عندما قرر الإعلامي والمذيع اللامع (تجاني) أن يركن سيارته أمام مكتبي ويستقل معي سيارتي كان قراره موفقاً جداً، فقد شكا من أن إطارات سيارته ستمارس التسكع في مشوارنا الذي ننويه وهو مشوار لا يحتمل المفاجآت غير السارة، كما أن سيارته الصالون تحتاج إلى ميزة الدفع الرباعي لتجنب أهوال الطريق واحتمالات الوحل ومفاجآت الرمال. استمعت إليه على مضض وانطلقنا نحو محلية شرق النيل وفي الطريق وبعد كبري المنشية بقليل انضم إلينا الأخ الأستاذ (عبدالرحمن) وكانت تلك بداية الرحلة المنوط بها توزيع بطاطين وملابس شتوية وصيفية لعدد من الأيتام والأرامل بمحلية شرق النيل. رحلة تحت رعاية مجموعة جانا الشتاء الطوعية والتي تتكون من عدد كبير من الإعلاميين الذين يرفعون شعار (بخيرك دفي غيرك) والذين تحركوا قبلنا بثلاث سيارات واحدة منها عربة (هايس) تحمل البطاطين والأغطية والملابس. واصلنا طريقنا خلفهم على الشارع الأسفلتي وسرنا مسافة طويلة جداً لم نتوقف خلالها إلا (مرتين) مرة للتزود بالوقود ومرة لأداء صلاة العصر. بعدها تجاوزنا الكثير من المناطق والأحياء الحديثة والقديمة حتى وصلنا منطقة تسمى (ليبيا) عندها ركنا السيارة على أحد جانبي الطريق ريثما نستعلم مرشدنا عن خيارات الاتجاه. وبينما نحن في انتظار المكالمة فجأة برز لنا رجل خمسيني بشوش صبوح اسمه عبدالعظيم أحمد قال لنا (ها جماعة ضهبانيين ولا حاريين زول.؟؟) فرد عليه تجاني: بأننا ننتظر مكالمة لتحدد اتجاهنا. فقال الرجل (حرم تمشوا معاي البيت تتغدوا، أصلا عندي حمل محرق روحي). هكذا قال الرجل بلغة سودانية بسيطة وبكرم حاتمي طاغي وبحفاوة وبشاشة تشبه أريحية وبساطة أهالي شرق النيل. ولم يتركنا الرجل نغادر إلا بعد أن التزم تجاني بأننا سنعود يوماً لنبر قسمه ونبارك طلبه ونقتسم شواء الحمل (المحرق روحو) في منزله. عدنا بعد ذلك إلى الطريق الأسفلتي وواصلنا سيرنا حتى وصلنا إلى سوق منطقة الشيخ أبوقرون، وهناك استقبلنا شيخ محمد وهو دليلنا في رحلتنا إلى منطقة الكرداب حيث قرية الأطفال الأيتام والنساء الأرامل. بعدها تحركنا في الطريق ما بين سهول وصحراء وأعشاب وطرق وعرة قرابة الساعة حتى انزلقت الشمس من علاها معلنة غروبها، وكنت حينها (صائمة) ولا أحمل زاداً معي ولكن لحسن الحظ كان الأخ عبدالرحمن يحمل بعض التمر في جيبه فأخرجه لي وكان كافياً مع قارورة من المياه ليروي ظمأ رحلة لم تبدأ بعد. إن الطريق الوعر إلى منطقة الكرداب يكشف أن ما تمارسه حكومة الخرطوم من (تبرج) جزئي في المركز يقابله (عري) كامل في الأطراف وفشل واضح وبائن يعكس وبوضوح بؤس معتمدية شرق النيل وسوء حظ مواطنها. لا تخطيط ولا خدمات ولا بنية تحتية ولا فوقية ولا عمران ولا استثمارات ولا أثر للحياة... فقط هناك السماء والأرض؟؟؟. وإذا كنت محظوظ الصحبة فسيصادفك حمار أو قطيع من الجمال أو كلب ضل الطريق كل نصف ساعة ليبدد الوحشة وسكون الموت من حولك. مساحة صالحة تماماً كما قيل لنا للنهب والسلب والتهريب، ولا أعتقد أن التهريب يقتصر فقط على تهريب البشر والمخدرات أو السلاح ذلك لأن الفراغ الكبير كافٍ تماماً لتهريب مدن بأكملها ولن يحس لهم أحد صوتاً أو يسمع لهم ركزاً. نعم هذا هو طريق الكرداب محليات وأحياء بأكملها تفتقد إلى أبسط مقومات الحياة محلية عندما يبدأ أطفالها ونساؤها في هجرة يومية تستمر ساعتين للبحث عن الماء يكون معتمدها يمارس هواية الابتسامات الصفراء أمام عدسة الإعلام..... الكرداب (2) تحدثنا في الحلقة السابقة عن رحلتنا إلى مدينة شرق النيل لتوصيل بعض المساعدات الإنسانية لمجموعة الأطفال الأيتام والنساء الأرامل بمنطقة الكرداب، وتوقفنا عند مرحلة الصحراء التي قطعناها في مدة زمنية تجاوزت ساعة كاملة. وبعد رحلة شاقة وطويلة طوينا فيها الصحاري والوهاد وصلنا إلى تخوم ما يشبه القرية منازل أقرب إلى فكرة الرقراق منها إلى فكرة المأوى لاهي قوية تصد الرياح ولا دافئة تحمي من البرد ولا سميكة تحجب الأمطار ولا باردة تلطف قساوة الصيف، منازل يعاني سكانها طيلة العام بمختلف فصوله كل أيام السنة جحيم لأهالي الكرداب، بيئة قاسية وجافة غيرطبيعية ومع الأسف الشديد داخل حدود ولاية الخرطوم. تابعنا الرحلة ووصلنا مع دليلنا إلى منزله فوجه زوجته بتحضير أكل لنا قائلاً لها (الجماعة دييل صايميين أرح قوام) ولم تكن زوجته تحتاج إلى أكثر من تلك العبارة حتى تعد ملاح التقلية والعصيدة وعصير الليمون وفي دقائق معدودة كان نسوة القرية قد اجتمعن لمساعدتها . عقب تناول الطعام بدأ أفراد مجموعة جانا الشتاء وهم رجال ونساء وشباب بدأوا في الاجتماع مع أهل القرية، أحد أفراد جانا وهو عبدالرحمن جاء بصحبة زوجته عضو المجموعة وهو تكافل لفعل الخير غير مسبوق أن تجد زوج وزوجته أعضاء في منظمة طوعية واحدة يغادرون منزلهم من الظهر تاركين أطفالهم من خلفهم من أجل تقديم مساعدة للمحتاجين علماً بأننا قد عدنا من تلك الرحلة في الساعة الثانية عشرة ليلاً ولكم أن تتخيلوا غياب الأب والأم عن أطفال حتى منتصف الليل، ولم تكن تلك المرة الأولى ولا الوحيدة التي يخرج فيها الزوجان من أجل العمل الطوعي، حقاً إنهما نموذج مشرف يستحق التقدير. المهم أنه وعقب كل هذا بدأ الأطفال الأيتام وعدد كبير من النساء الأرامل في التوافد نحو فسحة افترشنا فيها ماجئنا نحمله. التفوا حولنا بسرعة رهيبة وجوه شاحبة متعبة حزينة ونفوس مرهقة خط الفقر والجوع والبؤس تضاريس وجوههم ونحتت الصحراء فوق أجسادهم النحيلة منحوتة يصعب على أقوى برامج التخسيس في العالم أن تنحتها.. لقد لفت نظري وبشدة أنه لا يوجد بينهم شخص بدين أو مترهل أو حتى ممتلئ عدا بعض الرجال. النحافة قاسم مشترك لكل النساء والأطفال وكأنهم صبوا في قالب واحد أو أخضعوا لبرنامج حمية مكثفة . وقد علمت بعد ذلك أن كثيراً من النساء والأطفال وكذلك الرجال يسيرون يومياً مسافات طويلة جداً تقدر بالساعات لجلب المياه، وهذا يفسر بالتأكيد سبب هذه الأجساد النحيلة فلا يوجد برنامج أقوى من الشقاء والمعاناة لحرق السعرات الحرارية. سيدة كبيرة في السن حين مددت يدي لها ببطانية وجلباب أخذت تدعو لي بابتهال شديد فأسررتها في نفسي وأنا أعلم أني لست سوى أداة توصيل ولكن الفضل لله أولاً أن سهل مهمتنا وإلى مجموعة جانا الشتاء وإلى الإخوة المغتربين بالسعودية الذين قاموا بتمويل تكلفة البطاطين.. هلالاب المنطقة الغربية وعلى رأسهم الأستاذ عثمان الأحمر. وكم تمنيت لو أنهم كانوا بيننا ليشاهدوا بأنفسهم فرحة الصغار بالملابس وكأنها ليلة العيد أو ليلة القدر زارتهم. يالهم من أناس بسطاء يعيشون على سجيتهم دون أن يتلوثوا بأخلاق المدن الكبيرة، يحملون الحب والود حتى أن سعادتهم بالملابس المستعملة لا نستطيع مضاهاتها بتبضعنا من ملابس مولات خرساء لا تسمع وجع البؤساء..... نواصل السوداني