30 يوليو 2015 يصادف الذكرى الرابعة لرحيل القائد والزعيم السوداني والجنوبي (جون قرنق ديمبيور ) . مرت الذكرى الاولى والثانية دون أي انتباه من السودانيين , بدأ الاهتمام خافتا في الذكرى الثالثة ليبلغ ذروته في الذكرى الحالية . تعامل السودانيين في البداية مع الانفصال بواقعية باعتبار انهم كسبوا السلام وضمدوا الجراح وكان املهم ان يودعوا حفلات الموت التي كانت تغطي كل مدينة وقرية وحي . ظن الشعب ان التنمية قادمة وتوقع الشباب الوظائف والرفاهية باعتبار ان الحرب اكلت الاخضر واليابس من موارد السودان , ولكن استمرت الحرب وتدهور الاقتصاد وعم الفقر واستشرى الفساد وخرج مارد القبلية . فجأة امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بحديث كثير مضمونه يعيد الاعتبار لقرنق ومشروع ''السودان الجديد " , وصل الامر عند بعض الشباب محاولة تسمية احد شوارع الخرطوم باسم جون قرنق (هكذا سمعنا) . لماذا رجعوا للماضي ولماذا لمشروع السودان الجديد دون غيره ؟ اعتقد انها حالة احباط عامة , عبارة عن نزوع وهروب من واقع سياسي واقتصادي مرير والبحث ولو في الذاكرة والتاريخ السوداني عن نموذج . ولماذا لمشروع السودان الجديد ؟ ببساطة انهم لم يجدوا في الديمقراطية الاولى والثانية والثالثة منهج ونموذج يصلح لإدارة الشأن السوداني , وجدوا احزاب ببناء سياسي جهوي عشائري تحت قيادة البيت الواحد وان اتسمت بقدر من الحرية وانضباط في الخدمة المدنية . لم يجدوا في الحكم العسكري الاول والثاني والحالي نموذجا يمكن استلهامه , فقط ديكتاتورية وشمولية الحزب الواحد في بعضها الآخر ( مايو والإنقاذ ) . لا شك ان الحكم الحالي هو الأسوأ في تاريخ السودان , فهو الأسوأ ان اعتبرته حكم عسكري كونه وليد انقلاب عسكري , وهو الاسوا ان اعتبرته حكم الحزب الواحد . وبعد الرجوع في الذاكرة والمخيلة لم يجد السودانيين غير مشروع قرنق ''السودان الجديد ,, يضاف لحالة الاحباط النزاع الداخلي والحروب القبلية التي تفاقمت وتنوعت وتعددت في الآونة الاخيرة . كل ذلك هدد التماسك الوطني والانتماء القومي حيث امتد ذلك حتى لمؤسسات الدولة وأحزابها وأصبح كل شيء واجهة خادعة وبداخلها مكون جهوي ليس إلا . من هنا ظهر للسطح مشروع "السودان الجديد " والذي يدعو من حيث التنظير لمفردة وانتماء واحد ليس سواه ألا وهو المواطنة السودانية . هذا التنظير لم يجد أي ترحيب في بداية طرحة من قبل جون قرنق رقم ما فيه من افكار جميلة –نظريا - ويصلح لخلق وطن قومي . لم يجد تجاوب من السودانيين بسبب الخلفية والتربية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي خضعنا لها طيلة عمر الحكم الوطني , خضعنا لها عبر التعليم والإعلام وكل وسائل البناء الوطني الاخرى (يدخل في ذلك الدين واللغة والعرق ) ... لم يكن الكثيرين يعرفوا عن بلدهم السودان غير انه دولة عربية .... ولم يعرف كثير من السودانيين السودان غير انه بلد مسلم . بسبب ذلك نظرنا لمشروع "السودان الجديد" على انه مشروع جهوي عنصري استئصالي مضاد وموجه ضد مجموعات ومكونات سكانية معينة (عرقيه دينية ) كيف تعامل كل من قرنق والحكومة مع مشروع "السودان الجديد" ؟ كلاهما وظف هذا المشروع بطريقته الخاصة . الدولة فسرته امتدادا لذلك التوجس المستبطن في العقل الجمعي "الشمالي " والذي هو بدوره نتاج تربية تراكمية وبعضه نتاج تجارب معاشة من افرازات حرب الجنوب نفسها ( ما يتعرض له الشماليين في الجنوب في اوقات الانفلات الامني ) ..... وظفه قرنق على انه مشروع قومي وطني يوفر العدل والحرية والمساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية . من هنا وجد قرنق التأييد من مجموعات كثيرة من خارج الجنوب المعهود واستقطب مجموعات ونخب لتقف موقفا مستغربا بل مستنكرا لدرجة ان لحقت بعضهم وصمة الخيانة العظمى . حري بنا ان ندخل على مشروع السودان الجديد وبدون تفصيل : 1/يقول المشروع بوحدة السودان ارضا وشعبا , لكن على اسس جديدة . لطمأنة المتوجسين اضاف قرنق : لا العروبة ولا الاسلام في خطر من مشروعه , بل الحكم الحالي هو الخطر على الوحدة ... يستمر في الشرح .... ليس كل السودان عرب ولكنهم مكون اساسي , وليس كل السودانيين مسلمون ولكن المسلمون اغلبية. 2/ مشروعه يدعو للمساواة والعدالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية . 3/ في التنمية اتى بنظرية نقل المدينة للريف , أي تركيز الخدمات والتنمية في الريف للدرجة التي تجعل الريف وجهة سكان المدن . 4/ العلمانية المتفقة مع الاديان والأعراف السودانية . من حيث التنظير فمشروع "السودان الجديد " جديد وجدير بالتعامل معه والتأمل فيه والنظر اليه بواقعية وخاصة في الوقت الراهن . الآن نحن احوج ما نكون لمشروع وطني غير مسبوق وغير تقليدي وهذا ما فطن له جون قرنق باكرا , نحتاج لمشروع فيه تصالح اجتماعي وتنازل عن رضا ويضفي نوعا من التغيير والاختراق في معادلة الحكم لتصبح معادلة مرضية للجميع ( كيف يكون ؟ يمكن بحثه والوصول فيه لصيغة تعاقد ) . كان ذلك ممكن وميسور قبل فترة اما الان فقد تقسم السودان جهويا واجتماعيا , تقسم اقتصاديا لطبقة حكم ثرية لدرجة المال المطلق وغالبية مسحوقة لدرجة الجوع . وهذا هو الذي يعجل بالحاجة لمنظومة حكم وقوانين تكسر طوق الثراء الفاحش ودائرة الفقر المدقع والتي بدأت تتسع منذ الاستغلال . اما الطبقة التي اثرت عبر الحكم وأثرت منسوبيها ....فهي قد دخلت في متوالية نعيم الدنيا ( سلطة – مال – عقار –تعليم نوعي ) ... احتكروا السلطة وبالسلطة امتلكوا المال وعقارات المدن وبه نالوا التعليم النوعي تاركين للشعب تعليم حكومي خرب لا يؤهلهم لأي تمييز ... يذكرون الشعب في الواجبات الوطنية والجباية . قرنق عندما رفع شعار "السودان الجديد " لم يكن الحال وصل لما وصل اليه الان من حيث الانقسام المجتمعي والطبقي والجهوي .... ربما كان ذلك المشروع سابق لأوانه , لو طرح في هذا الوقت لوجد تأييد عريض وواسع بغض النظر عن صدق نواياه . موضوع النوايا يدخلنا في السؤال التالي : هل كان قرنق يبحث عن الوحدة وصادق في مشروع " السودان الجديد " الموحد ؟ ربما يبدو من حروبه التي قادها ضد الانفصاليين في بداية تكوين الحركة الشعبية وأيضا في بداية التسعينات ضد مجموعة مشار التي تطالب بالانفصال , يبدو من ذلك انه يسعى لسودان موحد .... لكن النظر لقرنق البراغماتي صاحب التكتيكات التي توصل للهدف الاستراتيجي يجعلنا نشكك في مشروع قرنق السودان الجديد . صحيح انه خسر الكثير من الجنوبيين برفعه لشعار الوحدة ولكن يجب ذكر النقاط التالية لنرى مكاسبه من هذا الشعار : 1/ قرنق يعرف اكثر من غيره ان شعار الانفصال عبر تاريخ قضية الجنوب لم يحقق الغاية (الانفصال ) وليس من المتوقع ان يحققها في المدى القريب ( على الاقل في حياة قرنق ) وهذا لا ينسجم مع شخصية قرنق الطامح للحكم والسلطة ومنصب الرئيس الاوحد . 2/ حربه مع الانفصاليين تأتي في خانة التنافس بين الزعماء الجنوبيين الساعيين للمناصب خاصة بين قرنق ومشار , امتدادا للخلفية التاريخية بين الدينكا والنوير , ايهما يكون الاول وهذا هو ما يحدث اليوم بين الفرقاء الجنوبيين . 3/ يعلم قرنق ان شعار الانفصال يوحد الجبهة الداخلية السودانية ومع وحدتها ليس من السهولة تحقيق نصر لصالحه , كذلك يحرمه من خدمات جبال النوبة والنيل الازرق . شعار الانفصال يجعل للقتال معنى وغاية عند الجندي السوداني , وشعار الوحدة يجعل الجندي يتشكك في جدوى الحرب وضرورتها . اذن احدث هذا الشعار ربكة في الداخل السوداني الشمالي وجذب كثير من النخب الشمالية والتي في حال الانفصال يتم وصمها بالخيانة . شعار الوحدة رفع الحرج عن بعض الدول العربية الناشز (ليبيا الغزافي لدعم قرنق ) . 4/ شعار الوحدة مصحوبا بالعدالة الاجتماعية ومصطلح التهميش اغرى التمرد في دارفور وهذا ما يريده قرنق ( تكاثر الزعازع وتناقص الاوتاد ) ... العبارة ايضا من افكار قرنق , وان كان يصف بها حاله بعد طرده من اثيوبيا عقب سقوط منقستو . اذا استمعت لقرنق البراغماتي وهو وسط جنوده في اوقات التعبئة والتنوير تشك كثيرا في شعار "السودان الجديد " على انه خيار استراتيجي او غاية عند قرنق . نستدعي بعض مقولاته للتدليل والتبرير لهذا التشكك في نواياه . 1/ كان يقول للجنوبيين : تدعون للانفصال ولكن لمن نترك باقي السودان . نحن نعلم متى جاءوا (يعني الجلابة) للسودان ولكن هل هم يعلمون متى جئنا نحن . في هذا الحديث رؤية عنصرية مدعومة بالتاريخ ولا تبشر بالوحدة ابدا . 2/ يقول : لمن نترك جبال النوبة والنيل الازرق وأحيانا يجعلها اوسع لتشمل دارفور , وفي هذا تقسيم بمعيار عرقي غير منطقي بعد هذا التاريخ الطويل من التعايش والتداخل الاجتماعي واللغوي والثقافي والعرقي . يظل قرنق شخص ذكي وزعيم تاريخي استطاع ان يهزم الحكومة سياسيا وهزم مفاوضيها في نيفاشا مستخدما كل الاوراق والتكتيكات ووظف كل شيء لتحقيق الانفصال والذي هو رغبة اصيلة عند الجنوبيين . انجازاته كثيرة من اتفاقية نيفاشا ونذكر منها على سبيل المثال الاتي . 1/ حقق رغبة الجنوبيين وحفظ لهم حق الانفصال بصورة جلية وواضحة في الاتفاقية . 2/ حصل على الجنوب كاملا مع احتفاظه على حق التفاوض والنزاع على مناطق شمالية ( حفرة النحاس- 14 ميل وهي منطقة التماس بين الرزيقات ودينكا ملوال – كاكا التجارية – جبل المقينص- جودة ) . 3/ نال الانفصال سلما واحتفظ بحقه في الحرب حال تعقدت المفاوضات حول المناطق المذكورة وساعتها تكون الحرب بين دولة ودولة . 4/ ترك خلفه سودانا مسخن بجراحه ومنكسر معنويا ومنهار اقتصاديا , وترك خلفه الغاما انفجرت في الوقت المناسب ... كان متخوفا من ان يغزوه السودان حال الانفصال ولذلك سعى ما امكنه ليترك السودان ضعيفا من خلال الاتفاقية التي فصلها تفصيلا محكما . نعم لم يكن حاضرا وقت حدوث كل ذلك .... نعم مات قرنق ولكن مشروعه ظل حيا ويؤدي الدور بفاعلية . [email protected]