سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    "الآلاف يفرون من السودان يومياً".. الأمم المتحدة تؤكد    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    بوتين يحضر قداس عيد القيامة بموسكو    أول اعتراف إسرائيلي بشن "هجوم أصفهان"    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    السعودية أكثر الدول حرصا على استقرار السودان    الفاشر.. هل تعبد الطريق الى جدة؟!!    الخارجيةترد على انكار وزير خارجية تشاد دعم بلاده للمليشيا الارهابية    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد بالفيديو.. محامي مصري يقدم نصيحة وطريقة سهلة للسودانيين في مصر للحصول على إقامة متعددة (خروج وعودة) بمبلغ بسيط ومسترد دون الحوجة لشهادة مدرسية وشراء عقار    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    كباشي والحلو يتفقان على إيصال المساعدات لمستحقيها بشكل فوري وتوقيع وثيقة    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    وصف ب"الخطير"..معارضة في السودان للقرار المثير    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علي عثمان يتيما..!!
نشر في الراكوبة يوم 20 - 01 - 2016

تعدي الأمر في الداخل مرحلة(مسرح) العبث واللامعقول، الي أعماق مرحلة السفه او مسرحة تزيين الباطل الي مصاف الإنجازات والعيارية المثلي. وأكثر ما يتبدي هذا الفعل المنكر آنيا، في هوجة مهرجانات التسوق التي تتطوف بالبلاد من أقصاها لأدناها. وبكل ما يحمله هكذا مسلك، من عمي في مقاصد ترتيب الأولويات! وذلك عبر إهدار الموارد علي تظاهرات شكلية وفارغة، كتعويض عن إحداث إختراق حقيقي في حقل الإنجازات التنموية والسياسية والإجتماعية والقيمية..الخ. وهذا قبل السؤال البديهي الذي يفرض نفسه في هكذا تظاهرات، هل هنالك تسوق من دون إنتاج؟ وكيف لمجتمع يعاني شظف العيش وتفشي العطالة وإنحدار مستوي الخدمات الأساسية لمنطقة القاع او مماسة العدم، أن يملك قدرة علي الإنفاق؟ أي هو لا يملك قوت يومه، فمن أين له القدرة علي ترف التسوق؟! إلا إذا كان الغرض إمتاع البصر وقهر النفوس البائسة، والإنصراف عن معاناة الأجساد التي ينهشها المرض، إضافة الي إشاعة حياة الإستهلاك كقيمة راقية وحضارية، تعبر عن حضارية ورقي المشروع الحضاري؟! أما مسألة الإستفادة من فترات التظاهرات التسويقية في تنشيط حركة التجارة وتخفيض الأسعار وإتاحة فرص عمل للمجتمع(غالبا أنشطة هامشية ومفروض عليها أتاوات تقصم ظهر المنافع المجنية!) فهو من باب لغو الحديث الإقتصادي والخداع الإجتماعي! علي إعتبار ما ذكر سابقا، أي أن أساسيات مهرجانات التسوق قائمة علي تنشيط النزعة الإستهلاكية في فراغ من القدرات الإنتاجية! بمعني، الإقتصاد السوداني يدور في فلك التضخم وحلقة مفرغة من رفع سقف المديونيات الداخلية والخارجية! أي يحكمه العجز عن إضفاء أي قيمة إقتصادية إيجابية او تراكمية، مبنية علي إستثمار الموارد المتاحة وتعظيم الفوائد من الأنشطة الإقتصادية المتوافرة، في ظل ركود شامل يشل عجلة الإنتاج في الداخل، ويعظم من تكاليف الإنتاج وزيادة مخاطر الإستثمار! والأهم رداءة البيئة السياسية، كأكبر مهدد لنهوض الإقتصاد وشمولية التنمية وعدالة توزيع مستحقاتها ومنافعها.
وعلي العموم، لا أعتقد أن الإهتمام بمهرجانات التسوق، مسلك شاذ في فكر ووعي وسلوك جماعة تجارية، بالتكوين والثقافة والحضور في الحياة! بمعني، المشاريع الإسلاموية لا تستهدف تغيير الواقع، وتاليا متطلباته من برامج إنتاجية تعظم منافعه وتزيل عقباته وتطلق طاقات مجتمعه، وقبل ذلك تنطلق منه، كقاعدة للتفكير وكأدوات للتغيير! ولكنها تنطلق من رؤية إصلاحية مجتمعية(من منظورها بالطبع الذي يعتقد بفساد المجتمع! ولا نعرف هل هم من مجتمع آخر؟) وتاليا يتركز خطابها في مخاطبة السلوك والقيم والملبس والمحرمات والآخرة..الخ، أي تعلب دور المعيار للقيم والمجتمع! والحال هكذا، لا يستغرب إهمال او غياب كامل لطرح مشاريع حقيقية، تخاطب الواقع بماهو واقع، ملئ بالصعاب وكذلك الفرص، وكيفية معالجته والإفادة منه، بأدوات ومناهج معرفية، لا يصدف أنها متاحة! والنتيجة الفعلية لهكذا مسلك طفولي وحالم، هي إنكار الواقع وصعوباته ورمي التهم علي المجتمع وجهالاته، من ناحية! ومن ناحية مقابلة، تعظيِّم حيز التجارة(الشطارة!) كمجال قليل الجهد عظيم الأرباح ومتوافر بكثرة في الأدبيات الإسلاموية الماضوية التي ينهلون منها! أي ممارسة التجارة والإحتكار والمضاربة هي قمة المنهجية والعلمية او الإقتصاد الإسلاموي(المبارك!) الذي يتم الترويج له! أي إستبدال المناهج والمدارس الإقتصادية المعلومة والمجربة عبر الإشتباك مع الواقع ومصارعته، بخطرفات الإقتصاد الإسلاموي المزعوم! ولأن التجارة من مهنة تحولت الي مبادئ وقيم موجهة للسلوك، تعدي الأمر الإقتصاد للمتجارة بالدين والوطن والسياسة والمجتمع ذاته!؟ وبما أن أي إتجاه مناقض لحركة الواقع مؤكد الفشل، كان لابد من حراسته بالإستبداد الديني والإرهاب المدني، أي تغييب الجمهور العام عن المشاركة في صناعة مسقبله وتقرير مصيره. وبعيدا عن التعميم يمكن ضرب أمثلة حية لإنتشار هذه البدعة الإقتصادية الجديدة. ولا بأس من إبتدارها بتساؤل، فهل من أولويات الشرق، كثغر للسودان وكميناء وتقاليد ملاحية عريقة، او كفرصة لتطور قطاع المواني في محاكاة (فلاحية) للنموذج السنغافوري. ومن ثم تهيئة البيئة العامة، كبني تحتية مادية وبشرية، للتكيُّف مع هذا المشروع. أي تطوير قدرات إنسان الشرق، لينصرف للإهتمام بهكذا نشاط إقتصادي وحيوي، وتاليا الخروج من ربقة الجوع والسل وغيرها من آفات نقص التنمية وغياب الخدمات، التي تستوطن في تلك البيئات؟ أم الأولوية لتحديث مدينة بورتسودان حصريا، بالزينات والبهارج والإنارة والطرق الوسيمة وغيرها من أوجه الصرف غير الإنتاجية؟ وإعتقاد أن هذه المراهقة التنموية قادرة علي تحويلها لمدينة سياحية!
والمؤسف أن يتم ذلك، غصبا عن تردي إحتياجات إنسان الشرق العاجلة وبرامج التنمية الملحة. ونقصد بذلك تحديدا، محاولات تغيير نمط حياة إنسان الشرق المرتبطة بالميناء، الي نمط حياة أقرب للإرشاد السياحي والبيع المتجول والسمسرة الموسمية، في محاكاة شائنة لمدن كالغردقة وشرم الشيخ، ولكن من دون تأهيِّل لذلك المستوي من الترفيه النخبوي! علما بأنه مستوي في طبيعته وتكوينه ووظيفته، يستوعب قدر أقل من القليل من المواطنين المحظوطين، للإنخراط في الإستمتاع بفوائده! وهذا دون ذكر شئ عن غربته علي مزاج ومصالح البيئة المحلية. بل حتي النماذج الناجحة لمثل تلك المشاريع في الدولة المصرية، كقبلة للسواح وإقتصاديات السياحة، تجد النقد من بعض الإقتصاديين المصريين، سواء في تكاليف تأسيسها الباهظة او في جدواها الإقتصادية مقارنة مع مشاريع بديلة تتيح فوائد أكبر وفرص عمل أوسع للمواطنين. أما الأخطر من كل ذلك، فهي تفتح الأبواب مشرعة للإنحراف الإجتماعي، لمجاراة ذاك المستوي المرتفع من الحياة، الذي يتحول بدوره لنمط حياة طبقة جديدة في المجتمع، لا يندر أنها والغة في الفساد، بقدر ما هي عنوان له او دليل عليه. أما الأغرب من كل ذلك، فهو تصوير هذه الوضعية المختلة من كافة الأوجه، بالإنجازات! التي يكافئ صاحبها بمنحه ولأية أخري، أكثر ثراء وفرص إقتصادية وإنتاجية، ليُعيِّد فيها من جديد سيرته التنموية الدعائية، القائمة علي دعائم المهرجانية او البهرجة والإستهلاك من ناحية، والإستعلاء الكامل علي العمل والإستعداء لبذل الجهد والإنتاج، من الناحية الأخري. ولا نستبعد إستغلال هذه المهرجانات لصالح شركاته العاملة في هذه القطاعات او توجيهها لمصالحه الإقتصادية الخاصة! أما الأمر من ذلك، فهو السخرية من حاجات أهل الجزيرة الحقيقية، كإعادة الحياة لمشروع الجزيرة، بصورة تبعث الروح الإنتاجية والحيوية الإجتماعية، في رميمه من جديد! او توقف طوفان أمراض السرطانات والفشل الكلوي التي قاربت أن تغرق كل أهل الجزيرة، بعد تحولها الي ما يشبه الوباء او الأمراض المستوطنة(نسأل الله الشفاء لجميع المرضي وحماية الأصحاء!).
أما الأكثر سوء من كل ذلك، أن تصبح نزعة المهرجانات الطفولية والمعادية للإنتاج ومصالح المواطنين، نموذج للإقتداء والظهور الإعلامي وفتح لأبواب الفساد ونهب الموارد العامة، في مناطق أخري. او كما يشاع عن مهرجان آخر للتسوق يقام في الولاية الشمالية، وفي منطقة مروي تحديدا. أي عوضا عن السعي الجاد لإقامة مشاريع إنتاجية زراعية وتصنيعية، تُخرج أهل المنطقة وكغيرها من مناطق السودان من محنتها، المتمثلة في تحطيم المشاريع والمؤسسات القائمة، وتدهور ما تبقي منها وخروجها من دائرة المنافسة او مجرد الإكتفاء الذاتي، وتاليا، تعميم ضنك العيش وإنتشار الفقر وإنعدام فرص الإستقرار. والمؤسف أن المسؤولين في ذات المنطقة، رفضوا إجراء مسح وبحوث بخصوص ما شاع عن دفن النفايات، المهددة لحياة إنسان المنطقة. وبدلا عن كل ذلك كما أسلفنا، تهرول سلطات الولاية لإقامة مهرجان تسوق(فشنك) تُهدر فيه المليارات فيما لا طائل من وراءه، إلا التطبيل والدعاية وملء جيوب المسؤولين بأموال الدولة السائبة(لا مراجعة لا فواتير لا رقابة لا محاسبة، ولا يحزنون!) التعويل فقط علي ذمة الإسلامويين والعسكر، ويا لها من ذمة تحاكي نفاياتهم السامة!؟ والحال كذلك، لا نستغرب بعد فترة أن تُظهِر السلطات في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، عن رغبتها في إقامة مهرجانات بنفس الكيفية والسفه! وعندها نجزم أن السلطات في الخرطوم، لن تتأخر او تتواني عن بذل المال والدعاية والرعاية لها كل عام! غصبا عن معسكرات النزوح والفقر التنموي المشهود..الخ من المآسي والنكبات المدركة لدي الكافة. أي الحكومة عندما يتعلق الأمر بالدعاية، كالمهرجانات والدورات المدرسية وإنشاء الإستادات الرياضية وغيرها من مشاريع الهدر المالي والسفه السلطوي، نجدها سباقة! أما عندما يتعلق الأمر بمشاريع التنمية والإنتاج والخدمات، يكون ردها بالسلاح والإرهاب وإرسال الطيران الحربي لإلقاء القنابل علي المواطنين العُزل، وإتهام قادتهم بالعمالة والإرتزاق! وكأنهم مواطنين دولة أخري. وصدق حميد في وصف هذه الوضعية المعكوسة في مقطعه(وكت الجد كان أدي ينقنق وكت الفارغة يشيل ويبعزق!). ولكن السؤال، هل تم إستشارة المواطنين في حاجاتهم وأولياتهم او عُرضت فكرة المهرجانات للنقاش العام، قبل الشروع في تنفيذها؟ علما بأن المواطنين هم الأدري بحاجاتهم ورغباتهم، وليست السلطة الضالة في الخرطوم وأذنابها الفاسدة في الولايات، والذين هم أيضا يعلمون ويعملون لمصالحهم الخاصة، والتي تلبيها هذه المهرجانات التسوقية السفهية! أي كمورد للدعاية ونهب المال المجاني! وكما عبر حميد أيضا (باسم الرصيف(المهرجان) والما رصيف كم بيت وصالون أنبني). وعموما، هنالك توازي او تناقض وجودي لوجاز التعبير، بين مصالح السلطات المستبدة والمصلحة العامة او مصالح الجماهير، وهو تناقض لا سبيل لحله، إلا بإزاحة السلطات المستبدة او إرهاب الجماهير. أما الطريق الثالث فهو أقل كلفة ولكنه أقل جذرية، أي كسلاح فعَّال في يد الجماهير، تعجز السلطات مهما أوتيت من قوة وسيطرة علي مواجهته، وهو سلاح المقاطعة! ومن السهولة بمكان إختباره في هذه المهرجانات كمقدمة لفرض العزلة علي السلطات الحاكمة، ويمكن تفعيِّل وسائط التواصل الإجتماعي في هذه الحملة. وأخيرا، حقيقة هذه المهرجانات وضحت وبما لا يدع مجال للشك، أن الحكومة الفارغة لا تنتج إلا الفراغ والفساد والعدم.
المهم، سبب هذه المقدمة الطويلة او خلفية المشهد، أنها توصلنا مباشرة الي مربط الفرس، أي إستراتيجية قلب الحقائق وخلط الأولويات والإهتمامات! والمقصد هنا، ما يتعلق بالحملات المنظمة التي تستهدف، تنظيِّف وتطهيِّر او تعظيِّم زهد وتواضع وإخلاص ونبل..الخ، من الصفات المجانية، التي تغدق علي السيد علي عثمان طه، من دون حساب! حتي ظننَّا أن هنالك وشائج صلة بين علي عثمان والمهاتما غاندي، او رباط وثيق بين حكمته وحكمة رب الحكمة الأفريقية نيلسون مانديلا؟! وهو ما يحتاج بدوره، لمحاولة وضع النقاط علي الحروف، حتي لا نتوه في الدخان والضجيج الإعلامي الإسلاموي الصاخب!؟
أولا، السيد علي عثمان، يمثل ركن أساس في الجبهة الإسلامية والمنظومة الحاكمة، وليس عضو طارئ او متحول الي الجماعة من إتجاه آخر، وتاليا كل ممارسات وأفعال الجبهة والنظام، تطاله بشكل كامل. أي الرباط بينهما عضوي او كاثوليكي ولا يمكن الفكاك منه او الفصل بينهما! حتي ولو كانت السيطرة للترابي علي تلك الجماعة فترة طويلة، او أعلن علي عثمان عن تخليه عن الجماعة وإنشقاقه عن النظام، وإنضمامه للحزب الشيوعي او الحركة الشعبية او الجبهة الثورية! فكل هذه إن حدثت ولو أنها من رابع المستحيلات، لن تَجُبْ تاريخ علي عثمان مع الحركة الإسلاموية، وما سببته هذه الأخيرة من خراب علي مستوي السياسة ودمار علي مستوي الدولة وإنهيار علي مستوي الإجتماع السوداني. وتاليا، أي محاولة للتنصل من جانب علي عثمان او الفصل بين علي عثمان وكل الموبقات الأخيرة! لن تكون إلا تزويِّر للتاريخ، فوق أنها تشكل إهانة للذاكرة والوعي الشعبي، قبل أن تكون إبتذال لقيمة التسامح الذي عرف به السودانيون.
ثانيا، السيد علي عثمان كسياسي، تميز بالسلوك السياسي غير الشفاف، أو إحتلاله منطقة الرمادية السياسية لو جاز التعبير؟ وهذا إذا إعتبرنا أن ما تقدمه الجبهة الإسلاموية او يطرحه المؤتمر الوطني سياسة في الأساس. فعلي عثمان لم يكن بكاريزيمية الترابي القيادية، وتأثيرها علي الأتباع! إضافة الي وضوح طموحاته السلطوية وإندفاعاته الأممية، وتحليل كل المحرمات الوطنية، وإستخدام كل الوسائل في سبيل إنجاز غاياته الشخصية. بمعني آخر، الترابي كزعيم ضال، كانت مواجهته حاسمة ولم تقبل أنصفاف الحلول، من كل او أغلب النخب والأحزاب والمنظمات المهتمة، بالشأن السياسي وتدبير أمور السلطة وإدارة البلاد. وكذلك الدكتور نافع كإسلاموي أصيل، قد كان واضح لدرجة الفجور وجرئ لمرحلة السفور، في عداءه لكل ما هو سياسي او حزبي او وطني او إنساني او قيمي! ولذلك أيضا كان التعامل معه لا يحتاج لكثير عناء. أما المحتفي به الآن السيد علي عثمان، فقد كان يحاول مسك العصا من المنتصف! أي أن يجمع بين الضلال والمساوئ كإسلاموي قح، لم يتورع عن المشاركة في ممارسات الجماعة، الإجرامية والفسادية والنهبوية! القاتلة للوطن والوطنية والمهينة للمواطنة والمواطنين! وبين إرتداء قناع السياسي الوقور والدبلوماسي الحصيف والطاهر العفيف والمترفع عن المناصب والصغائر.
أي إعطاء طابع الإجرام، مسحة إسلامية وسياسية ووطنية؟ فيما يمكن وصفه بالقيادة ليس من الخلف كما يشييع في بعض الأدبيات السياسية، ولكن من منطقة الظلام، التي تخفي العيوب والأطماع والتشوهات السلطوية والسياسية والقيمية. أي كسياسي يفتقد القدرة علي المواجهة، وكطموحات سلطوية، يعجز عن إظهار رغباته وتحمل النتائج. ولذلك مشاركته في التمرد علي قائده لم تكن واضحة للعيان، بقدر ما وضحت في لمسات أصابعه ولغته وأسلوبه في الإخراج! أي الضرب في مقتل كالثعبان. وهو ما قد يفسر أيضا عدم إعتقاله طوال مسيرته مع الجماعة، بعكس القادة الآخرين. وكذلك لم يعرف عن علي عثمان التهور وسب المعارضة في العلن، إلا ما ندر، وفي حالات صاحبت المزايدة بالشريعة، من أجل كسب ود البشير، الذي دانت له السيطرة الفعلية علي السلطة والبلاد. وعموما، هذا التهذيب المصطنع، أقرب للمكر منها للسياسة او الدبلوماسية! خصوصا عند النظر إليه ضمن الصورة الكلية، لفساد الجماعة وإجرام النظام. وأيضا نلمح جانب من شخصية شيخ علي المرواغة، في صراعه خلف الكواليس ضد نافع، بعد إنفراط عقد الجماعة وإهتزاز مكانة وسلطة النظام، وبروز المصالح الخاصة وإعلان الرغبات الشخصية عن نفسها! حيث حاول علي عثمان في ذلك الصراع، إستخدام أدواته وأساليبه الخاصة او الخفية، لتحجيم دور نافع، ولكن من منطلقات تدعي الوطنية ورعاية المصالح العليا للبلاد! وهو يستفيد من ضعف مواهب نافع القيادية والتنظيمية، وهشاشة خلفيته السياسية وسوء علاقاته الحزبية! ولكن علي عثمان نسي في غمرة صراعه، فقدانه لقدراته السحرية، بعد إتفاقية نيفاشا المرفوضة لدي قطاع عريض من الإسلامويين، ولا نستبعد أن علي عثمان نفسه لا يؤمن بها، بقدر إيمانه بتوظيفها لصالحه! كما أن نافع كان أكثر تفوق في الجوانب الأمنية ونسج العلاقات الوثيقة مع قادة تلك الأجهزة، وهو يستفيد من حقيقة النظام الأمنية، و يعلم أن بقاءه وسلطته ونفوذه مستمد من تلك الأجهزة وليس العكس، في تجسيِّد للدولة الأمنية بأمتياز. وبما أن صراع السلطة والمصالح الخاصة في هكذا نظام، لا يرتدع لمؤسسية او يحتكم لقيم وطنية! فقد كانت الغلبة لمن يقدم عطايا وإستجابات أكبر، للأجهزة المسؤولة عن حماية النظام. أي دانت السيطرة أخيرا للبشير، وهو يستفيد من صراع الأفيال او الإخوة الأعداء! أي بعد أن إنقلب السحر علي الساحر او العسكري علي الإسلامي، لنُشاهد في آخر مشاهد هذه المسرحية الإجرامية، التي شارفت علي النهاية! دموع نافع الماكرة وحاجة علي عثمان الكاذبة، لبناء منزل يأويه وأسرته، بعد أن ترك منزل الحكومة كسلوك وطني نزيِّه وغيور(خلاص يا الأزهري عرفنا نظافة يدك وعظمة وطنيتك، ولكن نهمس في أذنك بسر، ألعب غيرها!).
رابعا، وبناءً علي الفقرة الأخيرة أعلاه، وماسرده الكاتب المهجس بهمّ الوطن وهموم المواطنين مولانا سيف الدولة، عن منزل الرياض خاصة علي عثمان، والمادة الدستورية التي تتيح الترف وتبيح(الفخفخة!) لكل من يحتل منصب دستوري متقدم ويغادره، وبما يشمل علي عثمان أيضا! يتضح أن هذه المسرحية سيئة الإخراج من كل جانب! فغير أن أموال وممتلكات الدولة بل وأموال المواطنين، كانت حق مشاع للإسلامويين والعسكر، يفعلون بها ما يشاؤون، بدلالة تطاولهم في البنيان وإحتلالهم الأسواق وتصدرهم وأجهات إدارة الأعمال والإستثمارات! إلا أننا نجد أن علي عثمان كان جزء أساس من هذه المنظومة، التي حولت الفساد والتعدي علي ممتلكات الدولة ومؤسساتها، عمل قانوني وشرعي يتقصد وجه الله! بل وقوف علي عثمان شخصيا، ضد أي إتهام يطاول الفاسدين او أجهزة الدولة المخترقة بالتجاوزات والتوظيف للصالح الخاص! بحجة يجب إظهار الأدلة والمستندات؟! وكأن المراجع العام خاصتهم يراجع حسابات مالطة، او مظاهر الفساد التي تسد عين الشمس تحتاج لدليل.
والمؤكد أنه يعلم وبخلفيته القانونية، طبيعة الفساد المحمي بالدولة او المباح بالقانون، وهذا غير الفساد الذي يتجاوز هذه الحصانات، من شدة طغيانه وجرأته. بمعني، من شدة تطبيع دولة الإنقاذ الإسلاموية مع الفساد، أصبحت الإشارة للفساد او كشفه او رفضه، هو المنكر او العمل الممنوع! كما أن الفساد أصبح يرتبط بالمسؤولين وأصحاب المناصب الدستورية بخاصة، لدرجة أصبح فيها المنصب الدستوري، هو أقصر وأسرع طريق للثراء الفاحش! فكل العملية لا تكلف أكثر من وريقة صغيرة ومروسة من مكتب الوزير او الرئيس وبختمهما! لتنهال الثروات والتجاوزات والأمن من العقاب، علي الشركاء من الأهل والأصدقاء والموالين( وكله بحسابه!). فهل في بيئة كهذه أسس لها علي وصحبه، إستبعاد أن علي عثمان، سواء بمناصبه الدستورية المتعددة او بنفوذه المشهود طوال هذه الفترات المتطاولة؟ لم يستغلها في التربح الخاص؟! علما بأنها مناصب غير مستحقة ووصل إليها من طريق غير شرعي، أي كأكبر قاعدة تأسيسية لكل أنواع الفساد والشرور! وفوق ذلك، سلوكه وممارساته ومنذ ولوجه ساحة العمل العام، تمثل قمة التكريس للصالح الخاص، علي حساب مصالح الوطن والمواطنين. وهو ليس وحده علي هذا الدرب، بل يشترك معه كل أعضاء الجماعة الإسلاموية وقادة الأجهزة العسكرية والأمنية، طوال عهد الإنقاذ المظلم وأفعاله الظالمة! والحال كذلك، يصبح الإجتهاد لإخراج علي من هذه البيئة، هو حرث في الماء، قبل أن يكون جريمة تستر كاملة الأركان. ولماذا نذهب بعيدا وأمامنا قضية الأقطان الشهيرة وأصابع الإتهام التي أشارت لتدخله، وكذلك السرعة الصاروخية التي صعد بها أحد رجال الأعمال من منطقته في الشمالية، ويقال أن شيخ علي شريكه! وفي فترة سابقة وخلال تواجدي في الخرطوم، وقبل أن يبلغ الفساد هذه الدرجة من الجراة والتحدي او التغول والشمول والعلن، كنت أسمع أن لعلي عثمان قطع سكنية عديدة في منطقة الجريف غرب، ولاحقا وصلت الأسعار في هذه المنطقة لأرقام فلكية؟ وحتي إذا إفترضنا أن هذه الأقوال غير صحيحة، لماذا قصدت علي عثمان تحديدا؟ وفي هذه المنطقة بالذات؟! وغيرها من الممتلكات والإستثمارت المنسوبة إليه، والتي تظهر الأدلة والقرائن صلته بها. مع الوضع في الحسبان أن علي عثمان قانوني قبل أن يكون إنقاذي، وغالبا ما كان يؤدي دور(الشريف الرضي!) في هذه المنظومة، وهو ما يستدعي بدوره الكثير من الحيطة والحذر!! والأهم من ذلك، أن شخصية شيخ علي وأساليبه السياسية والسلطوية، تستقيم تماما مع الشئ ونقيضه! أي إدعاء الطيبة والنظافة والولوغ في الجرائم والفساد حتي أذنيه! ولذا يمكن قبول، أن حالة الأسلمة التي يحياها شيخ علي، هي وسيلة للتغطية علي السيطرة السياسية والسلطوية غير الشرعية، ونهب الموارد والثروات له ولأصدقاءه، وذلك إعتمادا علي تأويل مقولة بالضد تعرف الأشياء، أي بالممارسات تتكشف حقيقة الشعارات وحجم العورات! لأن النظيف حقا يستحيل عليها معاشرة اللصوص والمجرمين؟ أما هذه الدعوات المتهاطلة من كل حدب إعلامي وصوب إسلامي، لدعم شيخ علي، فهي تذكرنا بشبكات التسول الخيرية الإسلاموية، والحال كذلك، يصبح دور شيخ علي مقارب لدور عادل إمام في فيلم المتسول، ولكن مع إحلال متعة الضحك بوجع البكاء.
خامسا، هل المحاولات المستميتة لتجميل سمعة شيخ علي عثمان او إستخدام المساحيق العاطفية لتبيض وجهه، مقصود بها علي عثمان شخصيا؟ أكاد أجزم أن هذه المحاولة ليس المقصود بها علي عثمان بالمرة! خاصة بعد فقدانه السطوة والنفوذ؟ بل هو لا يمثل أكثر من رمز إسلاموي، تظاهر بالسلمية والحكمة والمنطق السياسي؟ ولذلك فهو أقرب للمدح من جهة، والبكاء عليه من الجهة المقابلة! مقارنة مثلا بدكتور نافع او صلاح قوش او المتعافي. ولكن القصد من هذه المحاولات الهزلية، الدفاع عن مصالح فئوية وشخصية، يمثلها أولئك المدافعون! بمعني، دفاعهم عن شيخ علي، هو في حقيقته دفاع عن مصالحهم التي راكموها علي ظهر الجبهة الإسلامية او المؤتمر الوطني! خصوصا بعد إفلاس الجبهة، قيميا وسياسيا وتنظيميا، وإزالة الغطاء عن كل شعارات الجبهة، كدولة الشريعة وهي لله لا للسلطة ولا للجاه ونأكل مما نزرع..الخ من شعارات الهراء ومشاريع الخواء! أي بعد إنكشاف عورة الجماعة الإسلاموية وحقيقة الإسلامويين، وكم فسادهم وجرائمهم وعبادتهم للسلطة والمال والنساء(كأجساد او مورد للمتعة الجنسية/جواري). أي بما لا يمكن مواجهتها او الدفاع عنها! ولذا كان لابد من خلق بؤرة نظيفة او بقعة ضوء، يلتف حولها أعضاء الجماعة الضالة، لكي يستمدوا منها طاقة الشرعية المستنفدة! وتاليا، تتحول الي ستار يحمي فوائدهم الظاهرة او المحجوبة، والمجنية من غير وجه حق، من جانب! وترفع عنهم المساءلة والمحاسبة من الجانب الآخر. وهم كعادتهم يعتقدون أنهم قادرون علي خداع كل الناس في كل الأوقات والأحوال، وأن الآخرين مجبرين علي تصديقهم. ولذلك يصعب أن نجد أحد المدافعين عن شيخ علي، لم يتورط في جريمة فساد، او يتكسب من النظام بطريقة غير مستحقة، او يستمتع بإمتياز يسوءه أن يفقده او يشكك أحد في سلامته.
سادسا، من النقاط الفارقة في سيرة علي عثمان، ولكنها ليست في شخصه، وإنما في علاقته بالمرحوم الدكتور جون قرنق، مرورا بقصة تنازله عن منصبه كنائب للرئيس، وإنتهاءً بمساهمته في إتفاقية السلام الشامل. وفيما يتعلق بعلاقته بجون قرنق، أعتقد أن ما ذكرناه أعلاه، من إجادته اللعب علي كل الحبال، ومحاولاته المستميتة لوضع رجل في كل ما يعتقد أن فيه مصلحته، او ميله تجاه رياح المصالح وتوازن القوي الذي يخدم أهدافه. وبكلمة محددة، هي براغماتية سياسية تماس الإنتهازية الإسلاموية المعهودة. وهو ما ينطبق علي مساهمته في إتفاقية السلام الشامل، وتاليا التموضع في خانة أحد أبطال السلام، مما يؤهله ليس لنيل جائزة نوبل للسلام كما أمل بعض خلصاءه فقط! ولكن للحول محل البشير مستقبليا بوصفه رجل المرحلة؟! علي أن لا يردع ذاك الطموح، السعي الدؤوب لإفراغ الإتفاقية من محتواها، لقطع الطريق علي قادة الحركة الشعبية! وهو ما تأكد لأحقا في مماطلات تنفيذ جداولها ومواقيت متطلباتها، مع الفقدان الكامل لروح الإتفاقية او الإيمان بنصوصها، وإضمار الإلتفاف عليها في كل لحظة وحين، كجزء من سلوك نقض العهود والمواثيق المتوارث ولإرضاء شركائه في الجماعة، الكارهون للحركة ورجالها.
وساعده/هم في ذلك، الإستفراد بالحركة الشعبية، بعد أن أضعفت روابطها ببقية التشكيلات المعارضة. أما قصة تنازله عن المنصب، فهذه مزحة أقرب للخبل منها للحصافة السياسية! لأنه أولا، دكتور جون قرنق كان يستحق منصب الرجل الأول كموهبة سياسية وقدرات قيادية، وليس فقط منصب نائب الرئيس! وهل هنالك أدني مقارنة بين إمكانات الدكتور جون قرنق كرجل دولة، والجنرال البشير كرجل طبل ومزامير؟ إن لم يمثل وجود البشير في هكذا منصب، إساءة لكل المواطنين ناهيك عن السياسيين الفطاحلة داخل وخارج الوطن! بل هل هنالك وجه مقارنة بين جون قرنق وعلي عثمان نفسه، خصوصا أن الأول صنع حركة وطور مشروع من العدم، والثاني لم يفعل أكثر من تسقط إجتهادات الترابي التنظيمة والإسلاموية، ويصعب علي قول الفكرية، حتي لا أفتري علي الفكر وأظلم المفكرين! كما أن هنالك سؤال يفرض نفسه في هذه النقطة تحديدا، إذا لم يتنازل علي عثمان، فمن يتنازل إذا؟ هل البشير مثلا، وهو لا يعي لا إتفاقية ولا سياسة ولا بطيخ؟ وهل يستقيم عقلا وبعد كل تضحيات الحركة النضالية وإجتهاداتها الفكرية وإنجازاتها السياسية، أن يرتضي جون قرنق او أعضاء الحركة، أقل من منصب نائب الرئيس الأول! بل قبول جون قرنق والحركة بهذا المنصب هو تنازل منهم، حتي تتاح فرصة للإتفاقية لتأخذ حظها من المرور والتطبيق. ولا يعني ذلك أن الهمّ همّ مناصب، بقدر ما يعني حفظ الحق الأدبي، وممارسة أحد ممكنات السياسة في المحاولة والتجريب مع تحمل مسؤولية الإختيار! والمهم، نحمد الرب، أن السيد علي عثمان لم يعلن إستقالته بعد الإتفاقية، ليلازمه هذا الشرف الذي لا يستحقه مدي العمر! وأنَّي له هذا وهو غارق في دروشة الطموحات السلطوية! كما أن شرف كهذا الأخير، يحمل كم من التناقض لا يمكن إبتلاعه، لكل من يخالف الإسلامويين وكذلك أساليب علي عثمان، سواء في السياسة او طريقة إدارة الدولة او التعامل مع المجتمع! كما أنه كان سيتيح فرصة ثمينة، للجوقة التي تعزف لحنها الجنائزي الآن، أن تجد ضالتها في هكذا نقطة مضيئة في هذة المسيرة الإظلامية، مما يمنحها مشروعية المدح والتطبيل.
وعموما، مسألة إستحقاق جون قرنق لمنصب الرئاسة تحتاج لمزيد من التوضيح، في ظل العقد المجتمعية والإستعلاء الديني والعرقي والمناطقي، الذي يكتنف التاريخ والإجتماع السوداني! ويترك كثير الندوب النفسية والحواجز الإجتماعية بين المركز والأطراف. خصوصا في ظل تجذر الثقافة الإسلاموعربية في المراكز الحضرية، وبكل ما تحمله من إحساس بالتفوق والأفضلية، والنزوع لإخراج الآخر من ملة الأهلية الوطنية ناهيك عن الإنسانية، وتاليا إستبعاده بالمطلق من دائرة التميُّز والجدارة والإيجابيات! أي فرض الدونية عليه بوصفه الآخر فقط؟! والأسوأ من ذلك، أن هذه الثقافة أكثر تجذر في النخب المتعلمة، التي ضافت تميُّز جديد يُعظِّم من تميُّزها الموروث ويكسبه أحقية حديثة او حداثية لو جاز التعبير، وهو عكس مما كان يرتجي منها؟! بمعني، حاصل كسبها من المعرفة وقيم الحداثة لا يتعدي قشرة رهيفة علي سطح الوعي، لا تلبس أن تتمزق الي أشلاء، عند أول محاولة إحتكاك، بإختبار الممارسة او مواجهتها لحقيقتها! أي كمكون فقط ضمن عديد المكونات في فضاء الدولة السودانية، بكل ثراءها وتنوعها وخبرات تواصل غيرها من المكونات مع الحياة. وأن أفضليتها إن وجدت لا تنبع من جوهرها، وإنما فقط فيما تقدمه من إيجابيات إنسانية ومعرفية وتطورية للواقع المحيط او للدولة والإنسان، أي لإضافاتها في مضمار التقدم والعدالة والحرية والإبداع. وهذه المعايير بطبعها لا تحتاج لفحص (الدي أن أيه) لكل من يأتي بها، او تحتاج للكشف عن منطقته او هويته او حتي دولته في حالة إتساع الرؤية! والأهم، أنها تحفز علي العمل والسعي والمبادرة، وتاليا تقطع الطريق علي العاجزين والمتخاذلين، أي المتطفلون علي التاريخ والهوية والإرث العائلي. لكل ذلك، وجود شخصية كجون قرنق او غيره من قادة الأطراف في سدة السلطة، وتقبل هذا الأمر بصدر رحب، والحكم عليه بإنجازاته او إخفاقاته بعد الإختبار. لهو أول درجات التعافي الوطني من النرجسية الإسلاموعربومركزية. بمعني، أنها تتيح فرصة ذهبية، لتخليصها من أوهام التفوق والريادة! وتاليا، نزع كل ممكنات الإستعلاء الأجوف، المفضية الي الإستبداد، من مكوناتها السلبية! التي تُشكل للأسف المساحة الأكبر من هذه الثقافة! والتي يجسدها تماما وجود جماعة كالحركة الإسلاموية، لم تفعل أكثر من إظهار المسكوت عنه او مكونات اللاوعي الشعوري في فضاء هذه الثقافة المعتلة. ولكن ذلك لا يعني منح جون قرنق(كفرصة إنقضت بموته) او غيره من قادة الأطراف، سلطات مطلقة، ليفعل في الدولة كما يشاء، بحجة المظلومية التاريخية! وتاليا، إعادة إنتاج المظالم علي الثقافة الإسلاموعربية وأصحابها، كرد فعل علي طول المظالم التاريخية! أي في نسخة بائسة من تجربة المالكي الكارثية في العراق. ولكن القصد من إتاحة هكذا فرصة، هي تحرير إنسان الهامش أيضا، من الأحقاد وروح الإنتقام، لتكتمل درجة تحضره كإنسان بناء، يتعامل مع التاريخ والحياة بأكملها، بالحكمة والإنفتاح وروح العمران. بمعني، المطلوب إعادة ترتيب السلطة ومسألة التنمية، علي أن يتم تأسيسهما علي العدالة و حق المواطنة، وبما يراعي معالجة التفاوت بين المناطق والمكونات الإجتماعية، بالقدر الذي يلقي وضيعة المركز والهامش ومترتباتها السلبية! في الوقت الذي تحترم فيه حقوق وكرامة وحرية المواطن/المواطنين في كل أرجاء القطر. وأن يخضع الرئيس وبغض النظر عن من هو، لمجموعة من الشروط الدستورية والقانونية، تجعله في دائرة الرقابة والمحاسبة والعزل، مع إعطاءه مساحة كافية لإثبات قدراته في إدارة السلطة. ومصدر هذا الدستور هو الجمهور العام من خلال ممثليه، سواء في المرحلة الإنتقالية ومعايير الإختيار القائمة علي العطاء الوطني، او تحت قبة البرلمان بعد إنجاز الإنتخابات في بيئة ديمقراطية. وبالطبع كل هذا رهين بإزالة الوضعية الإنقاذوية الكارثية، التي يرزح تحت نيرها الشعب السوداني المحتل، فوق تفجيرها لكل المشاكل والأزمات، وجرها من العدم إذا تطلبت المصلحة! عوضا عن الترفق بالقضايا والمواطنين والوطن. وبتعبير آخر، هنالك حاجة ماسة لكسر الحلقة الجهنمية ما بين عسكر وطائفية، وإحتكاراتها للشأن السلطوي منذ الإستقلال، لتورثنا كل هذا الخبل السياسي والفشل التنموي والدمار المستقبلي. وما زال هنالك من يأمل في جني الشوك من العنب؟! أي لا فرصة لمعالجة أخطاء الماضي وتنظيف الطريق أمام المستقبل، إلا بالخروج علي قبضة العسكر الإرهابيين والإنعتاق من تابو الطائفية وقادتها الرجعيين! او ما يطلق عليه في بعض السياقات السياسية، التفكير من خارج الصندوق، أي في بدائل أخري غير مجربة وخيارات غير مطروقة. وهذا بدوره يقودنا الي نقطة أخري في البدائل المطروحة، وهي الرؤية السلبية للحركات المسلحة التي تنطلق من الأطراف، وإعتبارها متمردة فقط لمخالفتها نظرة المركز ومعاييره التي يضعها او يفرضها بالسلطة مرة وبالثقافة في كل المرات، علي كل المكونات في الأطراف!؟ علما بأن رفع السلاح بيد سكان الهوامش، هو في حقيقته رفض للزيِّف والنفاق والتستر علي المظالم التي تسود كثقافة في المركز، بمعني آخر، إنسان الأطراف إنسان بسيط وواضح مع نفسه، ولذلك يصعب عليه مقابلة الظلم بالتحمل الأبدي والزيِّف بالصمت والمسايرة. وذلك علي عكس أبناء المراكز، الذين ينتجون الزيِّف كطريقة للتعايش مع السلطات الإستبدادية الحاكمة بقانون اللامنطق واللاشرعية إلا منطق القوة وشرعية الإرهاب! أي كيَّفوا أنفسهم علي التعاطي مع تشوهات السلطات المستبدة، بإنتاج قيم مقاربة، تمكنهم من إحتمالها من ناحية، وتحفاظ علي الفُتات الذي تتصدق عليهم به من ناحية مقابلة! بدلا عن فقدانه او تحمل إرتفاع تكاليف مواجهتها. وبغض النظر عن ما تحمله هذه المسالك من خطورة مستقبلية او رواسب سلبية، علي ترقية القيم الإنسانية وتنقية الممارسة السياسية من الخضوع والإستلاب او نزع ثقافة الإستبداد من ممكنات التطور والنهوض. وهذه الروابط الإجتماعية والثقافية والنفسية، بين إنسان المركز والسلطات المستبدة المسيطرة، هي ما يفسر تحكم السطات المستبدة في المركز، رغم جورها وظلمها المشهود وفشلها وعدم شرعيتها، من دون إزعاج يذكر؟ وهو ما منحها أطول فترة من الزمان لحكم البلاد. أي إستمرار هذه السلطات المستبدة، يرجع جزء أساس منه، لتواطؤ إنسان المركز معها، لمشاركتها نفس القيم والمرجعيات التي تنطلق منها، سواء أكانت سياسية او ثقافية او مصلحية! وتاليا، هي أقرب للسلطات المستبدة منها لحركات الهامش والأطراف، التي لم تجد حظها في التعبير عن ثقافتها او فرصة لعرض مطالبها ووجهة نظرها، في طبيعة السلطة الحاكمة او إتجاهات التنمية المتبناة. وهي في مجملها مطالب في غاية البساطة والوضوح، لولا الأحكام المسبقة التي تقتالها قبل ميلادها العسير! مما جعل الطريق الوحيد لإظهارها او إخراجها للعلن، بعد سد منافذ التعبير الأخري، هو رفع السلاح، رغم أنه إكراه أكثر منه خيار أولي، خصوصا وهو في النهاية وسيلة غير إنسانية وغير حضارية بأي شكل كان، فوق أن نتائجه كارثية علي حامليه ومناطقهم اولا وقبل الآخرين؟! وهذا بدوره يقودنا لنقطة أخري، فيما يخص حركات الهامش المسلحة. وهي ضرورة أن يكون رفع السلاح ليس آخر بديل فقط، ولكن قبل ذلك أن يخدم مشروع للتغيير، مسنود بقيم جديدة وفرص أفضل للحياة، حتي يعوض حالة التيه السياسي التي لأزمت المسار الحديث للدولة السودانية، أي يعالج مشاكل الوطن ككل وبشكل شامل او متكامل يتقصي جذورها ويخاطب جوهرها! أي مشروع ديمقراطي وتنموي ووطني. بمعني، أن تخرج الحركات من ضيق القبلية والمناطقية، كرد فعل سلبي علي مظالم المركز! وتنفتح علي مشروع إنساني وحضاري، من أجل الكرامة وحفظ حقوق الإنسان والبناء والنهوض، وتجذيِّر الديمقراطية في الممارسة السياسية، بأن تصبح الثقافة الحاكمة لكل الإختلافات المجتمعية او الأطروحات المتنافسة لنيل قبول الجمهور العام. وبكلمة واحدة، أن تملك رؤية حقيقية لبناء وطن حقيقي. وأهمية هذه الرؤية أنها لا تعالج الحركات من عاطفة المناطقية وتعصب القبلية وفقر الوسائل(حمل السلاح!) فقط، ولكنها قادرة علي إستقطاب كل مكونات السودان القبلية والمناطقية وبما فيها المركز وإنسانه! إضافة الي إمتلاك بدائل أرقي ووسائل أفضل للتعبير، بقدر قدرتها علي إقناع أتجاهات أكبر وقطاعات أكثر ورؤي مختلفة وصهرها داخل بوتقتها. أي في قدرتها علي إدارة التنوع وإنفتاحها علي المشاركة الجماعية لكل ألوان الطيف السياسي والإجتماعي داخل فضاء الوطن، أي تتحول للوحة فسيفسائية إجتماعية، محمولة علي قوائم ديمقراطية ووطنية. ويتم ذلك من خلال الإلتزام بالنهج الديمقراطي في الممارسة او التطبيق، وبما فيها تناوب الرئاسة والمراكز القيادية، بناءً علي الكفاءة والمساهمات الفردية والجماعية. أي تتحول الي تمرين او تدريب حقيقي، علي تبني قيم الديمقراطية وكيفية إدارة دولة متنوعة، وتاليا تخلق بديل مقنع لهذا المرض الإنقاذوي المزمن. والحال هكذا، يجب الإستفادة من أخطاء الحركة الشعبية، والتي رغم حملها لمشروع تقدمي وحديث بما لا يقاس مقارنة بطرح التكوينات السياسية الأخري، خصوصا في إختراقه لقضايا وهموم إنسان الهامش، إلا أن كعب أخيل هذا المشروع في إعتقادي، يتمثل في أنَّ الوعي به لم يتخطَ القيادات العليا! بمعني أنه لم يتجذر في وعي عضويتها الوسيطة والدنيا، وبصورة أخص المكون الجنوبي، ناهيك عن تمدده لدي قطاعات أكبر من المواطنين. أي مشروع الحركة كان يحتاج للإنفتاح بصورة أوسع علي قطاعات الشعب العامة وليس النخبوية! وذلك بالوصول إليها بطريقة بسيطة وواضحة، أي بلغة تعبر ليس عن مشروع الحركة فقط، ولكن قبل ذلك عن همومها وإحتياجاتها ومخاوفها، أي تمليكها لمشروعها/مشروع الحركة، بنفس أدوات ووسائل تقبلها وإحتضانها له! وتاليا يُزال الغباش والعكار الملازم لصورتها في الوعي العام، بسبب حملات الإعلام الإسلاموي الحربي من جهة، والتضييق المفروض علي الحركة والمعارضة بصفة عامة، من جهة مقابلة. وبجملة واحدة، أن لا تفكر الحركة برأس نخبوي في قضايا طابعها التهميش. كما عجزت الحركة أيضا عن إستقطاب عضوية وقيادات من كل او معظم الإتجاهات السياسية الموجودة في الساحة، أي أن توجد بديل جاذب يدفعها الي الإنضمام للحركة، وترك الدوران في فلك الثقافة السياسية السائدة والمستنفدة الأغراض، أي ما بين أيديولوجيات صماء وطائفيات بكماء؟! وهذا النموذج أكثر ما يجسده الإنضباط الديمقراطي والرؤية التنموية المحكمة ورفع شأن المواطن(فالإنسان هو مقياس كل ما في الوجود ومعيار جميع الأشياء) كما عبر أحد الفلاسفة. وبتعبير واضح، أن تخرج الحركة من نخبوية اليسار كرؤية وأفكار وليس أشخاص فقط!
وتاليا، تقارب ما بين مثالية تقدمية يسارية حالمة، وبين ممانعة تقلدية مترسبة في الواقع! بمعني آخر، تقديم رؤية للتطور متدرجة ومحكومة بطبيعة المرحلة التاريخية للواقع المعاش، بدلا عن رؤية راديكالية تتوق بشغف وإندفاع، لتغيير الواقع بين عشية وضحاها! مما يوقعها في جريرة حرق المراحل، وما يعقبها من نتائج عكسية تؤدي لرفض مشروع الحركة بالكامل. وللأسف هي رؤية تتعامل وكأن الإنسان صلصال او عجينة بيد السياسيين يشكلونها كما يريدون، وليس مخلوق مركب تتفاعل داخله أنماط مختلفة من الأفكار والرغبات والتطلعات والعناد والمكابرة والتاريخ والتراث..الخ.
بمعني آخر، مكتسبات الحداثة أثقل وطأة، من أن تحتملها بيئة هشة سياسيا وأجتماعيا وثقافيا وحضاريا، ولذا إنزالها عليها دفعة واحدة، لا يغيرها كما يحلم الحداثيون المتطرفون؟ ولكن غالبا ما يفجرها من الداخل ويخرج كل مخاوفها وامراضها الي العلن، ومن ثم تصلبها من أجل الديمومة والبقاء! أي كإستجابة لقانون رد الفعل. وكذلك من نقاط ضعف الحركة وإحتمال كل الحركات المسلحة، أن المكون العسكري غالبا ما يكسب الجولة النهائية في الصرعات الداخلية، ويفرض شروطه ورؤيته للعمل وطريقته في التواجد او التعاطي مع السياسة والتلاقي مع الآخر، أي بعد أن تكون له اليد الطولي علي المكون السياسي والفكري والتنظيمي، كنتيجة طبيعية لأسلوب العنف المستخدم، وكم التضحيات التي يبذلها هذا المكون، ولو أنها لا تبرر سيطرته وتسلطه! ولموازنة هذه المعادلة، لابد من تجذر الرؤية الإصلاحية والتقدمية في وعي وثقافة الجميع، فوق إحترام التخصاصات وتقدير المواهب! أي عمق الرؤية الإستراتيجية كفيل بعلاج الأخطاء التكتيكية. في هذا الإتجاه نجد، أن أكبر ضربة تعرضت لها الحركة الشعبية لم تكن من خارجها، ولكنها كانت من النخبة الجنوبية داخل الحركة(أغلبها عسكرية)! والتي فرضت رؤيتها او خيار الإنفصال، ليس علي المكون الوحدوي داخل الحركة (أغلبه سياسي فكري تنظيمي) فقط! ولكن قبل ذلك علي إنسان الجنوب نفسه، وذلك بإستغلال الترسبات التاريخية السلبية، وإنتشار الأمية والفقر وإنعدام التنمية، لتُرغبهم في الإنفصال كحل سحري لكل مشاكل الجنوب. إذا صدق أعلاه، فهذا يعني أن علي الحركة الشعبية قطاع الشمال، تجديد خطابها وتنويع أدواتها وآليات إستقطابها لأكبر قدر من الجمهور العام.
والغريبة أن نقاط ضعف الحركة الشعبية، تحاول الحركات المسلحة الأخري أن تعيدها بالكربون، دون أن تستفيد من تجارب الحركة الشعبية التي سبقتها علي هذا الطريق، وكأنه طريق قدري محكوم عليها خطواته، علما بأن التفكير القدري مناقض للسياسة كمحاولة لإجتراح بدائل! بمعني المفترض أن تبدأ الحركات المسلحة، من حيث إنتهت الحركة الشعبية، وليس إعادة نسخة الحركة الشعبية محذوف منها التجربة والخبرات المستقاة(بالتضحيات والأكلاف الباهظة!). أي الإنطلاق من خانة بداياتها المتعثرة والإصرار علي المضي بنفس الكيفية او أسوأ! لينتهي بها المطاف في إحداث إنشقاقات في جسد الوطن المنهك، او نقصان لأقاليمه وتنوعه وروعته. وخلاصة هذه الجزئية تتلخص في أن مصلحة الحركة الشعبية، هي نفسها مصلحة الحركات المسلحة، وهي نفس مصالح المعارضة والشعب السوداني! أي تحرير الدولة السودانية من قبضة الإنقاذ وثقافة الإستعلاء والتفاوت التنموي بين المناطق، والتأسيس لوطن ديمقراطي او دولة مواطنة كاملة الدسم وقادرة علي إحداث التنمية الشاملة(الإنسان والبيئة المحيطة) وإحترام المواطنين وحفظ حقوقهم. كما تمتلك قابلية التلاقي مع الدولة الأخري، للتخفيف من شدة صراعات المصالح والتوترات بينها، لنشر الخير والمحبة والوئام بين شعوب العالم كافة. أي عالم خال من الأطماع الإمبراطورية والإحتكارات الإستبدادية والإستعبادات الملوكية. وهو ما يدعونا لدعوة الحركات المسلحة والنخب المعارضة الأخري، للم الشمل والإنخراط في برنامج وطني، يلبي متطلبات الحد الأدني لتبايناتها! ويقوم علي العلمية والمنهجية والمؤسسية، وليس الترضيات والشلليات والمجاملات؟ لأن أكثر ما أفاد الإنقاذ هو تشرذم المعارضة وتضارب رؤاها وتناقض مصالحها! والإستقلال(تبني نهج الثنائية القاصر) في التعامل مع الإنقاذ او التصدي لها، بنية تعظيم المكاسب الخاصة، لتقع في المحظور! أي تخسر رهانها علي وعود الإنقاذ السرابية، قبل أن تخسر ثقة وإحترام بقية الكتل المعارضة!؟ والأهم من ذلك، أن التركة التي ستخلفها سلطة الإنقاذ، أي كسلطة فساد وخراب وإجرام، ستكون من الضخامة والتعقيد بمكان، بحيث تحتاج لمزيد من الترابط والتنازلات والتضحيات. وبكلمة واحدة، تقديم مصالح الوطن العليا بصورة مبدئية ولو لمرة واحدة في التاريخ، أي لعب دور الآباء المؤسسين لوجاز التعبير.
ولا أعتقد أن النظرة الأخيرة يوتوبيا وطنية او أحلام صحيان، ولكنه واقع أكاد أراه، إذا ما صدقت النوايا ووضحت او صحت الرؤية وجد العزم، أي إذا أخرجنا أفضل ما فينا. ولا يفوتنا في الختام التأكيد علي الرفض المطلق للعنف والعمل المسلح كأدوات للتغيير او التعبير، وذلك ليس للإقتناع بمقولة غرامشي الشهيرة(إن الطريقة التي تصل بها جماعة الي السلطة هي التي تحدد حتي النهاية أسلوب وطريقة حكمها) فقط، ولكن لأنها ستظل هي الطريقة الأوفر حظا في المحافظة علي السلطة، بدلالة نجاحها في الوصول إليها! وتاليا، هي ما تستدعي شبيهها لمواجهتها، أي العنف لا يولد إلا العنف، ومن ثم الدخول في دائرة من العنف والجنون والجحيم المفرغة! والأهم يصعب علي من يتخذ العنف وسيلة للسلطة او المعارضة او يؤيدها، أن يتقبل ممارسة ديمقراطية قد تعرضه للخسران او رفض مشروعه من قبل الأغلبية، ناهيك علي أن يسمح بمشاركة سياسية للآخرين غير العنيفين! أي وسيلة العنف كالزوجة لا تقبل شريك!؟ كما أنه يستحيل صناعة ديمقراطية علي أسنة الرماح او السلاح، لأنه علي هذه الأسنة الأخيرة، لا يوجد إلا الإستبداد ورحلة طويلة من الآلام والدموع والعناء. وبتعبير أخير، عندما تصتبغ الساحة السياسية بألوان العنف والدماء والإرهاب، فعلي الديمقراطية والتنمية السلام، قبل أن تتم مصادرة حقوق الإنسان بالكامل، وتكريس إهانة كرامة المواطن وتبديد موارد الوطن، كسلوك طبيعي بل ومشروع! ومن ثم ضياع فرصة تنمية المجتمع وتطوير الدولة، الي أن يأتي عهد جديد وعقل رشيد وسلوك حميد. ولكن كل ذلك لا يمنع أن هنالك فارق بين الرغبات او القناعات الشخصية، وبين قوانين الواقع وممكناته او كيفية إزاحة عقباته، او مواجهة سلطات لا تؤمن إلا بالعنف المحض؟! ولكن المؤكد أن التكاتف او وحدة وصلابة المعارضة في مطالبها و ثباتها علي مبادئها ووجهتها الديمقراطية، التي لا تمر إلا عبر دروب السلمية وأنوار الحرية، لهو أكبر ضامن لمنع العنف او تقليله او أقلاه تحييده! وتاليا، نزع السلاح الذي تحبذ إستخدامه السلطات المستبدة او التي في طريقها للإستبداد، وجعلها عارية أمام حقيقة خواءها وعدمها وأطماعها التسلطية الدنيئة! وذلك لأن الديمقراطية كأحد منجزات الحداثة، وبقدر مميزاتها وفوائدها ومعالجتها لأكبر معضلات الإجتماع البشري. أي مسألة إدارة التنافس والصراع المجتمعي في أفق سلمي، وطقس من الحوار والجدل والإقناع، وفق أطر ومنهجيات مسبقة، يحتكم لشروطها كل أطراف الصراع او التنافس. إلا أنها من الهشاشة بمكان، بحيث تعتمد في المحافظة علي وجودها، بإيمان القائمين علي أمرها بجدواها والمتداولين لها او المتعاطين معها بأهميتها وقيمتها الحضارية! وتاليا، تعريضها لأي إحتكاكات عنفية، لا يعرضها للزوال فقط، ولكنه يجبر الجميع علي إعادة إختراع العجلة الديمقراطية، من نفس نقطة إنطلاقتها، ولكن بعد قدر هائل من الأكلاف البشرية والعمرانية. لكل ذلك لا بديل عن الديمقراطية إلا الديمقراطية، أي كحاجة أساسية للحفاظ علي الحياة البشرية ولنيل الجميع فرصتهم فيها، ولن يتم ذلك إلا عبر تبني النهج السلمي في الحصول عليها، والأهم المحافظة عليها والصبر علي عثرات وأخطاء ممارساتها، أي العض عليها بالنواجذ في كل الأوقات والظروف والأحوال.
وأخيرا، يبدو أننا جُرفنا بعيدا من موضوعنا الأساس بخصوص علي عثمان طه، وما جرنا الي هذا الطريق الوعر، هو إرتباط شيخ علي بإتفاقية نيفاشا او الحركة الشعبية. وعموما، يتيح نموذج شيخ علي فرصة أمامنا، لتقييم عمل الفرد في الشأن العام. وذلك من خلال تتبع مراحله او الأدوار التي قام بها، وعدم الإكتفاء بمرحلة تحطيم طموحاته السلطوية، في معاركها الطاحنة بين الإخوة في الله! وتاليا، الإنزواء في ركن قصي، وإستجداء الأضواء والتعاطف، بالإحتيال علي مشاعر ووعي المواطنين، المتضررون من أفعاله وممارساته طوال فترة نفوذه وسيطرته!؟ وهو ما ينطبق علي بقية أعضاء الجماعة الضالة والنظام الفاسد، سواء كإسلامويين او عسكريين! وذلك حتي لا ننخدع بعد كل إزاحة لمسؤول عن منصبه، او التصدي لطموحه، وفقدانه لمصادر قيمته ومكانته الإجتماعية ومصالحه السياسية والإقتصادية، ومن ثم إحتياجه للقاعدة الجماهرية لنصرته! بصدق تحوله الديمقراطي ونضج مشاعره الوطنية وزيادة حساسية إحساسه بشعبه، الذي كان يخدمه في الخفاء! أي من دون أن يدري الشعب او تنعكس عليه أثر تلك الخدمات!؟ والسؤال إذا كان كل هذا الدمار الماثل، هو خدمة للشعب كان يقدمها ذاك المُقَال من منصبه، او المندحر في ساحة الصراع السلطوي! فما شكل الأخطاء والذنوب والمصائب، التي يعتقد أنه لو فعلها او سمح بفعلها، لكان الوقع أعظم؟ مسكين البغدادي وبشار وعلي صالح وهم يتعرضون لكل هذه الإدانة المستحقة، وأساتذتهم في الخرطوم يُشكرون او أقلاه يتركون في حالهم، من قبل المجتمع الدولي، مكافأة لهم علي الخدمات التي يقدمونها لشعبهم المترف؟!
آخر الكلام
التسامح والغفران قِيَّم عظيمة، ولكن إستخدامها في غير مكانها او لمن لا يستحقها، من الفاسدين والمجرمين والطغاة، يمثل إهدار لجوهرها او إفساد لقيمتها، فوق أنه يفتح الطريق لإعادة كل هذه المحن والمنكرات والبؤس والشقاء، مع الإطمئنان أن عواقب إرتكابها هو النسيان و المسامحة والغفران او مجرد عتاب خجول في آخر المطاف؟ والحال هكذا، ما قيمة المحاسبة ومصير المسؤولية وفوائد الجزاء والعقاب والقصاص، وما يترتب عليها من حفظ حقوق الآخرين والمحافظة علي موارد الدولة ومصالحها العليا؟! عموما في أوقات الإنحطاط كحالنا الراهن، لا يسمي مثل هذا المسلك تسامح او غفران او طيبة شعبية، ولكنه أقرب للعجز والغفلة منه للإحسان! إذا، صح ذلك، يصبح التسامح والغفران الحقيقي، هو إنعكاس لحالة تعافي الدولة وإنفتاحها علي التطور والتقدم النهوض، وتاليا تحضر قيم مجتمعها! او كما تم في دولة جنوب أفريقيا مثلا، في ظل وجود قائد عظيم كنلسون مانديلا، وإمتلاكه لمشروع متكامل للتغيير والإنطلاق الي المستقبل بثقة وثبات، وقبل ذلك تعديل موازين القوي المجتمعية لتخدم دولة المواطنة. وبكلمة خاتمة، لا تسامح ولا غفران حقيقي، من دون التخلص من الإستبداد السياسي والتخلف التنموي والركود الحضاري وإعادة توازن العلاقة بين السلطة والجمهور. ودمتم في رعاية الله.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.