إلى الصديق/ محمد الهادي/ السويد. لكل منا ثلاثة أمكنة: الوطن. المنفى. الندم. *(سأحزم حقائبي ودموعي وقصائدي وأرحل عن هذه البلاد ولو زحفت بأسناني لا تطلقوا الدموع ورائي ولا الزغاريد أريد أن أذهب دون أن أرى من نوافذ السفن والقطارات مناديلكم الملوِّحة استروح الهواء منكسراً أمام مرايا المحلات كبطاقات البريد التي لا تذهب لأحد لنحمل قبورنا وأطفالنا لنحمل تأوهاتنا وأحلامنا ونمضي قبل أن يسرقوها ويبيعوها لنا في الوطن: حقولاً من لافتات وفي المنافي: وطناً بالتقسيط." .. .. لم يكن عيسى يتخيل، وهو يرعى غنمات القرية، أن يركب يوماً تلك الكتلة المعدنية الهائلة التي كان يتأملها وهي تلمع في أعالي السماء وتترك خلفها خيطاً من الدخان الأبيض لا يلبث أن يتناثر في القبة... لم يكن يشغل فكره بما يمكن أن تحمله تلك التي عرف لاحقاً أن اسمها الطائرة، من أين أقلعت؟، وأين ستهبط؟ وبماذا تتغذى في أسفارها الطويلة؟ ومن يقودها؟ أهم بشر مثلنا أم من الجن والعفاريت؟ كان أقصى ما شاهده ولمسه من آثار الثورة الصناعية التي كان قد مضى على بدئها هي سيارة (عبدو شتات) التي تنفث دخاناً أسود يختلف عن دخان الطائرة الأبيض، وتصدر أصواتاً غريبة عجيبة وهي تتسلق منحدرات الطريق الترابي إلى القرية، فيما عبدو يشتم الأولاد الذين يلحقون السيارة ويتعربشون بمؤخرتها فرحين، مجبِرين عبدو على التوقف أكثر من مرة، والترجل منها محاولاً الإمساك عبثاً بأحد هؤلاء العفاريت لتأديب الآخرين به. كل هذه الأشياء وغيرها الكثير تمر أمام عيسى وهو يصعد أولى درجات سلم الطائرة في رحلة لا عودة فيها غالباً، رحلة إلى بلاد لا يعرف لغتها وطقسها وسحنات ناسها، وأطعمتها، وشكل أغنامها... كان خياله يلعب بحريّة أكثر حين يجد نفسه راعي غنم هناك، كانت أغنامه الجديدة مختلفة، تقف عاجزة عن فهم إشاراته وأصواته التي اعتاد عليه خلال مسيرة أربعين عاماً أمضاها قائداً للقطيع وموجهاً له، فيما لم يكن القطيع يعرف سوى الانصياع لتعليمات الراعي. وكان عيسى يصرخ بها ويصفّر ويستعمل مصطلحات اللغة التي يحفظها وتحفظها أغنامه الغابرة دون جدوى، كانت أغنامه الجديدة تنظر إليه ككائنات عاقلة، يكاد يرى على شفاهها ابتسامات السخرية من هذا الراعي الهارب، الراعي الذي يظن أن الدنيا توقفت عنده وعند أسلوبه ولغته وطريقة قيادته للقطيع. أوشك عيسى أن يقفز من الطائرة خوفاً مما ينتظره هناك من مفاجآت كهذا الحلم، كيف تتجرأ هذه الكائنات على عصيان تعليماته؟ كيف تسخر من طريقته هو الذي كان يفاخر رعيان القرية والقرى المجاورة بطاعة قطيعه وخلوّه من غنمة ناشزة... وكانت العصا جاهزة لأي بادرة عصيان. عيسى الآن في طريقه مهاجراً إلى بلاد بعيدة، قال عنها صديقه (حسن شقلِبها) الذي درس حتى الصف السادس ويسمع أخبار المذياع ويفهمها ويترجمها لعيسى الذي لا يلبث أن ينساها... قال (شقلِبها) إن نساء تلك البلاد جميلات أكثر مما تتصور، وكثيرات منهن يخرجن أنصاف عاريات، وأنّ بيوتهم عالية ونظيفة ودافئة... كان يسهب كل يوم في الحديث عنها، لكن عيسى كان يرفض مجرد التفكير في مغادرة القرية وغنماته وزوجته التي لم يعرفها بعد، لكنه كان على يقين أنها ستأتي يوماً وتخلّصه من أحلام يقظته الليلية. الحاصل.. عيسى الآن في جوف وحش الجو الذي كان يراه يومياً، ويتأمله ساخراً وهو يروي لأغنامه سير بطولاته وفتوحاته في أزقة وزرائب القرية وحقولها، فيما هي تستمع طائعة صامتة. عيسى الآن واحد من ملايين السودانيين الذين يغامرون بكل شيء، الحياة وجنى العمر والذكريات، من أجل الوصول إلى بقعة آمنة تأويهم وتحفظ بعض كرامتهم. سيعيش من إعانة اللجوء، ويلبس كما شباب قريته الذين أكملوا دراستهم أو عاشوا في المدن. لكنه سيفتقد إلى الكائنات الوحيدة التي كانت تعطيه الفرصة ليقول ما يريد دونما إسكاته أو مقاطعته، سيفتقد تلك الكائنات التي كانت تطيعه في كل شيء، سيفتقد متعة أن تكون الآمر الوحيد فيما الآخرون يطيعون بل وينظرون إليك نظرات الشكر والامتنان، لأنك تريحهم من عبء التفكير واتخاذ القرار، لأنك تقوم بكل شيء بدلاً عنهم. الراعي الحالم سيصبح عما قريب مقيماً في بلاد باردة، وربما ينسى القطيع، والبراري التي أخذت أكثر من نصف عمره... الراعي رمى عصاه ورحل... إنها الحرب. إنها نهاية زمن القطيع. الدكتور نائل اليعقوبابي [email protected]