البيان الاول للانقلاب الذي تلاه السيد الرئيس عبر الاذاعة والتلفاز والذي قال فيه انهم جاؤوا بثورة من أجل ان يملا الشعب الجائع معدته الخاوية وياكل (الهوت دوق) في وجباته الثلاثة على اقل تقدير.. ويتناول هو -اي السيد الرئيس- وبطانته الفول والعدس واللوبية العدسية.. واضاف السيد الرئيس ان هدفهم الاول من الانقلاب ان يلتقم الشعب المغبون الطيبات من الرزق.. واخذ يسرد بشكل كوميدي قائمة من طعام الدول والشعوب حتى انه لم ينس اكلة الزاندي المحببة (الباسيو) و اكلة الباريا (الكايموت).. لكنه كان يردد بصورة متكررة ومفجعة وجبة (امالا) احدي وجبات قبائل نيجريا التى يستخدم فيها نبات اليام .. وزاد السيد الرئيس في بيانه الاول انه سوف يعرض الاسلام على الملكة اليزابيت الثانية -اسوة بما فعله سلفه عبد الله التعايشي- وسوف يزوجها لنصر الدين الغايب الذي اطلق فيما بعد بسنوات كثيرة عبارته الشهيرة (اتركوها مستورة) بعدما اختفت اموال الطريق في جوف (مثلث برمودا) الفساد.. انتشر في مدينة (الحديد والنار) البيان الاول للسيد الرئيس وهو يعلن قيام ثورة (الهوت دوق) وترجمها الي العربية المترجم العام ب (الكلب الملتهب).. وفي حي قديم مطل على نهر الاتبراوي حيث تنبت كثير من قمائن الطوب وشتول متناثرة لنخيل كبد الجمل وبعض نبتات من العُشر التى تغطي وجه الارض.. صاح رجل معفر بالغبار اسمه مجيد الورتابي يمتهن حفر الابار وسيلة لكسب العيش: هي لله هي لله .. ثم كبر باعلى صوتة الرخيم مناديا على زوجته التى جاءته على عجل وبيدها (مفراكة) كانت تعارك بها العصيدة.. قال لها مبشرا ان دولة العدالة قد دنت.. وان الرئيس البلاد الجديد قال في التلفاز بدأ عصر (الهوت دوق) وانتهي عصر فتة الفول و(الكِسْرة) بالملح ..ثم ارسل عدد من الرسائل لاصحابه المنتشرين في البقاع المختلفة من البلاد يبشرهم بالخيرات التى ستهطل عليهم وعلى اهلهم.. صاح مجيد الورتابي وهو ينادي على اهل الحي : انها المدينة الفاضلة.. انها المدينة الفاضلة ايها الناس .. كان مجيد الورتابي رجلا بسيطة لكنه مطّلعا عظيما.. شانه شأن السيد الرئيس..كان ايضا مهتما بقراءة كتب التاريخ والعلوم والروايات والشعر الادب..ساعدته الظروف حيث ان الجامع الكبير في مدينة (الحديد والنار) به مكتبه عامة متسعة بها اصناف عديدة من الكتب المتنوعة والزاخرة .. بعد ثلاثة اشهر من تلاوة البيان الاول الذي وطّد ورسخ للمعراج العظيم للسيد الرئيس.. جلس مجيد الورتابي الموالي لثورة (الهوت دوق) وهو يمسك كتابين بيده جواره رفيق طفولته جيفارا خليفة تحت كوبري المدينة الحديدي المتهالك والمشيد من العهد الاستعماري.. كانا يتنسمان عبق النهر الثائر وهو يلتقي بالنيل في المقرن.. وعلى الضفة الاخرى تنبت شجيرات نخيل كبد الجمل..وبعض نبات العُشر والطرفاء والحلفاء والحنظل.. ظل مجيد الورتابي يحاول ان يقنع رفيقه جيفارا خليفة بعدم السفر الى بلاد اليانكي بعدما احيل للصالح العام كما هو حال كثير من اهل الوظائف.. - هنا يا جيفارا سوف تشيد اعمدة المدينة الفاضلة او اليوتوبيا.. المدينة التى دعا اليها من قبل القديس توماس مور والفارابي وافلاطون وشيشرون والقديس اوغسطين..لا تذهب الى بلاد اليانكي حيث الحضارة الغربية الفاسدة.. والانسان هناك مجرد الة.. ابق معنا هنا وناجي الغيوم والسحاب والمطر.. ان سيدي الرئيس ليس نبي لكن اخلاقه اشبه باخلاق الانبياء انه تقي وورع ويخاف الله.. هكذا يقولون في التلفزيون.. - من يخاف الله لا يقطع ازراق اٌلوف الموظفين الابرياء.. - للضرورة احكام انتم المناوئون للثورة انتم المناوئون للمدينة الفاضلة .. انتم المناوئون (للهوت دوق) (الكلب الملتهب).. - انه حكم العسكر ولا يفلح العسكري حيث اتى الحكم.. عقلية العسكري الخربة ستحيل البلاد الى خراب.. سيعم الفساد وينعق البوم.. ستتفت البلاد الى قطع صغيرة كانها اُم فتفت.. واصل مجيد الورتابي قائلا: لقد جلبت لك كتابين يتحدثان عن المدينة الفاضلة من مكتبة الجامع الكبير.. الكتاب الاول اسمه (يوتوبيا) للقديس توماس مور والكتاب الثاني اسمه (مدينة الله) للقديس اوغسطين.. اقراهما جيدا لعلك تغير رايك بخصوص الهجرة الى بلاد اليانكي..سوف اطلب عدة كتب اخرى من الحكومة في العاصمة تتعلق بالمدينة الفاضلة.. ثم قال هو يرمق طائر رهو عالق في الفضاء: ستكون بلادنا الفاضلة شوارعها متسعة ونظيفة تُرص على جوانبها اشجار اللبخ ودقن الباشا والنيم والاكاسيا والفايكس.. تغرد عليها طيور البلبل والجنة وابو الجوخ وود ابرق.. مبانيها عالية وقوية ومطلية بالالوان الزاهية التى تأسر القلوب.. تتوزع المشافي والمدارس والمساجد والكنائس بمسافات متباعدة ومنسجمة.. وعلى ردهاتها تزرع ورود عين النسيبة وزهرة الحمار وصباح الخير.. سيعمل كل احد في الوظيفة المناسبة وياخذ الراتب المناسب حيث تتوفر اماكن الترفيه من سينما ومسرح وسيرك اما الميادين العامة ودور الرياضة فحدث ولا حرج .. فيما كان مجيد الورتابي يتكلم كان السيد الرئيس يضع يده على كتفه مخافة ان يطير الصقر الذهبي الرابض على (الاسبليطة) وسط مجموعة النجوم التى تحفه .. في تلك اللحظة وقف السيد الرئيس امام مدير الاذاعة والتلفزيون وطالبه ببث موسيقى نيكولاي كورساكوف لانها تتدغدغ الروح العسكرية للشعوب.. الهام مجيد الورتابي بالمدينة الفاضلة جعله يرسل خطابا الى وزارة الثقافة والاعلام في العاصمة طالبا كتاب (اطلانطس الجديدة) للفيلسوف الانجليزي فرنسيس بيكون.. وكتاب (مدينة الشمس) للايطالي توماسو كامبانيلا.. .وقصة (اجمل غريق في العالم) للكولمبي غارسيا ماركيز.. وعلى غير العادة بعد ثلاثة اسابيع استلم الكتب الثلاثة.. ومعها زجاجة عطر هدية فواح.. اضحى هم مجيد الوَرتابي ان يبشر بالمدينة الفاضلة التى حلم بها منذ ان كان مراهقا.. المدينة ذات المظهر العمراني الرفيع والمستوى الحضاري الراقي.. والمستشفيات النظيفة والمجانية.. والحكام الامناء المخلصون.. باع مجيد الوَرتابي ثلاثة افدنة ورثها عن والده على صفاف الاتبراوي ناحية مدينة المجاذيب.. في اللحظة التى غادر فيها صديقه جيفارا خليفة الى بلاد اليانكي.. سافر هو صوب الجنوب مجاهدا مصطحبا معه ابنه الوحيد.. بعد عشرة عاما من الجهاد المنتظم عاد الى مدينته دون ولده الذي استشهد في معركة خور انجليز.. اقامت الحكومة اكبر عرس للشهيد في المنطقة حيث جلبت الحناء من الفكي عبد الجبار والضريرة من سعدية ابو شامة والشيلة من محمود السيافي والريحة والعطور من جار النبي خشم الموس.. وكانت موسيق نيكولاي كورساكوف تسقط على الاذان اجباريا..جاء الرئيس من العاصمة شخصيا كان يرقص ويتطاير الغبار..يرقص وينفض الغبار.. كان يضع يده على كتفه مخافة ان يطير الصقر من (الاسبليطة).. مرت ثلاثون عاما على (المعراج العظيم) للسيد الرئيس وقيام ثورة (الهوت دوق) والشعب يتذوق طعم الجوع المر.. خلال ثلاثون عاما راى مجيد الوَرتابي صنوف من فساد السيد الرئيس وبطانته لا تعد ولا تحصى.. وذاق كثير من الالم والمعاناة التى لم يتصورها ابدا في مخيلته عن المدينة الفاضلة.. عاد الى معوله لكن قواه خارت لم يجد سبيلا الا ان يشحذ حوار مكتبة الجامع الكبير.. حطت الطائرة على مطار الخرطوم نزل منها رجل يلبس ملابس انيقة.. يبدو عليه اثر النعمة.. قدم جواز سفره الى موظف الجوزات الذي قرا الاسم بصوت عالي: جيفارا خليفة ونظر الى جواز السفر الصادر من بلاد اليانكي.. قال موظف الجوازات وهو يعيد جواز السفر الى صاحبه :مرحبا بك في بلادنا الأبية.. في قرارة نفسه ادرك جيفارا خليفة ان لا احد يستطع مساءلته رغم انه كان يعارض الحكومة في العلن عبر شاشات التلفزيون ويدبج المقالات التى تفضح حكومة السيد الرئيس.. لكنه مدرك وهو يركب التاكسي المتجه الى مدينة (الحديد والنار) الا احد يستطيع اعتراضه طالما يحمل جواز سفر اليانكي الرهيب.. جميع افراد الحكومة يخافون ويهابون اليانكي في السر ويظهرون غير ذلك في العلن .. ذات صباح اخرج مظروفا ثم صاح على احد الصبية: اذهب ونادي على جارنا مجيد الوَرتابي لم يزرنى منذ ان حضرت من بلاد اليانكي.. ما كان من الصبي الا ان قال له الحقيقة الفاضحة.. في سعيه الجاد بغية اقامة المدينة الفاضلة فقد مجيد الورتابي نجله الوحيد وافدنته وبيته وماله.. لقد انخدع في ثورة (الهوت دوق) او ثورة (الكلب الملتهب) كما يسميها المترجم العام.. وهو الان يشحذ جوار مكتبة الجامع الكبير.. امرهم ان يحضروه الان من مكمنه.. كان اللقاء حارا بين صديقين افترقا قبل ثلاثين عاما .. خفف جيفارا من وطأة الالم والمعاناة التى يحسها صديقه.. ناوله المظروف وقال له : هذا مبلغ من المال سيلبي احتياجاتك الى ان يفرج الله الاوضاع البائسة.. في اليوم التالي جلسا سويا تحت كوبري المدينة الحديدي المتهالك والمشيد من العهد الاستعماري.. وهما ينظران سويا الى نهر الاتبراوي وهو يفور ويغلي ويمجد للدمار وخلفه تماما تقبع شتلات من نخيل كبد الابل وبعض نبتات العُشر والطرفاء والحلفاء.. ابتدر جيفارا الحديث قائلا: عزيزي مجيد قبل 30 عاما سبق وان اهديتني كتابين الان اهديك روايتين لا لتغير رايك بخصوص الطغمة الفاسدة التى تحكم البلاد بل لتدرك ان الديكتاتورية تكرر نفسها الرواية الاولي (خريف البطريق) لغارسيا ماركيز والرواية الثانية (السيد الرئيس) لميغيل أستورياس.. اذا كان كل الفلاسفة الذين يحملون الفكر المستنير والذكاء العالي امثال الفارابي وافلاطون وابن خلدون فشلوا في بناء المدينة الفاضلة كيف ينجح السيد الرئيس صاحب الفكر الخاوي والدماغ الفارغ والجراب المفقر.. اذا كنت تحسب ان المدينة الفاضلة يقيمها الراقصون لكان لتحية كاريوكا وشامي كابور وهند رستم وفيفي عبده وميتون شاكرابورتي مدنهم الفاضلة التي تسد عين الشمس.. النذير زيدان