محمد الطيب كبور يكتب: لا للحرب كيف يعني ؟!    القوات المسلحة تنفي علاقة منسوبيها بفيديو التمثيل بجثمان أحد القتلى    لماذا دائماً نصعد الطائرة من الجهة اليسرى؟    ترامب يواجه عقوبة السجن المحتملة بسبب ارتكابه انتهاكات.. والقاضي يحذره    مصر تدين العملية العسكرية في رفح وتعتبرها تهديدا خطيرا    إيلون ماسك: لا نبغي تعليم الذكاء الاصطناعي الكذب    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    دبابيس ودالشريف    نحن قبيل شن قلنا ماقلنا الطير بياكلنا!!؟؟    شاهد بالفيديو.. الفنانة نانسي عجاج تشعل حفل غنائي حاشد بالإمارات حضره جمهور غفير من السودانيين    شاهد بالفيديو.. سوداني يفاجئ زوجته في يوم عيد ميلادها بهدية "رومانسية" داخل محل سوداني بالقاهرة وساخرون: (تاني ما نسمع زول يقول أب جيقة ما رومانسي)    شاهد بالصور.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبهر متابعيها بإطلالة ساحرة و"اللوايشة" يتغزلون: (ملكة جمال الكوكب)    شاهد بالصورة والفيديو.. تفاعلت مع أغنيات أميرة الطرب.. حسناء سودانية تخطف الأضواء خلال حفل الفنانة نانسي عجاج بالإمارات والجمهور يتغزل: (انتي نازحة من السودان ولا جاية من الجنة)    البرهان يشارك في القمة العربية العادية التي تستضيفها البحرين    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    الخارجية السودانية ترفض ما ورد في الوسائط الاجتماعية من إساءات بالغة للقيادة السعودية    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    الدعم السريع يقتل 4 مواطنين في حوادث متفرقة بالحصاحيصا    قرار من "فيفا" يُشعل نهائي الأهلي والترجي| مفاجأة تحدث لأول مرة.. تفاصيل    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    الأحمر يتدرب بجدية وابراهومة يركز على التهديف    كاميرا على رأس حكم إنكليزي بالبريميرليغ    لحظة فارقة    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    كشفها مسؤول..حكومة السودان مستعدة لتوقيع الوثيقة    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان المَغُولي أو الخراب المستدام "7 "
نشر في الراكوبة يوم 05 - 07 - 2014

يستنكِر كثير من المؤرخين أن تُطلق كلمة (استعمار) على الغزو الخارجي مثل غزو الإنجليز للسودان عام 1899م، فإن كان ليُسوَّغ لهم من باب الحس الوطني الطاغ كون كلمة استعمار تنطوي على غزوٍ غاشمٍ واستلاب سيادة وهو خلاف ما يظهر من تعمير وبناء، إلاّ أننا إذا أمعنّا النظر كرتين في لوحة الغزو العريضة هذه وسلبياتها لبانت لنا من خلال خلفيتها صورة إيجابية أخرى ذات ملامح تعميرية وبناء تلوّح بإنجازاتها لا تخطئها العين الاقتصادية وهي تقوم على استراتيجية وطرائق معرفة مغايرة لما جُبلت عليه العقلية السودانية. أما إذا أُجرِيت مقارنة فيما أنجزته عهود الحكم الوطني عبر إنجازات عدة قرون وما قام به الإنجليز في غضون نصف قرن لتبيّن مدى الاختلاف الكبير في المعطيات وكل ذلكم دون السقوط تحت عقدة الاستلاب والاحتفاء الزائد بعظمة الخواجة التي بلغت درجة أن تنادى بها البعض من على حوائط المنابر لإعادة الاستعمار الأجنبي للسودان!
إن أول ما شاده الإنجليز فور دخولهم أرض السودان أن أقاموا كلية غردون التذكارية على أسلوب علمي ذي أهداف محددة مع إبقاء لغة التدريس هي العربية وذلك عندما وضع اللورد كرومر حجر أساس الكلية عام 1900م باسم الملكة فكتوريا التي لها نصيب مقدر في جمع تبرعاتها قائلاً: "إن الكلية لا ترتبط بدين خاص وإنها مفتوحة للجميع، وسيكون التدريس فيها باللغة العربية" اشتملت الكلية في البدء على مدرسة ابتدائية ومدرسة للمعلمين والقضاة الشرعيين ومدرسة صناعية ومعملاً للتحاليل الكيميائية والباكتيرية. ثم شادوا المدراس الأولية في أغلب المدن الكبيرة في السودان ذات طابع يتعلق بالإدارة والاقتصاد لخلق طبقة من الصناع والمهرة وتدريب طبقة للمساعدة في إدارة دفة الحكم، كما أنشئت الورش الصناعية كترسانة الوابورات النيلية والسكك الحديد فضلاً عن إنشاء المدارس الابتدائية والكتاتيب. إن فكرة البدء بإنشاء صروح علمية حديثة في السودان في حدِّ ذاتها لملاحظة دقيقة على أن السودان يفتقد كليةً للمنهج العلمي ومؤسساته التي ترفد نظام الحكم بالكوادر المؤهلة. وإن يعجب المرء ليعجب على فرمانات المقاطعة الصادرة من الطوائف الدينية للتعليم الإنجليزي وبث مقولة ذات أبعاد دينية تفيد بأن منهاج تعليم الإنجليز وقبله التُرك تُفضي إلى الكفر ومآلها إلى النار، وبهذه الفرمان المقدسة حافظت الطوائف الصوفية على استبقاء جهل التبع والمريدين لها وأسهمت كثيرًا في إبقاء نسبة كبيرة من المواطنين أميّين.
إنّ إنشاء الصروح العلمية من قِبل الإنجليز لدليل على بيات العقل السوداني وإغفاله لأهمّ مرحلة في سلّم الحضارة وأسباب تطورها وهذا ما سعى الإنجليز حثيثًا لردم هوته، كما أن قيام مشروع الجزيرة عام 1911م بين النيلين لدليل على أن السودان بلدٌ زراعي في المقام الأول لتوفر شروط الزراعة وأسبابها وبمقدوره بأقل الجهود أن يكون سلة غذاء ضخمة. إنه مشروع بلغت مساحته مليوني فدان مستوية كطاولة البليارد يُروى دون عنت انسيابيًا واتجاه النيل من خزان سنار الذي لم يكتفِ بمد المشروع بالري فحسب بل ويُولّد الطاقة النظيفة التي لم يكتشف العالم مزاياها إلا بعد ظهور أضرار التلوث جراء استخدام الطاقة غير الصديقة للبيئة فأقام الدراسات البيئية الحديثة لمعالجة مضاعفاتها.
أرسى الإنجليز بغزوهم للسودان نظامًا إداريًا محكمًا ومنضبطًا باسم الخدمة المدنية أدى غرضه بكل نجاح وكان أساسًا متينًا للتفوق الإداري السوداني على أغلب دول الجوار حتى عهد قريب. أمّا أهم الميزات الإدارية الناجحة التي أسقطها السودان فور خروج الإنجليز هي عملية الصيانة المستمرة والمتابعة والتقييم للمشاريع والمؤسسات وكافة البنى التحتية والعمل على الحفاظ عليها وتطويرها. خرج الإنجليز فانهارت السكك الحديد كرقع الدومينو وأصبح مشروع الجزيرة القاري عبئًا على الحكومات السودانية المتعاقبة لدرجة أن تم عرضه كمشروع خاسر في مزادات الخردة كشأن الأدوات التالفة، أما شبكة الاتصالات كالتلفونات والتلكس التي ربطت معظم القطر آنذاك على امتداد الأفق في شكل مصفوفات من أعمدة التلفونات الخشبية المضادة للتسوس والمقاومة لعوامل البيئة اختفت عن الأنظار كليةً ولم يعد يتذكّر الناس ما إذا كانت بالفعل قائمة في يومٍ ما وذات فائدة أم هي دعاية حنين تحسُّرًا على العهد الإنجليزي.
إن سلسلة الإهمال واسترخاص المال العام أصبحت صفة سودانية متلازمة يرفدها الحس الأعمى والأفق القبلي الضيّق بأنّ ممتلكات الدولة العامة ليست بممتلكات للفرد وليست ممتلكاتٍ للقبيلة فحسب وبالتالي بمقدور المواطن العابر استغلالها الشخصي ولا مندوحة في القيام بإتلافها إن لم يرجُ من ورائها فائدة تلوح في أفق تفكيره القريب. ولغت في صفة استرخاص المال العام حتى الحكومات الوطنية بل وتعاملت معه ك(أرنب كوع) الأمر الذي ظل معه الحكم في السودان الأمل الوحيد للبقاء والحقل الوحيد للصراع والتنافس لأنه الوسيلة الوحيدة التي توفر للإنسان وعشيرته وبطانته سبل العيش الرغيد، فما أن تشعر حكومة وطنية بدنو أجلها حتى تعمل على إخفاء إنجازات الدولة باعتبارها إنجازاتها الخالصة وما إن تأتي حكومة وطنية بعدها حتى تزيل ممتلكات الدولة باعتبارها آثار سلبية لسابقتها بل حتى إن معارضة الحكومات المشهود لها لابد أن تقوم على عوامل تخريب المنشآت الوطنية العامة واتلافها وإلا لفقدت حسها السوداني ومشروعيتها. وبالرجوع قليلاً إلى عقلية المغول التخريبية التي حسب ما ذُكر آنفًا والتي تقوم على هدم الحضارات الأخرى دون فائدة معلومة، فقد التقت هذه الصفة التخريبية والعقلية السودانية عامةً في ذات الصفة مع فارق أن المغول كان حقل تخريبيهم لإنجازات غيرهم بينما السودانيون يخربون إنجازاتهم التي فيما بين حدود ترابهم بأيديهم.
حريٌ بالذكر في معرض ما قام به الغزو الإنجليزي للسودان بذكر أكبر عيوبه السياسية ذات الآثار الباقية وقد انتبه إليها معظم المشتغلين بالسياسة انتباه مكائد سياسية وليس بغرض وضع الأسس المدروسة للقضاء عليها، إن أول هذه العيوب هي أن زرع الإنجليز فيروسين هدّامين في السودان: نظام الإدارة الأهلية وقانون المناطق المقفولة. إن نظام الإدارة الأهلية الذي لجأ إليه الحكم الإنجليزي كأيسر الطرق للتحكم في السودان من بُعد مع تقليديته وقيامه على أسس ارتكاسيية، فقد أحيا سيرة سلبية سالفة جادت بها عبقرية حكام دولة الفونج، ومن هنا تم إحياء مشروع القبلية في السودان إنجليزيًّا ومُنحت صكوك مشروعيتها التي ظلت تنشط سلبًا على حساب مشروع الوحدة الوطنية الشامل وعملت على تآكله. أما المثلبة الكبرى الأخرى فهي قانون المناطق المقفولة القائم على مبدأ فرّق تسُد(divide and rule). وبهذا المشروع التقسيمي القاتل تم إنشاء شعبين متباينين في رقعة أرض واحدة ذات تاريخ واحد وأصل واحد. الأمر الذي جعل منه مكروب تقسيم نشط تغذيه العصبيات القبلية ومنافع الاستئثار الذاتية ويقوم على أسس حواجز نفسية واجتماعية ولغوية ودينية، ومن كثرة غبائن الجنوبيين جراء مكائد حكام الشمال المتواترة أن صار قانون المناطق المقفولة الذي أدى إلى فصل الأمّة قاعدةً صلبةً لعدم الالتقاء بل وحجةً لا تشوبها شائبه لدى الجهتين كلٌ يوظفها حسب مقتضياته حتى اهتدت هذه الأمة متأخرًا عبر صوت المفكّر الوحدوي الراحل جون قرنق ليرد للنصف الجنوبي تاريخه وأصوله ولكن بعد أن بلغت جرثومة الإنجليز الانفصالية حدًا نفسيًا انتهت إلى شطر القطر إلى نصفين.
آدم صيام
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.