الآن نحن في عام (1323م) أمام هجوم الملك عيزانا ملك أكسوم الحبشية على مملكة المقرة ليضع اللمسات الأخيرة لإزالتها من الوجود بعد أن هدّت شكيمتها القبائل الغازية من الشمال بالهجمات المتتالية، فيفر حكامها غربًا حتى قيل إنهم بلغوا أرض قبيلة اليوروبا في نيجيريا. ثم أتى حينٌ من الدهر ونشأت على أنقاضها مملكة علوة جنوبالخرطوم التي ذكر كثير من المؤرخين أنها كانت أكثر ازدهاراً من سابقتها ولكن تسلّط عليها تحالف عمارة دنقس وعبدالله جماع فخربها وأقام مملكته باسم الفونج . إذن نحن أمام مملكة سودانية عظمى قامت في قلب السودان بعد أن انقضّت على مملكة علوة التي عاصمتها سوبا واستمرت لمدة ثلاثة قرون كاملة ويزيد ، فقد دشّنت الفونج قيامها بالهجوم التحالفي والحكومات التحالفية والحروب التحالفية وتصارعت مع نفسها في حروب تحالفية وانقسامات فسيفسائية حتى خرّت على يد الغازي الخارجي محمد علي باشا "1821م" كنموذج للدولة التي لا بوصلة لها غير أن يكون هدف سُراتِها التمتع بالحكم والتسلّي بقشور الحروب ومكائدها فيما بينهم، بينما بلغ الجوع -الفجوة الغذائية- في سنة (1692م) سُمِّيت تحلّمًا (ام لحم) مبلغًا لدرجة أن أكل الناس فيها القطط ولا أحدٌ يدّكر أن موجات الجوع متكررة في كل الحقب السودانية لديدن الأمة في الحرب وإغفال سد الحاجات الضرورية. وبالرغم من أن مملكة الفونج قامت على ثقافة واقتصاد الحروب في صراعاتها المستمرة مع الممالك والقبائل السودانية الدانية منها والقاصية كما سنرى ونهلت شرعية بقائها من التحالفات والمكائد البينية لحكامها السلاطين والوزراء والجنود الهمج، إلا أنها لم تطلق ضد العدو الخارجي الحقيقي سهمًا فالتًا ولا كوكابًا طائشًا ولا طلقةً يتيمةً واحدة لزوم –الكشكرة- رغم أن أصوات وحناجر محمد عدلانها تردّدت ما بين النهرين تمشدقًا بِلا يغرنّكم انتصاركم على الجعليين والشايقية ... على غرار شطحات المتنبئ الشعرية في وصفه لزئير أسدٍ إذا ورد - و لم يرد بعد - بحيرة طبريّا شاربًا سيتردد صدى زئيره ما بين الفرات ونهر النيل بقوله: وردٌ إِذا وَرَدَ البُحَيرَةَ شارِبًا +++++ وَرَدَ الفُراتَ زَئيرُهُ وَ النيلا ولو صدق هذا البيت (الصّحّافي) للمتنبئ لمات بالصيحة كل من به روح ما بين النهرين قبل يوم القيامة، ولكن لكل زمانٍ صحّافِهِ وصحّاف مملكة الفونج هو وزيرها محمد عدلان. بَينا الملك جاويش وصبير في مملكتهما شكّلا القوة البأساء الوحيدة التي واجهت جيش محمد علي الغازي وأبلت بلاءً لو جادت مملكة الفونج بنصفه لاستوعب الغازي الغاشمُ عظمة قناة السودان جيدًا ولتردد مرارًا في استخدام القطط وسائلاً تعذيبية بإدخالها في سراويل الأنام خربشةً لجمع ضرائبه الباهظة. نشأت دولة الفونج "1504" ب "تحالف عمارة دنقس وعبدالله جماع" وليضعا حجر تأسيسها الاحترابي على بلاطة، فقد قاما بالهجوم على دولة علوة السودانية انتهى بخراب سوبا الشهير خرابًا تقاصر المثل في نقل حيثياته. نشأت في سلسلة حروب الفونج العبثية معركة بين الحلفاء أنفسهم سنة 1611م بين عدلان ملك الفونج والشيخ عجيب المانجلك شيخ العبدلاب عندما خرج الأخير على الفونج والتقى الجيشان في جريف كركوج قُتِل على إثرها عجيب. ثم نجت المملكة التحالفية من الانهيار بهجوم مباغت من قبل الحبشة على سنار من جهة أعالي النيل الأزرق انتهى بأوبة الحبشة إلى ديارها بالغنائم من كسلا . أردفت الحبشة هجومها هذه المرة على مملكة أروما إلا أن الملكة فاطمة تمكنت من الهرب وسلاطين الفونج ينظرون. وعندما تولى بادي أبو دقن الحكم الفونجي غزا النيل الأبيض وشن هجومه على الشلك عام 1645م وقتل فيهم خلقًا عظيمًا. لم تنته صولات بادي الدموية بعد فقد غزا جبال تقلي في كردفان . ثم خرج الشايقية على مملكة الفونج فتصدّت لهم عبر ذراعها العبدلاب، كما حارب الملك بادي الأحمر العبدلاب والأمين ارادب لخروجهم عليه. من الجانب الخارجي شن إياسو الثاني إمبراطور الحبشة هجومًا على سنار في عهد بادي أبي شلوخ عام 1744م فتصدى له الفونج بقيادة خميس فدحروا العدو بين النيل الأزرق والدندر. لم يلتقط الفونج أنفاسهم بعد حتى قاموا بتجريد حملة على كردفان بقيادة ود تومة وزعماء العبدلاب ومحمد أبي لكيلك وخميس، انهزم الفونج فيها شر هزيمة في قحيف سنة 1747م من قبل المسبعات، ثم تمكن القائد أبولكيكل من جمع فلول الجيوش الفارة وضم كردفان لسنار فرجع الجيش بنشوة الانتصار تلك وخلع الملك بادي أبا شلوخ فاستجار هو الآخر بالحبشة لرد ملكه. يلاحظ أن حروب الفونج أكثر من حروب الشطرنج! قادت الفونج شرقًا حرب ضد قبيلة المناع البجاوية ، كما دخلت سلطنة الفونج في حرب مع سلطنة الفور في النزاع على إقليم كردفان (1748) ثم أسدلت مملكة الفونج حروبها الضروس بالصراعات الداخلية بين سلطان مملكة الفونج الضعيف من جهة و وزارء دولة الفونج المتشاكسين من الجهة الأخرى، كما وتصارع الوزراء فيما بينهم صراع الأفيال وتم اغتيال ود عدلان بسبب مشاكله مع أبناء عمومته قبل أن يصل إلى اتفاق مع مملكة الفور بشأن توحيد الكلمة لمحاربة الغازي الأجنبي حتى خر عرش المملكة صرعى لجيش محمد علي باشا الغازي سنة 1821 م دون مقاومة تُنتظر. ينبغي التمييز وعدم الخلط بين الحروب التي يخوضها السودان مضطرًا مثل مواجهة العدو الخارجي المنتهك للسيادة والمغتصب للحقوق والتراب والتي لها مبررها، و الحروب البينية التي تدور بين السودان و فصائله من شاكلة: حرب الملك بادي أبي دقن مع ملك تقلي وقد علّق عليها الدكتور حيدر إبراهيم بقوله "هذه عقول حكام يستخفون بأرواح البشر، حروب تندلع لأسباب تافهة وتتوقف لأسباب أتفه" أو غزوات السودان ذات المطامح الموجهة إلى الخارج كغزو الأمير الزاكي طمل لأثيوبيا لمحاربة الملك جون (يوحنا) بغير أهداف واضحة وتجريدة مصر على يد الأمير عبدالرحمن النجومي بغير عتاد وأحلام المهدية السودانوية اليوتوبية في بلوغ الأستانة في تركيا والحرمين المقدسين ودخول قصر باكنجهمام على ضفة نهر التيمز بُعولةً أو الغزوات التمشدقية المعاصرة لحكومة الجبهة كإعلان حالة الحرب في بادئ مقدمها على الدول الغربية ورفع شعار: أمريكاروسيا دنا عذابها. إن ما ترتب من إشاعة مناخ الحروب المحلية شبه المستدامة والغزوات الموجهة إلى الخارج وحتى أطماع العدو الخارجي على السودان عبر الدهور تركت ترسباتها وتأثيراتها السالبة على الفرد والمجتمع والدولة في إشاعة ثقافة واحدة فقط هي الحرب و حصرت العقل السوداني على الدوام في مربع التقاط خيار العنف والعداء كأقرب محصلة متاحة لرفد حلول لأي مشكلة ما تواجه أحدهم أو كلهم حتى وإن كانت المشكلة لا تتطلب جهدًا ذهنيًا مقدرًا لسبرها. إن حالة إشاعة مناخ الحروب باستمرار لدرجة يحاكيها الأطفال الأبرياء حتى في ممارسة ألعابهم اليومية (حرب-حرب) لدليل على أن الحرب في السودان دهرًا أضحت خبز الناس اليومي الذي لا يتخيلون الحياة بدونها خلافًا لتوجهات إعمال العقل والتبصّر والحكمة لإنتاج حلول مدروسة ومتأنية تتطلب أفرانًا ضحمة من صهر الفكر وتمحيصه وتقدير نتائجها. لا غرو إن الحروب العبثية شبه المتوالية على مدى خمسة قرون (1504 - 2014 ) والتي مازالت مستمرة تحجب آلة التفكير (العقل) وتجسّر الهوة بين الإنسان والحيوان. يُلاحظ أن ما سنّاه المغول من حروب عبثية وإن لم يحققوا لهم من سمعة غير فروسيتهم العالمية المنقطعة النظير فإنهم لم يقوموا بتكرارها حتى الآن فقد استوعبوا من تجربة واحدة متكاملة دروس الحرب أيما استيعاب بينما السودانيون دخلوا غمارها متأخرين بل وعلى فترة من الرُّسولين ولم يعِدّوا لها عدتها بدليل غزواتهم التي لم تبلغ مقاصدها ونكباتهم المستمرة من العدو الخارجي واستمرائهم الحروب العبثية بلا منتصر فيما بينهم حتى حينه وما زالوا لا يريدون أن يمنحوا أنفسهم استراحة محارب ولو قليلة ليتدابروا نتائج حروبهم وحساباتها! تماماً كأمم الفئران يشاهدون وقوع زعيمهم في المصيدة فيُولُّون الدبر ثم لا يلبثون أن يعودوا ليقعوا في نفس الفخ كرّةً أخرى ولو لم يتغير امتياز الطُعْم من بصلة إلى قطعة جِبن، بينما المجاعات ووباء الكوليرا يحصد الأمة بمعدل كل سنة كبيسة. إن الأمر العجاب في مردود هذه الحروب السودانية إذا عنَّ النظر في إيجابياتها إن كان لها إيجابيات، فلا يبين أن السودان استفاد على المستوى الشخصي أو القبلي أو الأمة من تكرارها عبرةً، فلم نسمع أن خراب سوبا مثلاً وحّد مشارب الأمة بعد ذلك وأدركت أنها أمة واحدة ذات مصير واحد لا فكاك لها أو أنها توصلت إلى نتيجة مجربة بالدماء أن أول عدو لها هو الخارجي وما تبقى من عمر الزمان ينبغي إنفاقه في التنمية البشرية والمادية وبناء أمة تحاكي الأمم. أو على قناعة أن نظرية الخراب السوداني قد وصلت أدرجة التشبع وقرر الجمع استخدام نقيضها لعل الله يحدث للسودان بعد ذلك أمرًا. فلا هذا ولا ذاك، بل صار السودان على مستوى القيم والأخلاق السودانية النبيلة التي سُحقت في الربع قرن الأخيرة فحسب يحتاج لآلاف السنين الضوئية ولن يتمكن من ترميم محرابها. ذكر الدكتور مكي شبيكة في كتابه – السودان عبر القرون – رواية منسوبة لنعوم شقير الذي لم يشر إلى مصدرها أن الإمام السمرقندي!!! هو من أشار إلى عمارة دنقس بأن يبعث برسالة للسلطان سليم في الأستانة مفادها أن السودانيين مسلمون وعرب " قائمة بأنساب القبائل السودانية" حتى يثنيه عن محاربة السودان. لم تنطلِ هذه الفِرية على السلطان العثماني التركي الذي غزا حتى الجزيرة العربية و لم يأمن السودان شر الغزو التركي بها ولكنه اتخذ من تلك القائمة الحيلولة نسبًا حقيقيًا لم يتراجع عنه قيد أنملة حتى يومنا هذا، وإن صدق نعوم شقير في مصدره فإن هوية الأمة السودانية بدءًا من ذلك التاريخ صارت ألعوبة مثل إله عجوة متى ما جاعت الأمة قضمت منه. آدم صيام [email protected]