– 1 جاء بابكر، ابن الصول محمود النور، إلى الدنيا بهدوء، وغادرها بهدوء. وبين المجيء والمغادرة، عاش حياة مليئة بالمفارقات. لعب فيها طموحه دوراً مؤثراً، أطّر لمسيرة حياته فيما بعد. سكن مدناً مختلفة، وسكنته مدينة واحدة، عشقها عشقاً خرافياً. خاف عليها من عشقه ذاك، فآثر أن يبتعد عنها، ويطلّ عليها من حين لآخر، عندما يستبد به الوجد، ويقض مضجعه الشوق والحنين إليها. (وجئنا، جيل ما بعد الحرب الكونية الثانية، عبرنا جسر نهر القاش غرباً، عرفنا محطة سكك حديد كسلا، (سكة السفر القديم)، ومنها عرفنا موانئ، ومطارات، ومدن، غيّبت فيها سلطنة (الضوء المولد)، ضوء القمر، وخاصة قمر (خمسطاشر)، الذي نتذكره، وقد نصب نفسه سلطاناً بين جبل التاكا وجبل مكرام. أنها لوحة تعجز أن تأتي بمثلها عبقرية الفن التشكيلي، وإن أتت بمثلها، تعجز أن توفر بداخلها همس الخل الوفي، وطيبة وسماحة الخلصاء. إنها لوحة في كسلا فقط، وليست في مكان آخر من العالم. لوحة لا تتكرر، ولا تقدر بثمن، ولا تكفي خزائن الدنيا كلها للحصول عليها. هذا هو واحد من أسرار فتح شهية العقل والقلب للكتابة بزهو مترف ووله مبالغ فيه.).من كتابات بابكر محمود النور ************* وسط هدير المدافع وأزيز الرصاص، تلقى والده،الصول محمود النور، خبر ولادته، وهو يقاتل في الشمال الإفريقي، مع جيش الحلفاء إبان الحرب العالمية الثانية, فاحتفل معه الزملاء داخل المخبأ الضيق، واختلطت وتداخلت التهاني مع دوي المدافع وقصف الطائرات. تزامن ذلك مع الركض به مع الجموع الهاربة، من حي الميرغنية، خلال غابة دوم (ود الرتالي )، وهو محمول على كتف أمه، إلى ضريح السيد الحسن،في حي الختمية، خوفاً من الغارات التي تشنها طائرات (التليان) على المدينة. في نهاية الأمر، تعبت الأم من الركض المتواصل، فآثرت البقاء بجوار الضريح، حتى تضع هذه الحرب اللعينة أوزارها. - أصلك ما كنت بتبكي زي الجهال هكذا تمازحه أمه، بعد أن أصبح رجلاً، يجلس إليها فتحكي له عن طفولته. وعن إصابته بالتهابٍ حاد وورم داخل إذنه، مما أجبر الأطباء على إجراء جراحة في صدغه لإزالته، ظل أثرها باقياً ظاهراً للعيان، وكيف أنه ومع كل ذلك الألم، لم تصدر منه سوى أنات ضعيفة، لا تكاد تُسمع، ثم يصمت طويلاً. - مرات يخيل إلي أنك قد غادرت الدنيا، فأعمد إلى هزّك بقوة، حينها تفتح عينيك دون صوت، وتظل ساهماً تنظر إلى لا شيء، وكأنك تتأمل في حال هذا الكون، فيطمئن قلبي، بالرغم من صمتك، وهزالك. وأحمد الله انك مازلت تتشبث بالحياة. تقولها أمه، ويفتر ثغرها عن ابتسامة راضية. الصبر وقوة الاحتمال، ساعداه منذ طفولته في كثير من المواقف، أهمها وأخطرها، حين تسللت به أمه مشياً ذات ليلة مظلمة، ومعها مجموعة من أُسر المحاربين، قاصدين محطة الملوية، التي كانت في مقدمة الخطوط الأمامية لجيش الحلفاء، الذي يعسكر في غرب المدينة، لمنع تسلل عساكر التليان إلى عمق البلاد. حسب الروايات، فإن عساكر ( التليان)، وجلَّهم من قبائل القرن الأفريقي المغلوبين على أمرهم، ضاق بهم الحال، حين أهملت قيادتهم إمدادهم بالمؤن، فهاموا على وجوههم في المدينة، يستجدون الطعام أحياناً، ويأخذونه، إن سنحت الفرصة، غصباً، ويسألون بلهفة: - كرتوم قريب ؟ فيوجههم الأهالي ناحية الغرب: - بعد القاش طوالي تلقى كرتوم قاصدين بذلك أن يقع هؤلاء في قبضة الحلفاء المتربصين بالقرب من محطة الملوية. تلك الليلة، وامتثالاً لتعليمات عيون جيش الحلفاء المنتشرة بالمدينة، خرجت أُسر الجنود المنضوين تحت لواء جيش الحلفاء، بعد أن كثُر سؤال (التلاينة) عن أزواجهم، وأين هم، وماذا يعملون. ليلتها تسربلوا بالظلام، واجتازوا خور القاش نحو السواقي، واختبئوا بين شجيرات الموز انتظاراً لمن يقودهم إلى الملوية، وكانت ليلة ليلاء، تقول عنها أمه: - خفت في لحظة، أن يصيح بابكر أو يبكي، فينكشف أمرنا لعساكر التليان المنتشرين في السواقي، وهم يقتاتون من مزروعاتها، يلتهمون أي شيء، حتى الموز يأكلونه من جوعهم نيئا. لكن، كأن بابكر تفهم الموقف، فظل صامتاً، حتى وصلنا إلى الملوية، ومنها بالقطار إلى القضارف. وهكذا شاء الله، لحكمة يعلمها وحده سبحانه وتعالى، أن تكون القضارف، بالنسبة لبابكر، من دون سائر المدن التي عاش فيها، محطة عامه الأول في الحياة، وعامه الأخير فيها. 2- حتَّم العُرف الذي كان سائداً في ذلك الزمان، أن ينضم بابكر قبل الالتحاق بالمدرسة، إلى زمرة أقرانه المنتشرين بالسوق، كلٍ له معلم يأخذ عنه الصنعة، وهو عُرفٌ يحفظ خط الرجعة لمن يتعثر في دراسته، أو من لا يجد فرصة لمواصلتها،رغم نجاحه، لأسباب متباينة. يقول بابكر عن تلك الفترة: -كنت أجلس صامتاً، من غير حراك، معتلياً الصندوق الخشبي الذي يحوي قطع الأقمشة التي تنتظر دورها ليحيكها معلمي ( أحمد فكي آدم )، منتظراً بين الفينة والأخرى تكليفي بجلب بعض الأغراض، ( الزراير والإبر والخيوط وغيرها )، من دكان عمنا ( على عمر آدم )، المختص بأغراض الحياكة جميعها. غير ذلك كنت أمضي وقتي متأملاً حركة الناس، والباعة، وأسلي نفسي بإعطاء كل منهم لقباً، أحفظه سراً بيني وبين نفسي، وأنسج بخيال طفولتي قصصاً عنهم غاية في السذاجة، مستمداً أغلبها من أحاجي والدتي وجدتي. للحقيقة، تأثر بابكر كثيراً بالأحاجي والحكايات التي كانت تقصها جدته ووالدته، وساعدت تلك الحكايات على نحوٍ ما، في تشكيل وجدانه ومشاعره العاطفية. يقول في هذا، أنه كان متأثراً بحكاية تلك المرأة التي فتحت غطاء (سحَّارتها)،وانحنت لتأخذ شيئاً منها، وكان بحافتها مسمار نفذ إلى أحشائها فماتت، وتيتم أطفالها، ومن يومها وهو يتابع والدته حين تريد فتح السحَّارة* الخاصة بها، يمرر يده على حافتها، ليتأكد من عدم وجود مسمار أو ما شابه. ثم إن فترة الاستماع للأحاجي مابين المغرب والعشاء، كانت تُتيح له أن يتنفس شيئاً من الحرية في الحركة واللعب، وهي الفترة التي يغيب فيها خارج البيت الصول، (محمود النور )، الرجل المعجون بالعسكرية التي تربى عليها من صغره، فأحال البيت إلى ثكنة عسكرية مصغرة. كل شيء بنظام وترتيب، وأوامر واجبة التنفيذ، الاستيقاظ، النوم، الذهاب إلى السوق بمواعيد محددة، والعودة كذلك، وأي تأخير يعني مخالفة للانضباط، ومن ثم تلقى العقاب المناسب للمخالفة. فقط عصر يوم الجمعة، يسمح لهم باللعب خارج البيت، ولوقت محدد. الزيارات في الأعياد لأسرٍ بعينها، ملابس العيد الصغير، تُحفظ بعد العيد لاستخدامها في العيد الكبير. حتى حكاية (الختان)، كانت مفاجأة لأهل الدار. ذات صباح، توجه الصول وبصحبته بابكر إلى المستشفى، لم يُخبِر أحداً بوجهته، أو بما يعتزمه، صاحب الشأن نفسه ماكان يدري إلى أين يُساق. وأُعيد صاحبنا إلى البيت وقد قُضي الأمر. - من المؤكد أن الصول، لم يقصد أن يكون ديكتاتوراً متسلطاً في تربيته، فهو من منظوره، يرى أن هذه هي التربية السليمة. هذا ما سيقوله بابكر فيما بعد، ملتمساً العذر لوالده. ربما أن هذا الأسلوب، كان سبباً في أن يُناهِض بابكر مستقبلاً، كل أشكال القمع، وكبت الحريات، على المستوى العام. إلا أنه في حينه ما كان بمقدوره التمرد أو الاحتجاج. لاحقاً خفَّ قيد الانضباط قليلاً، بالتحاق الصول محاسباً بالسينما الشرقية، مما يعني أن هنالك سويعات أصبحت متاحة للعب خارج البيت. ................................................. * السحّارة: صندوق خشبي ضخم كان يستخدم قديماً لحفظ الملابس والأغراض النسائية يتبع [email protected]