بداية التحول عن أحزاب الاستقلال: مثلت مرحلة الثمانينات البداية الفعلية في التحول عن أحزاب الاستقلال الايدولوجية فتلك الاحزاب تجعل المجتمع يدفع ثمن خلوها من فكر يعبر عن المجتمع والثقافة السودانية وتحصد نضالاته ضد الديكتاتوريات وتعود إلى السلطة ولكن دون فعل أو فكر متجدد، فمثلت الحركة المستقلة التي ضمت في عضويتها كل افراد المجتمع السوداني وبالتساوي ولم تدعو سوى إلى ان يكون السودان للسودانيين جميعا بعيدا عن الايدولوجيات الدينية والعقدية العربية والغربية، مثل ذلك الظهور للحركة المستقلة استيعاب حقيقي للثقافة السودانية ولكن لم تدعمه النخب برؤية كلية تقود إلى إخراج فكر الآخر من الواقع وتعويضه بفكر سوداني، وكذلك ما عاب على الحركة المستقلة والحركات الشبابية هو سعيها خلف السلطة والمناداة بشعارات سياسية دون الانشغال بالفكر الذي هو الأساس. مثلت إذا الحركة المستقلة بارقة أمل لجيل صاعد من اجل ملء الفراغ بين يمين عروبي إسلامي ويسار غربي علماني، وكانت تسعي إلى وسط سوداني يستوعب كل المجتمعات ويعبر عن الثقافة السودانية والهوية السودانوية. النخب والأحزاب السياسية: نتيجة لغياب رؤية كلية للثقافة السودانية تتفرع منها المفاهيم والقيم الاجتماعية وتكون داعمة ومساندة لها، أصبحت الأحزاب السياسية تمثل البديل وأصبح الانتماء لها يساوى الانتماء إلى وطن متخيل وليس وطن واقعي وموجود. فنشأ تبادل للمصالح بين الأحزاب والنخب، فكانت الأحزاب تمنح النخب الإمكانيات التي تحتاجها لممارسة حياتها وكانت النخب تمنحها المفاهيم التي تقدمها للمجتمعات وتقارع بها الأحزاب الأخرى، ولم توجد وحدة فكرية يدور حولها السياسي والاجتماعي والاقتصادي بحيث تتكامل كل تلك المفاهيم داخل قيم مجتمعية تظهر الشكل الثقافي الكلي دون ان تتقاطع قيم مع أخرى أو تلغي القيم بعضها البعض وبالتالي يلغي المجتمع بعضه البعض نتيجة لتشوه مفاهيمه. ونتيجة لذلك التوازن وتبادل المصالح بين النخب والأحزاب تم إلغاء أصوات النخب المنفردة والتي سعت إلى المجتمعات مباشرتا دون التقيد بأحزاب محددة أو أفكار مستجلبة من الخارج، ولم تجد الدعم لمواصلة سعيها من اجل تعريف الثقافة السودانية وقيمها كقيم اجتماعية حقيقية موازية لقيم الثقافات الأخرى العربية والغربية، وحتى نخب الأحزاب عندما كانت تشذ عن الخط كان يتم إسكاتها باعتبار ان الوقت غير مناسب أو ان تلك الأفكار ستكون ضد مصلحة الحزب الآنية ويجب تركها لازمان أخرى. ففي زمن الديكتاتوريات يكون الوقت للعمل فقط من اجل إزاحة النظام القائم ولا مجال لأفكار يمكن ان تعيق الانتفاضة، وفي زمن الديمقراطية يكون العمل من اجل لملمة شتات الحزب والسعي نحو السلطة دون التقيد بالأفكار، فضيعت نخب وأحزاب الاستقلال الكثير من الزمن وأرهقت الوطن بالحروب والأزمات بتمسكها بأفكار الآخر العربي والغربي وسعيها خلف مصالحها فقط. الثورة بين المستحيل والممكن: الثورة هي التغيير وفق رؤية فكرية كاملة يستوعبها المجتمع وتعبر عنه ويسعي إلى تحقيقها. فالانتفاضة تعبر عن أزمات يسعي المجتمع للتخلص منها بالتغيير ولكن الثورة هي تحقيق لروح المجتمع ولقيمه. ولتحقيق الثورة يجب أولا ان تتخلص النخب الفكرية من انتماءاتها الحزبية الضيقة التي أضحت بديل عن الانتماء للوطن، وان تدرك ان على جميع الأحزاب ان تكون تحت مظلة فكرية واحدة وتختلف فقط في البرامج، وان تستوعب المجتمع والثقافة السودانية كما هي وليس كما يفترض ان تكون في مخيلة الفكر العربي أو الغربي. ولم تغب وحدة الثقافة السودانية عن وعي النخب، فقد كان مفهوم السودانوية دائما ما يداعب خيالهم وبدا يتردد صداه منذ زمن بعيد كهوية وانتماء وذات كلية لكل المجتمعات السودانية. ولكن كان لضغط الفكر العربي والغربي وتقديم النخب لمصالحها الشخصية وبعدها عن دورها الأساسي في الحياة، كل ذلك ساهم في عدم دعم ذلك المفهوم برؤية كلية تساعد المجتمعات في تحولاتها وانتمائها إلى ذات كلية واحدة. الثورة والتحالفات الحزبية: إذا أردنا للثورة ان تقوم يجب على النخب ان تؤمن بان الثقافة السودانية هي ثقافة واحدة وليست ثقافات متعددة وعلى الدولة السودانية ان تعبر عن ذلك بوضوح، فالدولة هي الشكل السياسي لمرحلة التحولات الثقافية وليست بديل عن الثقافة وتساعد المجتمعات في ممارسة إنسانيتها. ويجب ان تنبع السياسات الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من داخل المجتمعات وان تستمد من قيمه ومن تحولاته الاجتماعية. فلا وجود لقيم الخلاص الإنساني التي يمكن ان تطبق على كل المجتمعات وفي كل الأزمان كما تقول الثقافة العربية أو الغربية وهي تسوق لقيمها الذاتية، ولكن القيم تنتج من داخل المجتمعات وحسب مرحلة التحولات وتمارس الإنسانية من خلالها. وكذلك إذا أردنا الثورة على النخب ان تترك المفاهيم التي تتمسك بها مثل الديمقراطية والشريعة التي لا تمثل سوى الآخر والسعي نحو ديمقراطية وشريعة أو شرعة تمثل السودانوية، وعلى الأحزاب التي نشأت بعد مرحلة أحزاب الاستقلال الايدولوجية والحركات الشبابية التي ضاقت ذرعا بالصراع الايدولوجي لأحزاب الاستقلال والذي لم يؤدي سوى إلى دمار السودان وفائدة بعض الأشخاص فقط، على تلك الأحزاب والحركات الشبابية ان تنشئ تحالف استراتيجي غايته السودانوية فقط وان تبعد عن أحزاب الاستقلال الايدولوجية التي تعيق الحراك الثوري أكثر من ان تفيده، فيجب ان ندرك ان الصراع ليس مع السلطة الحاكمة فقط ولكن مع كل أحزاب ونخب الاستقلال التي أدمنت الوقوف عند فكر الأخر دون رؤية أثره على الواقع والإنسان السوداني. ولذلك نجد ان مفهوم استغلال أحزاب الاستقلال الايدولوجية مثل حزب الأمة للوصول إلى الانتفاضة هو الذي أضاع على السودان كل هذه السنين، فتلك الأحزاب لا تعمل من اجل الإنسان السوداني ولكنها تعمل من اجل إنسان متخيل لا علاقة له بإنسان الواقع لذلك نجدها مترددة ومتخوفة ولا تشارك في فعل إلا إذا كانت ضامنة ان تكون في السلطة حتى تفرض رؤيتها على المجتمع ولا تعمل من اجل فرض واقع وقيم الإنسان السوداني على السلطة. وأخيرا: هنالك الكثير من العمل الذي يجب على النخب ان تفعله إذا كان هدفنا الوصول إلى الثورة مثل إنتاج سياسة اجتماعية تعبر عن المجتمع السوداني وكذلك اقتصاد اجتماعي يسعي إلى كل المجتمع السوداني وكل منطقة حسب طبيعتها وكذلك قانون اجتماعي يستمد روحه من قيم المجتمع السوداني. [email protected]