((نعم للدوري الممتاز)    رئيس مجلس السيادة يتلقى اتصالاً هاتفياً من أمير دولة قطر    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    الكشف عن سلامةكافة بيانات ومعلومات صندوق الإسكان    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    شاهد بالفيديو.. حسناء الإعلام السوداني إسراء سليمان تبهر المتابعين بإطلالة جديدة بعد عام من الغياب والجمهور يتغزل: (ملكة جمال الإعلام وقطعة سكر)    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية المتابعين.. الصحفي إبراهيم بقال يتجول رفقة بعض أفراد الدعم السريع داخل مكاتب الولاية وهو يحمل رتبة "فريق" وينصب نفسه والي لولاية الخرطوم    بنك الخرطوم يعدد مزايا التحديث الاخير    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة سودانية تظهر في لقطات رومانسية مع زوجها "الخواجة" وتصف زواجها منه بالصدفة الجميلة: (أجمل صدفة وأروع منها تاني ما أظن القى)    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة سودانية تظهر في لقطات رومانسية مع زوجها "الخواجة" وتصف زواجها منه بالصدفة الجميلة: (أجمل صدفة وأروع منها تاني ما أظن القى)    مفاوضات الجنرالين كباشي – الحلو!    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه    محمد وداعة يكتب:    عالم «حافة الهاوية»    مستشفي الشرطة بدنقلا تحتفل باليوم العالمي للتمريض ونظافة الأيدي    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    تعرف علي أين رسم دافنشي «الموناليزا»    عقار يلتقي وفد مبادرة أبناء البجا بالخدمة المدنية    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    كوكو يوقع رسمياً للمريخ    برقو لماذا لايعود مديراً للمنتخبات؟؟    السودان..اعتقالات جديدة بأمر الخلية الأمنية    باريس يسقط بثلاثية في ليلة وداع مبابي وحفل التتويج    جماهير الريال تحتفل باللقب ال 36    شاهد بالصور.. (بشريات العودة) لاعبو المريخ يؤدون صلاة الجمعة بمسجد النادي بحي العرضة بأم درمان    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    نتنياهو مستمر فى رفح .. إلا إذا...!    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    السيسي: لدينا خطة كبيرة لتطوير مساجد آل البيت    ترامب شبه المهاجرين بثعبان    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف كان الإداريون البريطانيون يقضون أوقات فراغهم في السودان؟


Leisure
م. دبليو. دالي و جين هوقان M.W. Daly and Jane R. Hogan
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لسطور وردت في كتاب عن "صور الإمبراطورية Images of Empire" من تأليف م. دبليو. دالي و جين هوقان، صدر في عام 2005م عن دار نشر بريل – لايدن في بوسطن بالولايات المتحدة. وبروفيسور دالي (والحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة لندن عام 1977م) هو واحد من أهم مؤرخي السودان ومصر (خاصة فيما يتعلق بتاريخ عهد الحكم الثنائي) وله عدد من المؤلفات مثل "امبراطورية على النيل" و"السودان المستعمر" و"تاريخ السودان" بالاشتراك مع ريتشارد هيل، و"أحزان دارفور" وكتاب "صور الإمبراطورية" وغيرها. أما جين هوقان فهي مسئولة "الوثائق السودانية" في مكتبة جامعة درم بإنجلترا.
ويحوي كتاب "صور الإمبراطورية" مئات الصور (النادرة بالفعل) عن البريطانيين في السودان منذ بداية القرن العشرين وحتى نهاية عام 1956م، والمحفوظة في قسم السودان بمكتبة جامعة درم مصحوبة بتعليق بالغ العمق والقصر في نهاية كل فصل من فصول الكتاب الأحد عشر (مثل فصول "النساء البريطانيات في السودان"، و"السودان في سنوات الحرب"، و"المواصلات" و"الشمال" و"الجنوب" وغيرها).
والجزء المترجم هنا هو جزء صغير عن طرق قضاء البريطانيون لأوقات فراغهم في ذلك العهد الثنائي.
المترجم
**** **** **** **** ****
تعددت أهداف الأوربيين من العيش والعمل في أفريقيا. وفي هذا الجانب يبز السودان غيره من الدول وذلك لخبرته الطويلة بالاستعمار. وكان المصريون العاملون في خدمة حكومة العهد الثنائي، مثلهم مثل من كان قبلهم من المصريين العاملين في حكومة العهد المصري – التركي، يبغضون، بل يحتقرون، العمل بالسودان. ولا غرو، إذ أن السودان ظل دوما مكانا للنفي أو اللجوء، ينسى فيه الجنود، وتختتم بالعمل فيه الحيوات المهنية. غير أنه، وعلى الرغم من أن العدد القليل نسبيا من البريطانيين الذين أتوا للعمل للسودان كانت لهم أسبابهم للعمل بالبلاد، إلا أنهم جميعا أتوا على الأقل مختارين لا مجبرين. وساهم تنوع الوظائف المعروضة للبريطانيين للعمل بالسودان (كما في الخدمات الدبلوماسية الحديثة) على جذب الكثيرين من البريطانيين للعمل بالسودان في مختلف التخصصات تحت ظروف آفاق محيرة وحقائق قاتمة. وكان العمل بالسودان يفتح للبريطاني فرصا عديدة للترقي المهني، حيث يظل يعمل لسنين في منطقة إقليمية أو منطقتين، وغالبا ما كان الواحد منهم يتحاشى العمل في العاصمة. وكانت للخبراء من الموظفين البريطانيين في تخصصات معينة كالقانون أو اللغات أو حتى شئون الإدارة الأهلية حظوة وميزة خاصة. وتعززت غريزة الملكية عند هؤلاء الموظفين بعملهم – طوال فترة خدمتهم - في قطر واحد، ودون التعرض لخطر النقل لقطر آخر. وقد يصح القول بأن العمل المستمر لمدة طويلة في الوظائف السودانية قد ساهم، وإلى حد ما، في تقوية العلاقات الشخصية بين الحكام والمحكومين، وفي إنشاء مجتمع مدني بالسودان وهو تحت الدرع البريطاني.
وسوقت الإدارة الاستعمارية بالخرطوم، خاصة في سنوات الاستعمار الأولى، للبريطانيين في بريطانيا أن عمل الموظف البريطاني في السودان عمل متنوع ومطلق الصلاحيات. وبذا تكونت صورة ذهنية عن مفتش المركز بأنه رجل قادر على أداء أي عمل يوكل إليه (Jack of all trades)، غير أن لا أحد يذكر أيضا أنه لا يجيد أي عمل معين إجادة كاملة (master of none). بل قد يعد ذلك المفتش في بعض المناطق المتخلفة "أبا لشعبه". ولم تكن تلك الصورة بعيدة عن الواقع كثيرا. فقد كانت تلك الخدمات الحكومية البدائية تفتقر حقا إلى التخصص، وكانت موجهة أساسا للحفاظ على القانون والنظام في بلاد تمت السيطرة عليها. وبدت إمكانية حدوث أي تطور اقتصادي بالسودان ضئيلة جدا، فليس للبلاد القدرة حتى على مجابهة تكاليف إدارتها، ولم يكن متوقعا الكثير من "الحكومة" على أية حال. لذا فقد كان على الموظفين البريطانيين أن يعملوا تحت ظروف بالغة الصعوبة وبكثير من الارتجال من أجل ترسيخ سلطتهم على أرض غريبة ليست لهم بها خبرة، ووسط شعب مختلف عما ألفوه. غير أن السمة المميزة لعمل الإداري البريطاني في السودان كانت هي تنوعه وليس مشقته. فقد كان الإداريون يجدون يوميا متسعا من أوقات الفراغ، كما تدل على ذلك المذكرات والملاحظات والصور التي تركها معظمهم. وكان هؤلاء الموظفون ينعمون بأطول عطلات سنوية مقارنة مع غيرهم من موظفي الإمبراطورية الآخرين. وأسس أولئك الموظفون في المدن (حتى في بدايات العهد الاستعماري) روتينا في المكاتب ترسخ مع مرور الأيام وبظهور تخصصات مختلفة وحدوث بعض التطور الاقتصادي في البلاد.
وجعلت مساحة السودان الشاسعة وتباين نظمه البيئية منه جنة للرجل الرياضي. غير أن المقولة البريطانية الشائعة من أن السودان هو "بلد أناس سود يحكمهم رجال زرق Land of blacks ruled by blues" (أي أفارقة يحكمهم خريجو جامعتي أكسفورد وكامبردج) لم تصدق إلا في منتصف سنوات العهد الاستعماري. فقد قد حكم السودان في سنوات الاستعمار الباكرة بواسطة ضباط الجيش البريطانيين المنتدبين من الجيش المصري، وليس بالمدنيين، والذين لم يتقلدوا زمام السلطات إلا في منتصف سنوات ذلك العهد. ولم يكن اولئك الضباط من خريجي الجامعات، وكان كل افكارهم في قضاء وقات الفراغ لا تتعدى صرم الساعات الطوال في حانة (بار) ميز الضباط، وليس في لعب الرجبي (rugby). وكانوا يفضلون الرياضات العسكرية (غير المرهقة) مثل الصيد والرماية، وليس المبارزة بالسيف، وبالتأكيد ليس كرة القدم. وأقتصر صغار الضباط في الرياضة على لعب البولو (polo). ولم يكن لونجت، أكبر ضابط بالبلاد، من اهتمام بالرياضة غير لعبة الجولف (Golf)، والتي كان مدمنا عليها. ولعله هو أول من أقام ملعبا لتلك اللعبة على سهل رملي ممتد يمارس فيه تلك الرياضة المحببة له في رفقة ضباط آخرين، يأتونها طائعين أو مجبرين.
وتغيرت طبيعة وأشكال الترفيه عند البريطانيين في السودان بعد السماح لهم باستقدام زوجاتهم – ولو بصورة شبه دائمة في الشهور الباردة نسبيا- وبعد استبدال ضباط الجيش بإداريين مدنيين في غضون الحرب العالمية الأولى وبعدها. ولم تمر إلا سنوات قليلة بعد استقرار الأوضاع بالبلاد حتى تبدلت الحياة الاجتماعية للموظفين البريطانيين، وظهرت تجهيزات وأمور لم تكن موجودة سلفا مثل المحادثات الهاتفية الرسمية، وأوراق اللعب، وارتداء ملابس وجبة العشاء، ومراعاة التراتبية والأقدمية العسكرية. وسَخَّرَ ونجت وزوجه جهدهما للدعاية لموسم سمياه "موسم السودان" وفيه كان السواح الأوربيون (من المشهورين ونساء ورجال الطبقة الأرستقراطية) يقدمون على السودان شتاءً. وبعد مرور عدد من السنين بدأ البعض في الحنين إلى تلك "الأيام الأولى الطيبة" ... أيام العزوبية وحرية الشرب والصيد والرماية والأنس في المعسكرات حول نار متقدة. ومن هنا بدأت التحيزات والمقارنات بين الحياة الجامحة شبه البدائية في بادية كردفان، والعيش في المدن النيلية (خاصة الخرطوم) بكل ما فيها من تصنع وزيف artificiality.
ومع مرور الأيام غدا مجتمع البريطانيين في السودان، وإلى حد ما، صدى لمجتمعهم في بريطانيا، ورسخت ممارسات تزجية أوقات الفراغ المعتادة في بريطانيا عند البريطانيين بالسودان بصورة أكثر هدوءا وتنظيما وشمولا. ولكن ظل ترفيه مفتش المركز عند قيامه بجولات في البادية يقتصر على الرماية والصيد، بينما نظم الإداريون في العاصمة المثلثة والمدن الكبرى في الأقاليم أندية لكرة القدم، وملاعب للتنس، وساحات للبولو، وسباق الخيل (وليس هجن الإبل) مع سُيَّاس محترفين، وسباقات القوارب بقادة خبراء وأطقم متخصصة. وكان الفائزون في تلك الرياضات يمنحون كؤوسا وجوائز قيمة. ويمكن القول بأن البريطانيين مارسوا في السودان نفس نشاطاتهم الرياضية التي كانوا يمارسونها في بلادهم، ولكن تحت ظروف أفضل.
وكان ديدن ومثل البريطانيين من العسكريين والمدنيين من خريجي المدارس المشهورة المهووسين بالصحة الجسدية هو مقولة "العقل السليم في الجسم السليم mens sanis in coropre sane". ولا شك أن ما أشيع عن تحيز السلطات لخريجي جامعتي كمبردج وأكسفورد في التعيين بالوظائف الإدارية والسياسية بالسودان كان أمرا مبالغا فيه. غير أن ونجت ومن معه من كبار الموظفين (ولأسباب سياسية وشخصية عديدة) كانوا يؤثرون اختيار الذين كانت لديهم قدرات رياضية وحب للنشاطات التي تمارس في الهواء الطلق، ويتمتعون بأجسام تقوى على تحمل خشونة وطقس ومصاعب الحياة في مختلف بقاع السودان (وهل كان جو السودان في الصيف بأكثر سوءا من ليفربول في الشتاء؟). وعلى كل حال فقد كان السودان يجتذب طبيعيا الشباب البريطاني النشط المغامر العاشق للألعاب التي تقام في الهواء الطلق، وكثير من النشاطات الأخرى التي لم يكن السودانيون يعرفونها (انظر المقال المترجم بعنوان " القسم السياسي في دولة الحكم الثنائي: صورة الإمبرياليين" في هذا الرابط:
http://www.alrakoba.net/articles-act...-id-49705.htm،
ومقال "كيف كان البريطانيون يختارون الأطباء للعمل في السودان" في الرابط: http://www.sudanray.com/showthread.p...AF%D8%A7%D9%86
ومن الأدلة الباكرة على هذا هو سنوات التكوين الأولى لكلية غردون التذكارية. فعلي الرغم من أنها كانت في البدء مجرد مدرسة أولية (رغم مبناها الفخم) ولا يمكن مقارنتها بالمدارس العريقة في إنجلترا، إلا أن أثرها وتأثيرها كان عظيما، خاصة فيما يخص الإدارة والروتين والنظام والعاب الجمباز اليومية والرياضات الاجبارية. وطبعت بطاقات بريدية عن الكلية في أيامها الأولى تظهر الطلاب وهم في جلابيبهم البيضاء وهم يصطفون لأداء تمارينهم الرياضية. وأدخلت في البلاد لعبة كرة القدم، وظلت اللعبة الشعبية الأولى في البلاد حتى الآن، وعدها الكثيرون "أعظم هدايا الحكم الاستعماري" للبلاد. ولكن لم تجد لعبة الكريكت (Cricket) لها حظا في الانتشار في أوساط السودانيين. غير أن كرة السلة دخلت للسودان بعد سنوات عن طريق البعثات التبشيرية الأمريكية وغيرها، وعن طريق بعض شباب الدينكا الذين منحوا بعثات لكليات شمال أمريكا.
وعلى الرغم مما سبق قوله، إلا أن هنالك الكثير مما يمكن قوله عن حياة البريطانيين الاجتماعية غير الرياضة. فقد أنشأوا (ودون أدنى شعور بالحرج) جمعيات في أغرب الأماكن، فصارت هنالك ما أسموه College Weekend Society و country- house في أعالي النيل! وبين أيدينا مئات الصور الفتوغرافية للإداريين البريطانيين وهم في حفلات راقصة بملابس تنكرية متنوعة، وأخرى يؤدون فيها مقاطع كورالية وتمثيليات فكاهية. ولعل لارتداء الإداريين لتلك الملابس التنكرية أهمية سياسية، فقد كانت دليلا على ثقة الإداريين البريطانيين في أنفسهم في التعامل مع الأهالي، وعلى عدم إخفائهم لبعض السخافات أمام محكوميهم في أوقات اللعب، بينما كانوا يتعاملون معهم بكل جدية وصرامة في أوقات العمل. وهنالك أيضا صور كثيرة لصبيان من الأهالي يقفون وهم يحملون معاطف المفتشين البريطانيين وهم يلعبون البولو.
وتنوعت طرق إزجاء الفراغ عند البريطانيين من الألعاب الجادة (والعاقلة) إلى أكثرها صخبا وضجيجا، وظلت ممارسات تلك الرياضات، وطوال الحكم الاستعماري، طبقية (stratified) تماما، وتشبه ما هو معتاد في البلد الأم. وقل من المفتشين من كان يأخذ بعادات الأهالي العرب الرحل في العيش. وخير من يمثل هؤلاء هو ويلفريد ثيثقر (Wilfred Thesiger)، والذي عده البعض مثالا كاركتوريا لقدرة بعض البريطانيين على العيش حياة مزدوجة، حيث كان يعيش مثل الجرذ الصحراوي المتسخ لنصف عام في بادية السودان، بينما يقضي نصف عامه الآخر وهو يعيش عيشة الجنتلمان بقبعته المميزة ويطوف على أندية لندن الأرستقراطية (انظر المقال عن كتاب ا ويلفريد ثيثقر المعنون Desert, Marsh and Mountain في هذا الرابط: http://www.sudanray.com/archive/index.php/t-2075.html المترجم).
أما في جنوب السودان، فلم يكن هنالك إلا قليلون جدا من المفتشين الذين تأثروا بحياة الأهالي هنالك. غير أن السلطات العليا بالبلاد لم تكن تعبأ بما كان يفعله المفتشون في تلك المناطق النائية على أية حال. وأتخذ بعض الموظفين البريطانيين بالجنوب – وبصورة علنية - لهم عشيقات من نساء المناطق التي كان يحكمونها. غير أن السلطات العليا لم تكن تناقش مثل تلك الأمور قط.
وكان التعامل والتداخل الاجتماعي بين الموظفين البريطانيين والأهالي في كل المدن محدودا ومحكوما بقوانين ولوائح غير مكتوبة.
غير أن الخوف من أن يتأثر البريطاني بطباع وعادات الأهالي (going native) لم يكن عظيما، فسلطته على الأهالي لم تكن لتسمح له بذلك. فالعلاقة مع المستعمر، بطبيعتها، قابلة لسوء الفهم والتفسير، وعرضة للتأويل في أمور الاحترام والتأدب للمسئول وغير ذلك. كما إن مستويات مهارة وإجادة الموظفين البريطانيين للغة العربية أو المحلية كانت متفاوتة. فإن إطراءا أو مزحة يلقيها الرجل دون أن يلقي لها بالا قد يتلقاها الآخر على اعتبارها وقاحة أو إساءة أو ازدراءا أو نقدا لاذعا. وبذا لعله كان من الأحوط تقليل التداخل الاجتماعي بين الحكام والمحكومين خارج نطاق العمل، إذ أن أي تداخل مفرط كان عرضة لتفسيرات وتأويلات متباينة. وبذا ساد تعامل حذر بين الجانبين على الصعيد الاجتماعي كان هدفه الأول عدم قول أو فعل ما قد يسئ للطرف الآخر، أو يسبب احتكاكا غير محسوب النتائج.
وكان هنالك مقابل سوداني لعبارة (going native) تمثل في تشبه "الأفندي" المتعلم بمظهر وطباع البريطاني. وكان ذلك من الأمور التي فطن إليها البريطانيون في وقت مبكر. وكان الأفندي الذي يتشبه بالبريطانيين ويسعى لنيل رضائهم وأوسمتهم يخاطر باتهامه ب "التقليد الأعمى" و"التسلق الاجتماعي" وبعدم الوطنية، بل بالخيانة، خاصة بعد أن تنامى الشعور الوطني عند السودانيين. وفي رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" مثال لتلك المعضلة والمأزق العالمي. فالصداقة (الحقيقية) بين أناس مختلفي الثقافات والأعراق أمر سهل من ناحية نظرية (أو في المدن الكبيرة على الأقل) غيره أنها بين المُستَعمِر والمُستعمَر أمر عصي على التحقيق. لذا فإن المرء لا يكاد يدري إن كان زيف واصطناع العلاقات بين السودانيين والبريطانيين على المستوى الاجتماعي كان أكثر أمانا من محاولات اختراق (break through) تلك العلاقات.
وتثبت الصور العديدة التي خلفها البريطانيون عن أيامهم بالسودان نوع الذكريات المصحوبة بنوع من التلميح والأسى والحسرة. فصور المحتفلين البريطانيين مع خدمهم السودانيين لا تثير الاستغراب. وكانت حفلات الشاي أكثر إثارة. وكانت تلك المناسبات مناسبات "رسمية" بالاسم فقط، ولكنها في الواقع كانت مناسبات تشابه تلك التي تقيمها العائلة المالكة (ولكن على مستوى أكثر تواضعا بالطبع)، ويحضرها كل العاملين أملا في الترقي، وليس من أجل طعامها البارد الماسخ.
وتحاشت العلاقات الاجتماعية بين البريطانيين والسودانيين في المدن النيلية الشمالية اختلاط الجنسين. فقد كان كبار السودانيين يدعون البريطانيون إلى منازلهم، ولكنهم لا يعرفونهم أبدا على نسائهم. وكان المسئول البريطاني الذي يصطحب زوجته لتلك الدعوات يفترق عنها عند عبوره لعتبة بيت السوداني، فتذهب هي مباشرة إلى جناح النساء، بينما يبقى هو مع مضيفه في "الديوان". ولم يكن مرحبا بالنساء البريطانيات في كل الأوقات، وكان وجودهن في حضرة الشيوخ السودانيين حتى يوم استقلال السودان أمرا بالغ الشذوذ.
ودفع الحظر الإسلامي على اختلاط الجنسين النساء البريطانيات للعمل على ابتداع طرق جديدة لإزجاء أوقات الفراغ في أشياء مفيدة مثل العمل على إنشاء مدرسة لتدريب وتأهيل القابلات في عام 1921م. ويعود الفضل في ذلك للسيدتين مابل اليزي وولف وشقيقتها جيرترود (يمكن الاطلاع على تاريخ تلك المدرسة في مقال لبروفيسور طارق الهد مبذول في الشبكة العنكبوتية http://www.ees.eg.net/journals/pdf/103.pdf). ولم يكن للنساء السودانيات أن يلتحقن بالمدارس الحكومية، وأن يشاركن في الرياضات المختلفة والكشافة والموسيقى من دون تأثير النساء والمسئولات البريطانيات. وعلى الرغم من أن تعليم الطالبات السودانيات بعض الأغاني والأناشيد الإنجليزية هو أمر مشكوك في نفعه، إلا أن الذكريات المشتركة التي تثيرها تلك الأناشيد كانت ذات فائدة وتأثير حميد على العلاقات الاجتماعية.
وكانت العلاقات الاجتماعية بين البريطانيين والسودانيين تعتمد أيضا على الوضع الاجتماعي للمسئولين البريطانيين. فقد كان للإداريين البريطانيين بالسودان (وفي الهند أيضا) الموقع الأعلى في سلم الترتيب الاجتماعي. فمساعد مفتش مركز حديث العهد بالبلاد كان يعد (بطبيعة الحال ipso facto وبصورة غير رسمية) أعلى مرتبة من القدامى من العسكريين والمدنيين المهنيين مثل المهندسين والمدرسين. ولم تتغير تلك التراتيبية إلا في المناطق الريفية وعند قرب نهاية الحكم الثنائي.
تبين لنا الصور الكثيرة التي التقطت للبريطانيين مع السودانيين، فيما تظهره (وما تخفيه أيضا) ما لا يمكن أن يجده المرء في المواد المكتوبة المعاصرة. فظهور شيخ في صورة وغياب آخر عنها قد يفتح بابا للمؤرخ ليضع بعض الأسئلة. وسنفهم مواقف السودانيين في عهد الوطنية عندما نرى وندرك أن السودانيين شاهدوا الإداريين البريطانيين وهم يرتدون ملابس المهرجين والقراصنة في احتفالات رأس السنة. وفي نفس الوقت، يسهل فهم الأمن والأمان النسبي الذي نعم به السودان في غضون الستة عقود تقريبا من الحكم البريطاني-المصري عندما يرى المرء صور مباريات كرة القدم بأكثر من قراءة التقارير السرية عن تداعي الحامية البريطانية. وفوق كل شيء، فإن سجل صور نشاط البريطانيين غير الرسمي في السودان يعطينا شيئا يعجز التراث المادي للحكم الثنائي عن تقديمه: ألا وهو فكرة (قد يعوزها الاكتمال) عن كيف كان هؤلاء الناس يقضون أوقاتهم.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.