الجبراكة, مزرعة في البيت تكون امتدادا للحوش, يزرع من كلِّ فيها ما تحتاجه الأسرة من حبوب وخضروات ولا يهتمون بالفواكه إلا ما نبت لوحده من لالوب , وبالعربية لَوْلَب, أو هجليج وبالفصحى إهْليلّج, ووجدته في كتب الهندسة العربية أيام نهضة العرب ويطلق عندهم على الشكل الدائري ذي المركزين المتساويين, وهو على خلاف الشكل البيضاوي لأن للبيضاوي مركزين غير متساويَيْنِ), وربما سرق القندول من الذرة المحفوظة في الظل يبذر بها في الموسم القادم ذلك أن معظم الذرة تُطمرُ تحت الأرض فتسسب الحرارة في موت أجنّتها, وإذا أنشب النمل فيها مناشيره فهو لا ينسى أبدا قرض الأجنة خيفة أن تنبت متى ما أصابت ماءً في أعشاشه بتسرب المطر أو بازدياد الرطوبة, سبحان الله فمن علمه؟ المبدع الخلاق الذي أحسن كل شيءِ صنعا أو نقول "ذكيٌّ" فننقله إلى دائرةٍ ظلَّ الإنسانُ يحتكرها باستمرار, ولم ابتعد عن موضوعى قارئي, فانظرني قليلا, تُدرِك الرابط. ويكون بلة قد استلّ بعض السبيب (الشَعَر) من ذيول الخيل أو الحمر المربوطة في الركائز وراء السوق, يقترب منها بجانب ويفجأها بمعط ثُلّةٍ من السبيب, ولا يستبدرها لأن رفستها مميتة, ثم يجعل منها عُقَدا فُرُطاً كثيرة يقوم بوضعها في السنابل وتثبيتها في القصبة في أسفل القندول الذي يضعه في صريف الحوش المصنوع من قصب الدخن غالبا, وهذا يضاعف المكيدة لأنه – في نظر الطير المسكين – كله "دُخْنٌ في دُخن". "ونجلس في ظل النيمة أو في الراكوبة نتسلى بلعب السيجة "أمّاطْقير" غير عابئين بالشرك ولا يحتاج لمراقبة لأن العاصفير ستعلن عن وفاتها لما تعلق الشراك بأقدامها الطرية , تفرفر ولا تقوى على الطيران فالقندول ثقيلٌ عليها ثِقَلَ الدليبِ على الجرذان. ويلفت الأنظار عبثُها للخلاص فيأتي هذا بموسى وآخر ب "شظفة زجاج" وثالثٌ بظفر أبهامٍ سميكٍ أُحْسِنَ إهمالُهُ تحسُّباً لوليمةِ التّفَكُّهِ هذه" والساردة أمي الحبيبة عمّةُ بلّة ورفيقة صباهُ الأولِ . مثل هذه الأحاديث كانت لنا موجهات عززتها حكايات أخرى, " والله فكّ ليك فيهوم طلقة أبوجقرة لامِن الدخان طلع بِنًخَرتو" و "إمّا جِبْتَ مالاً فرّحْ أم سوميت , وإما في جبالْ تقلي انْجَدَعْ ما جِيت" و"أنا كان قلتو هيِّن , أنا ماني هَيِّنْ, أنا راكب أم سبيبة حادف الحِنَين", يصف البندقية بالحنو, عجبا لحنو جهنم. هذه القسوة لا عقابيل سالبة لها في محيط الأسرة والعشيرة والقبيلة ولكنها تظل راقدة في تلافيف الذاكرة فما أن وهنت العلاقات الأسرية أو باعدت بينها المسافات أو استجدت وسائل كسب العيش واستعصت إلا ورأيتم الخصومات في الطين وفي الهشاب وفي حدود الزراعة (جروب الموارد, فارجعوا لسجلات المحاكم ترون العجب, واليوم اليوم ردّ العلماء هذا الاحتراب الهمجي لنضوب الموارد, ومن أجل الموارد والاستئثار أججها الساسة الذين لا يخفون إعجابهم واحترامهم لحملة الأدوات الفتاكة, ولا يأبهون بالحكمة والسلام"!!! لم نرَ رجلا وُلّيَ إمارةً لأنه كيسٌ فطن, فالكياسة عندهم في البأس. عجبا. وتقولون: "من أين جاءوا ؟؟؟" الثورة الثقافية التي تجتث التعدي والعدوانية بُحث عنها في مزابل العُنف وأعرض عن اللّطف والسلم. ولم نر واحدا يتحدث عن ثورة ثقافية تبتدىء من سنيِّ الطفل الأولى. وفي بلاهة يقولون " الاستنارة , الاستنارة" الاستنارة دي أصلها بضاعة " بستوردوها" من الصين أو وست منستر. إنها اتُفّصّل محليا وفي مسرح حر. فهل بسطت الحريات حقا؟ وهل يوجد بيننا من لهم بصر وبصيرة يغنيان عن استلاف المشروع الحضاري من بلدان أخري شرقيةً كانت أو غربية أشكّ شكا شديدا: ثقافة "أخْنِقْ فَطِّس أسْحل ......."هذه, مغروسة في الجناة وفي الضحايا. ؟ وبئست ثقافة النقل بالحذافيىر من أنّى جاءت فالتفتوا, أرجوكم. [email protected]