مدخل: ان الفلاسفة ينظرون إلى الواقع من زاوية النبل أي زاوية الإنسان الذي يرى الخير في الآخرين دون الشر، فكل فيلسوف أو إنسان نخبوي هو إنسان نبيل وينعكس ذلك النبل في طبعه وسلوكه ولا يبحث الفيلسوف أو النخبوي عن الخير لنفسه ولكن يبحث مع الآخرين عن الخير الذي داخلهم، ويحاول ان يبسط لهم الحياة قدر الإمكان، فالإنسان العادي يمارس الحياة ولا ينظر لها أو يدرسها ولذلك فالفعل السلوكي بالنسبة له عبارة عن غاية في ذاته بغض النظر عن ما يتبعه، اما الفيلسوف فينظر إلى السلوك من خلال رؤية كلية ولذلك فهو يرى العلاقة بين السلوكيات أكثر من نظرته إلى السلوك كفعل كلي كما يراه الإنسان العادي، وكثير من الأحيان يكون الاستيعاب مفقود بين الإنسان العادي والنخبوي نتيجة لاختلاف نظرة كل منهما إلى السلوك. وهنا يظهر الاختلاف بين فيلسوف وآخر وبين نخبوي وآخر في مدي إدراكهم للواقع والمساهمة فيه، فهنالك ثقافات أنشأت فلسفة كلية وهي الثقافة الغربية والثقافة العربية، وبغض النظر عن رأينا في تلك الفلسفات إلا انها عند مجتمعاتها تعتبر حتى الآن هي الوحيدة التي استطاعت ان تستوعب إنسانية تلك المجتمعات. فالمجتمعات هي التي تتمسك بالفلسفة وتمنحها القوة الكافية للاستمرارية عندما لا توجد رؤية أخرى عند تلك المجتمعات تمثل تجسيد لإنسانيتها أكثر منها، فالفلسفة العربية والغربية هي فلسفات نشأت واستوعبت الكثير من واقع مجتمعاتها ولعدم وجود فلسفات أخرى في مستوى استيعابها أو أكثر لازالت مجتمعاتها تتمسك بتلك الفلسفات. وهنالك داخل تلك الفلسفات فلاسفة نبلاء ولكنهم حالمون لم ينتجوا فلسفة كاملة ولكنهم حاولوا بناء فلسفاتهم بانتخاب أجزاء من الفلسفة العربية أو الغربية ومحاولة صياغة رؤية كلية من تلك الأجزاء دون اعتبار للعلاقة الكلية للفلسفة، ولذلك جاء فكرهم اقرب إلى الطوباوية من الفلسفة نتيجة لعدم قيامهم ببناء رؤية كلية للحياة الإنسانية من داخل المجتمعات. الفلسفة الفرعية للفلسفة الغربية: في الفلسفة الغربية نجد الفكر الماركسي كفلسفة فرعية طوباوية حاول ماركس من جزئية الاقتصاد ان يبني رؤية كلية دون إدراك بان الاقتصاد هو فعل ظاهر لقيم إنسانية أعمق فهو جزء من منظومة كاملة تدعم الإنسان كفرد في مجتمع محدد يحس ويشعر به قبل ان يدركه في الواقع. فالمادية ليست قيمة كلية للفلسفة الغربية، فتقف معها بالتساوي والتوازي قيم الديمقراطية والفردية والعلمانية على مستوى المفكرين، اما على مستوى المجتمعات الغربية فهي تعني إنسانيتها وطريقة حياتها لذلك تعبر الدولة في قوانينها الداخلية للمجتمعات في الزواج والطلاق وتربية الأطفال ومفهوم الأسرة وغيره من القوانين تعبر عن قيم ذلك الإنسان. ولان كل نخبوي هو إنسان نبيل إذا أصاب هدفه أم لم يصب، وهكذا كان ماركس، فكان هدفه الأول هو إزالة الفوارق الظاهرة بين الأفراد والمجتمعات، ولان الفلسفة الغربية تقوم على أساس المادة وعلاقتها بالمجتمع فقد وجه ماركس كل طاقته الفكرية نحو معالجة تلك الفروقات من اجل مجتمعات متساوية، فكانت الماركسية نتيجة لمجهود فكرى ضخم ولكنه لم يسفر عن رؤية كلية تعبر عن مجتمع محدد وتجليات ذلك المجتمع المادية وغير المادية، ونتيجة لعدم استيعاب الفكر الماركسي للمادة باعتبارها قيمة من قيم اجتماعية أخرى وليست هي القيمة الوحيدة استمرت الفلسفة الماركسية كفلسفة طوباوية ايدولوجية، فهي ليست وليدة علاقة بين مفكر ومجتمع ولكنها وليدة علاقة بين مفكر وفكر يستوعبه من زاوية نظر احادية. ولذلك فهي ليست عرضة للتجديد لرفضها من قبل المجتمعات الغربية التي رات فيها اخلال بتوازنها الثقافي. الفلسفة الفرعية للفلسفة العربية: وفي الفلسفة العربية نجد كثيرين أنتجوا فلسفات فرعية ويكفي ان فلاسفة الفكر العربي منذ عشرات السنين ينادون بالحداثة والمدنية وتجديد الفكر الديني وترد عليهم الفلسفة العربية بالمزيد من الحركات الراديكالية. فلا ينظر أولئك الفلاسفة إلى الفلسفة كرؤية يتم صياغتها من داخل مجتمع محدد لتعبر عن وعيه الجيني وممارساته السلوكية من خلال مفاهيم كلية، ولكن يتعامل أولئك الفلاسفة مع الرؤية الموجودة داخل ذلك المجتمع ومحاولة صياغة رؤية كلية من المفاهيم الموجودة فقط دون إدراك لعلاقة تلك المفاهيم مع المجتمع. فمفكرين كثر مثل محمد اركون ونصر حامد ابو زيد وخليل عبد الكريم وفي السودان نجد محمود محمد طه وغيرهم كثر انشغلوا بالرؤية الفكرية للفلسفة العربية وحاولوا إعادة صياغة تلك الرؤية دون حساب لعلاقة تلك الرؤية بالمجتمعات وبالخيوط غير المرئية التي تشد المجتمعات إلى تلك الرؤية وتشد الرؤية إلى المجتمعات. فلا وجود لتطوير الفلسفة أو الرؤية الكلية للإنسانية ولكن يرد على الفلسفة بفلسفة أخرى تتقاطع تماما في رؤيتها الكلية مع الفلسفات الأخرى وتختلف كذلك في مقولاتها وطريقة استخدامها داخل الرؤية الكلية. فلسفة التحولات والفلسفة العربية والغربية: تختلف مقولات فلسفة التحولات الاجتماعية واستيعابها للحياة عن الفلسفة العربية، وتأتي مقولات فلسفة التحولات من داخل رؤيتها للحياة والإنسانية وليست رد فعل لما تنتجه الفلسفة العربية أو الغربية، فإذا كانت تقول الفلسفة العربية بالإله الفاعل والرسالات القيمية والرسول المتعالي على البشرية وبالإسلام، تقول فلسفة التحولات بالإله المتعالي والرسالات الإرشادية والرسل البشرية في فعلهم ومقولاتهم وبالإيمان. اما بقية فلسفة التحولات فليست ضمن الرؤية الفكرية للفلسفة العربية ورغم اتفاق فلسفة التحولات مع الفلسفة الغربية في مفهوم الدولة الا انها تختلف معها في معني تلك الدولة، فالدولة في فلسفة التحولات هي قيمة اجتماعية تنتج مع المجتمعات التي وصلت إلى مرحلة التحولات الثقافية، ففرض الثقافة الغربية تلك القيمة على مجتمعات لم تصل إلى تلك المرحلة أو مجتمعات في طور التحول هو الذي أنتج الأزمة التي تعانيها الكثير من المجتمعات والدول. فللدولة كقيمة ثقافية قوانينها واشتراطاتها وقيم أخرى لازمة لها حتى تكون تلك الدولة معبرة عن ثقافة ما. وتختلف بعد ذلك فلسفة التحولات مع كثير من المقولات والرؤية الكلية ومن ضمنها مفهوم الأحادية الثقافية، وهو ان هنالك نموذج ثقافي يمكن ان يطبق على جميع الثقافات. خاتمة: ولا تحتاج فلسفة ما إلى الرجوع إلى الفلسفات الأخرى، فصدق الفلسفة وحقيقتها من عدمه لا يقاس بمقاييس الطبيعة والإثباتات ولكن تقاس باستيعابها للحياة الإنسانية وتقديمها تصور يساعد الإنسانية على استيعاب واقعها والتفاعل معه، فلا تمنح النخب صك الصلاحية لفلسفة ما ولا فرض رؤية فلسفية على مجتمع يمكن ان يحقق تلك الفلسفة، ولكن ما يحقق الفلسفة التفاعل الاجتماعي الذي يجد كل فرد ذاته في تلك الفلسفة أو غيرها، فالمجتمعات هي الضامن لا استمرار فلسفة ما من عدمه وليس النخب والمفكرين. فإذا العودة إلى بعض الاضاءات أو عقد بعض المقارنات بين مقولات ورؤية فلسفة التحولات والفلسفات الأخرى يأتي في سبيل حث النخب التي ركنت إلى مقولات فلسفات ما، حثها على ان تعيد للأسئلة مكانها المحوري لديها وان لا تركن إلى إجابات تدرك انها لا تقدم رؤية كلية حقيقية. [email protected]