بالفيزياء والرياضيات والقياسات العقلية، الجيش السوداني أسطورة عسكرية    دبابيس ودالشريف    مناوي ل "المحقق": الفاشر ستكون مقبرة للدعم السريع وشرعنا في الجهود العسكرية لإزالة الحصار عنها    أسامة عبد الماجد: مُفضِّل في روسيا.. (10) ملاحظات    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    مجلس الأمن يعبر عن قلقله إزاء هجوم وشيك في شمال دارفور    أهلي القرون مالوش حل    السودان..البرهان يصدر قراراً    محمد صلاح تشاجر مع كلوب .. ليفربول يتعادل مع وست هام    أزمة لبنان.. و«فائض» ميزان المدفوعات    السودان يطلب عقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن الدولي لمناقشة العدوان الإماراتي    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا "أدروب" يوجه رسالة للسودانيين "الجنقو" الذين دخلوا مصر عن طريق التهريب (يا جماعة ما تعملوا العمائل البطالة دي وان شاء الله ترجعوا السودان)    شاهد بالفيديو.. قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل يكشف تفاصيل مقتل شقيقه على يد صديقه المقرب ويؤكد: (نعلن عفونا عن القاتل لوجه الله تعالى)    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    حملات شعبية لمقاطعة السلع الغذائية في مصر.. هل تنجح في خفض الأسعار؟    استهداف مطار مروي والفرقة19 توضح    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قرش رضينا و يوان الطفل المعجزة ..دولار ريال أم يوان صيني (الحلقة الثانية)
نشر في الراكوبة يوم 26 - 01 - 2014

إذا قيل لك بأن كل الشعب أوكتليونيرات و لكنهم فقراء فاعلم أن المقصود هنا شعب زيمبابوي. فالدولار الأمريكي الواحد يعادل 200 أوكتليون دولار زيمبابوي بسعر اليوم 26/01/2014م. و الأوكتليون يعتبر من مضاعفات المليون و هو عبارة عن الرقم 1 و أمامه 27 صفرا.
و لذلك فإن راتب المواطن الزيمبابوي يصل إلي آلاف الاوكتليونات من الدولارات الزيمبابوية و هو يحتاج لتجهيز نفسه بكميات معتبرة من الجوالات البلاستيكية لحمله.
و أن تلميذ المرحلة الإبتدائية علي سبيل (تصدق أو لا تصدق) يذهب يوميا للمدرسة و هو يحمل معه (بجانب حقيبة الكتب المدرسية) حملا ثقيلا من الرزم الورقة التي تعادل 300 أوكتليون دولار زيمبابوي كمصروف مدرسي يومي ليستطيع بالكاد تناول مجرد شطيرة واحدة مع قليل من العصير و ربما قطعة واحدة من الحلوي الرديئة و هي عبارة عن ثلاثة رزم من مائة ورقة فئة واحد أوكتيليون دولار زيمبابوي لكل رزمة تعادل 11 ريال سعودي أو ثلاثة دولارات أمريكية.
فليس هنالك مبالغة إن كانت قيمة البيضة الواحدة في زيمبابوي ثلاثة ملايين دولار زيمبابوي. أما الدجاجة متوسطة الحجم فلا تقل قيمتها عن ألفين أوكتليون دولار زيمبابوي علي أقل تقدير.
و لتشتري كيلو من الطماطم و البصل و ربطة واحدة من الجرجير و بضع ليمونات في صباح الغد الباكر عليك أولا أن تبذل جهدا جبّارا منذ الليلة في توفير أكياس البلاستيك الفارغة ثم تستعين بكل أفراد الأسرة الكريمة و ربما تحتاج مساعدة الجيران لتعبئتها بعشرات الرزم من آلاف الاوكتليونات من الدولارات الزيمبابوية.
فالطلب علي الأكياس الفارغة في زيمبابوي يفوق حجم الطلب علي النقود نفسها و قد تمكن مصنِّعو الأكياس البلاستيكية في زيمبابوي من تطوير أطيافا لا حدود لها من الأكياس غير المعتادة في البلدان الأخري التي تتناسب مع كل أحجام الرزم الورقية تقدم لك حسب خياراتك من السوق الذي تقصده و نوع و كمية السلع و الخدمات التي تنوي شرائها.
و هو ما عبَّر عنه الطيب ماريقا (أحد أشهر ظرفاء النيل الأبيض و السودان عموما و تحتاج حكاياته للتوثيق عندما مرَّ السودان "و لا يزال" يمر بنفس الظروف المشابهة و أصبح الكيس الفارغ أحد أهم الاحتياجات الضرورية اليومية بالنسبة للمواطن السوداني) و هو خارجا من بيته في أحد الأعياد للحاق بصلاة العيد منشغلا بربط عمامته فتجمع حوله المعاودين أمام باب بيته و ألحُّوا عليه بأن يتحفهم بنكتة سريعة علي شرف عيدهم المبارك (نكتة علي الماشي يا أبو الطب) فاحتار الرجل قائلا (يا جماعة الدنيا عيد و نحن لاحقين الصلاة) ،،، و في أثناء حيرته و تحت إلحاح الجمع الكريم جاء إبنه (الذي لا يقل عنه ظرافة و سخرية) خارجا من البيت لمرافقة والده لصلاة العيد فقال له والده (يا ولد عليك الله خُش البيت جيب معاك نكتة و تعال) فعاد الولد إلي داخل البيت ثم جاء مسرعا بعد وقت قليل صفر اليدين قائلا لوالده (و الله يا أبوي ما لقيت كيس فاضي).
أمًّا إذا وجدت نفسك في أحد مطاعم العاصمة الزيمبابوية هراري لتناول وجبة العشاء و شاهدت رزم من العملات الورقية لا تقل عن مائة رزمة حجم مائة ورقة فئة واحد أوكتليون دولار زيمبابوي لكل رزمة علي سطح كل طاولة يجلس عليها عدد من زبائن المطعم فلا تذهب بخيالك بعيدا و تعتقد بأنك في بنك أو صرافة أو صالة للقمار أو متحفا للعملات الورقية أو في مطعم مخصص لرجال الأعمال متخصص فقط في تهيئة الأجواء المناسبة لما يصطلح عليه في عالم الأعمال التجارية ب (عشاء عمل) و أن هنالك بالتأكيد صفقات جهنمية وشيكة تنتظر التوقيع و إنما هي (أي الرزم الورقية) بكل بساطة و عكس ما كنت تتوقع ليست إلا ما يحمله الزبائن معهم من نقود لسداد فاتورة العشاء.
و لذلك يجب أن يكون بحوزتك جوالات من الخيش أو البلاستيك لتحمل معك 33 رزمة علي الأقل من نفس الحجم و الفئة إذا كنت ستتناول العشاء لوحدك في هذا المطعم أو غيره أما إذا كان بصحبتك بعض الضيوف و (المعازيم) فعليك استئجار عربة نصف نقل لحمل قيمة فاتورة المشاوي و أخري لحمل قيمة الحلويات و ركشة لرزم البقشيش.
إنها زيمبابوي في عهد روبرت موغابي أحد البلدان الأفريقية التي ضرب لنا بها الطفل المعجزة مثلا للدول الأفريقية التي جرَّبت سياسة الإحلال النقدي كعلاج لتدني سعر صرف العملة المحلية مقابل الدولار الأمريكي أو غيره من العملات الصعبة كما جاء في تصريحه الجهول المشار إليه في الحلقة الأولي من هذه السلسلة من المقالات.
عندما تولى الديكتاتور موغابي الحكم عام 1980م كان سعر صرف الدولار الزيمبابوي مقابل الدولار الأمريكي 1 دولار زيمبابوي مقابل 1.47 دولار أمريكي و في يوليو 2005م (أي بعد عقدين و نصف من حكمه) بلغ سعر صرف الدولار الزيمبابوي مقابل الدولار الأمريكي 17.500 دولار زيمبابوي مقابل 1 دولار أمريكي، و في عام 2006م بلغ 550 ألف دولار زيمبابوي مقابل الدولار الأمريكي الواحد، ليصل الآن كما أسلفنا إلي 200 أوكتيليون دولار زيمبابوي مقابل واحد دولار أمريكي فقط (أي الرقم 200 و أمامه 27 صفرا). فإذا كان هنالك رقما قياسيا للأصفار في موسوعة جينيس لحطمته عملة زيمبابوي بجدارة و تربعت بجدارة علي عرش أغبي عملة في العالم.
و بعد أن كانت زيمبابوي من أكبر الدول الأفريقية المنتجة للتبغ، الذرة، البن، القمح، القطن، الفول السوداني، و قصب السكر و كانت تعتبر من أكبر الدول الأفريقية المصدرة للغذاء أصبحت من أكبر الدول التي تعاني نقصا حادا في الغذاء ما أدي بدوره إلي تدهور الأوضاع الصحية و تفشي أمراض الفقر و علي رأسها مرض الكوليرا التي أودت بحياة مئات الآلاف من الشعب الزيمبابوي و تربعت بالتالي زيمبابوي بجدارة علي قمة الدول التي تشهد أقل متوسطات العمر علي وجه الكرة الأرضية و التي تقدر ب 44 عاما للذكور و 43 عاما للإناث و أصبحت الآن تعيش علي معونات أمريكا و الإتحاد الأوروبي و الأمم المتحدة و بعض الدول الأفريقية و غيرها من الدول و المنظمات الإنسانية المانحة و أصبح شعبها واحدا من أفقر شعوب العالم يقدر نصيب الفرد فيه من الناتج المحلي الإجمالي ب 600 دولار فقط حسبما جاء في ويكيبيديا الموسوعة الحرة و هي بذلك تحتل المرتبة الثانية في انخفاض متوسط دخل الفرد بين دول العالم بعد جمهورية الكنغو الديمقراطية التي تحتل زيل القائمة. علما بأن متوسط الدخل الحقيقي يقدر بحوالي 13 تريليون دولار زيمبابوي شهريا حسب إحصاءات عام 2007م أي ما يعادل أقل من عشرة دولارات أمريكية في الشهر الواحد أي 120 دولار أمريكي سنويا.
كما تدهورت صناعاتها من الفحم، البلاتين، الذهب، النحاس، النيكل، القصدير، الطَفلة، الفولاذ، المنتجات الخشبية و الغابية، الأسمنت، الأقمشة، و غيرها من صناعة المشروبات و المنتجات الغذائية إلي مستويات غير مسبوقة، و أصبحت موارد و خيرات البلاد التعدينية محتكرة لزمرة من الفاسدين و المفسدين من حاشية الديكتاتور موغابي من أقاربه و أصدقائه و طغمته الفاسدة و ليس لعامة الشعب نصيب منها و أصبحت البطالة سمة من سماتها مستحيلة التعضي وقد وصل معدلها حسب آخر التقديرات لما يتجاوز ال 80% و هي من أكبر معدلات البطالة في العالم.
و من جانب آخر فقد أدي الفساد و الإنهيار الإقتصادي مصحوبا بالقمع السياسي في زيمبابوي و تورطها تاريخيا في الحرب الأهلية بجمهورية الكنغو الديمقراطية و غيرها من الحروبات الإقليمية إلى تدفق اللاجئين من مواطنيها إلى البلدان المجاورة لتتجاوز أعدادهم ما يزيد عن ال 3.4 مليون زيمبابوي (أي ما يعادل ربع عدد السكان) الذين بدؤوا يفرون إلى خارج البلاد منذ عشيِّة منتصف 2007م و منهم حوالي 3 ملايين لجئوا إلى جنوب أفريقيا وبوتسوانا و غيرها من البلدان الأفريقية المجاورة.
زيمبابوي لا تقل عن بلادنا في مواردها الطبيعية و البشرية. فقد خصهما الرحمن معا بنصيب مقدر من كنوز الأرض و خيراتها و التي يمكن بقليل من التدبير أن تضعهما علي قمة أكثر بلدان العالم تقدما و ثراءً. و لكن ماذا نقول فالطيور علي أشكالها تقع.
لا نود الإطالة في الحديث عن زيمبابوي و غيرها من البلدان التي جرّبت سياسة الإحلال النقدي لمعالجة التضخم و انهيار قيمة سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية و اتخذها لنا (طبيب الأسنان و طفلنا المعجزة ) مثلا أعلي، فهو حديث كما يقولون "له شجون" و لكن السيناريوهات واحدة لا تنفصم عن بعضها البعض في مضمونها العام و نتائجها الكارثية (و إن اختلفت) في بعض التفاصيل المرتبطة بالجغرافيا و التاريخ و بعض السمات و التجارب الخاصة.
ففي ظل هذا الإنهيار الكارثي للعملة الزيمبابوية نتيجة الإنهيار الإقتصادي الشامل وصل معدل التضخم في نوفمبر 2008م إلي 79.600.000% أي ما يعادل 89 سكستليون (و السكستليون عبارة عن الرقم 1 و أمامه 21 صفرا) و هو أمر لا يصدقه العقل السليم و لم تشهده البشرية برمتها منذ عصورها الحجرية و منذ أن عرف البشر التجارة و النشاط الإقتصادي. و قد لا يصدق القارئ الكريم هذا و يجد فيه ضربا من الخيال و لكنها الحقيقة المرة و المصير الكارثي الذي تصل إليه كل البلدان التي تنتهج سياسة الإحلال النقدي للهروب من انخفاض سعر صرف عملتها الوطنية.
و بعد أن فشلت كل محاولات النظام الديكتاتوري الحاكم في معالجة التضخم كان من الطبيعي أن تميل كل القطاعات الإقتصادية للتعامل بالعملات الأجنبية كمخزن للقيمة (كما يفعل الناس اليوم في بلادنا حيث يفضلون الاحتفاظ بالدولار الأمريكي و غيره من العملات الصعبة للمحافظة علي أموالهم و ثرواتهم) و أن تلجأ الدولة إلي سياسة الإحلال النقدي كحل تلجأ له دائما البلدان الفاشلة في نهاية المطاف تماما مثل القشة التي يتعلق بها الغريق.
و في يناير 2009م اعتمدت الدولة بشكل رسمي تداول إحلال العملات الأجنبية محل العملة الوطنية يتم تداولها إلي جانبها و أصبح استخدام الراند الجنوب إفريقي و الدولار الأمريكي أمرا قانونيا مسموحا به من قبل السلطات النقدية الزيمبابوية في المبادلات اليومية فيما يطلق عليه اقتصاديا بالدولرة أو (Dollarization) للتعبير عن إحلال العملات الأجنبية محل العملة الوطنية (أيا كان نوع العملة الأجنبية و ليس الدولار فقط و قد سمي بالدولرة فقط لأن معظم البلدان التي جربت الإحلال النقدي قد اعتمدت الدولار من دون العملات الأخري) في إعتقاد ساذج منها بأنها تمثل السياسة الناجعة في معالجة ارتفاع معدل التضخم و تدهور قيمة العملة الوطنية. و لكن الإحلال النقدي علي عكس ما هو مخطط فقد (زاد الطين بلة) كما يقول المثل و (لأن النقد الجيد في علم الإقتصاد يطرد النقد الردئ حسب قانون كريشام) و بدلا من السيطرة علي معدلات التضخم استمرت الارتفاعات فيها هذه المرة بوتيرة أسرع لتصل إلي 89 سكستليون في المائة عام 2013م كما أسلفنا و أصبحت زيمبابوي تعيش الآن (بدلا من التضخم الجامح الذي ضرب البلاد عام 2008م) نوعا آخر من أنواع التضخم أكثر تقدما و تعقيدا و خطورة هو التضخم الركودي أو ما يصطلح عليه اقتصاديا ب (Stagflation) و دائما ما تصاب به دول العالم الثالث و من بينها السودان.
فإذا كان التضخم بشكل عام يعرَّف بأنه ارتفاع متواصل في الأسعار نتيجة لزيادة الطلب علي السلع و الخدمات بمستويات أكبر من المعروض منها نتيجة لارتفاع معدلات تشغيل الموارد البشرية و انخفاض معدل البطالة و انخفاض سعر الفائدة علي الإقراض مما يشجع المؤسسات و الأفراد للاقتراض و الحصول علي النقود و بالتالي تزيد معدلات إنفاقهم علي السلع و الخدمات. و إذا كانت العلاقة بين التضخم و معدل البطالة دائما هي علاقة عكسية (أي كلما زادت معدلات التضخم كلما انخفضت معدلات البطالة و كلما انخفضت معدلات التضخم كلما ارتفعت معدلات البطالة).
فإن خطورة التضخم الركودي تأتي من كونه يكون دائما مصحوبا بارتفاع كبير في معدلات البطالة. أي أن العلاقة هنا بين التضخم و البطالة تصبح علاقة طردية لذلك تكون حالة الإقتصاد عبارة عن ارتفاع متواصل في الأسعار و في ذات الوقت ارتفاع متواصل في معدلات البطالة و ارتفاع في سعر الفائدة و بالتالي يحدث ركود إقتصادي مصاحب للتضخم أي انخفاض في الطلب علي السلع و الخدمات لعدم وجود سيولة لدي معظم القطاعات الإقتصادية و خاصة قطاع الأفراد نتيجة لانعدام الدخل بسبب البطالة أو لانخفاض الدخل بسبب تدني مستويات الأجور و المرتبات لحدة المنافسة في سوق العمل نتيجة لارتفاع معدلات البطالة التي عادة ما تضعف القدرة التفاوضية للباحثين عن عمل و بالتالي يكون الارتفاع المتواصل في الأسعار مصحوبا بحالة عامة من الركود الناتج عن انخفاض الطلب علي السلع و الخدمات.
هذه هي نفس الحالة التي يعيشها الإقتصاد السوداني للأسف الشديد فمعدل التضخم قد تجاوز حاجز ال 43% حسب الإحصاءات الرسمية و في نفس الوقت ارتفع معدل البطالة إلي 18.8% بنسبة 13.7% للذكور و 32.5% للإناث حسب تصريح وزيرة العمل إشراقة محمود في المؤتمر الصحفي الذي عقدته بالخرطوم بتاريخ 28 أغسطس 2013م في حين أن معدل البطالة المقبول عالميا يجب ألا يتجاوز 2%. و تزايدت معدلات الهجرة خارج البلاد لتتجاوز أعداد السودانيين بالخارج ال 12 مليون نسمة بما فيهم اللاجئين في دول الجوار نتيجة الفقر و الحروب الأهلية في دارفور و جنوبي النيل الأزرق و كردفان.
و قد مرت البلاد خلال عقدين و نصف من الزمان بنفس تجربة زيمبابوي (فساد مالي مستشري كالسرطان، تدهور مريع في القطاعات الإنتاجية، انهيار شامل في كافة الخدمات الإجتماعية و الصحية و تفشي أمراض الفقر و التلوث البيئي، هجرة العقول و الموارد البشرية إلي الخارج، اختلالات هيكلية في بنية الإقتصاد، صرف من لا يخشي الفقر علي القطاعات غير الإنتاجية و علي رأسها الأمن و الحرب و مخصصات الأجهزة الحكومية المترهلة، أتوات و جبايات و ضرائب باهظة ما أنزل الله بها من سلطان، تراكم في حجم الدين الداخلي و الخارجي، ارتفاع معدلات التضخم الجامح و تحوله خلال السنوات القليلة الماضية إلي تضخم ركودي مصحوب بنسب بطالة مرتفعة و انخفاض في حجم الطلب الكلي علي السلع و الخدمات دون أن يؤدي ذلك إلي انخفاض أسعارها (فقانون العرض و الطلب في بلادنا معطل لا تأثير له) مع ارتفاع أسعار الفائدة علي التمويل، انهيار متواصل في سعر صرف العملة الوطنية كأحد أهم نتائج هذا التدهور الإقتصادي الشامل علي مستوي كافة القطاعات الإقتصادية، و فشل كل محاولات النظام خلال سنوات حكمه الطويلة في معالجة هذا الإنهيار في العملة المحلية. و قد شهد الناس بأم عينهم مسيرة هذا الإنهيار و ستظل مشاهد جوالات البلاستيك و الخيش و الكراتين المكتظة بالعشرات و المئات من الرزم الورقية في السوق الشعبي و سوق ليبيا و كافة أسواق السلع و المحاصيل و البهائم و السيارات و الأراضي و العقارات و غيرها من الأسواق و في المصارف و الصرافات صور حيَّة محفورة في ذاكرة السودانيين.
فشلت تجربة الدينار و فشلت تجربة العودة منه مرة أخري للجنيه و فشلت تجربة تغيير فئات العملات الورقية و طباعة أوراق نقدية جديدة بفئات جديدة فسياسة سعر الصرف لا يتم تقويمها بالتلاعب بالأصفار و التمادي في طباعة النقود. فقد سبق و أن أعلنت حكومة زيمبابوي في يوليو 2008م عندما بلغ معدل التضخم فيها 231 مليون في المائة بأنها ألغت 12 صفرا من عملتها و أعادت إصدار الدولار الزيمبابوي بسبع فئات تبدأ من 1 إلى 500 دولار زيمبابوي و أصبح وقتها التريليون دولار زيمبابوي من العملة القديمة يساوي دولار زيمبابوي واحد فقط في العملة الجديدة كما حدث للجنيه في آخر تعديل لفئات العملة في السودان و أصبح ال 1000 جنيه بالقديم تعادل 1 جنيه بالجديد. و رغم ذلك لم تبدل تلك المحاولات في الأمر تبديلا و ظلت معدلات التضخم و سعر صرف العملة المحلية في البلدين علي سيرتهما الأولي (التضخم في حالة ارتفاع متواصل و العملة في حال انخفاض متواصل).
و بالتالي فإن إحلال اليوان الصيني أو غيره من العملات الأجنبية محل العملة المحلية و السماح له بالتداول اليومي بشكل رسمي سيؤدي إلي نفس المصير الكارثي الذي وصلت إليه زيمبابوي و سيقود البلاد إلي مزيد من الإنهيار و التدهور. فتدهور قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية هو أحد نتائج الأزمة الإقتصادية الشاملة التي تعيشها بلادنا و ليس سببا فيها و علاجه يكمن في علاج الأسباب الحقيقية التي أدت إلي هذه النتيجة الكارثية فلا يستقيم الظل و العود أعوج.
سنواصل في الحلقة القادمة الحديث باختصار غير مخل عن الأسباب الإقتصادية التي تجعل الإحلال النقدي عاجزا عن معالجة التضخم عموما و تدهور سعر الصرف ثم نتحدث عن اليوان الصيني و استحالة إحلاله محل العملة المحلية في المعاملات الداخلية و الخارجية و محل الدولار الأمريكي في المعاملات الخارجية لدحض افتراءات الطفل المعجزة و كشف جهله بما يقول قبل أن نعرِّج في الحلقات التي تليها عن أسباب انهيار العملة المحلية و السبل الكفيلة باستعادة عافية الإقتصاد الوطني فتابعونا.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.