يبقى السفر منهلا أساسيا للمبدعين والكتاب، إذ يمكنهم من تجديد مشارب إبداعهم وعوالمه بالاطلاع على حيوات مختلفة وبيئات وثقافات إنسانية متنوعة، تساهم في ثراء المنتج الأدبي. "العرب" التقت الروائية اللبنانية لنا عبدالرحمن المقيمة منذ سنوات طويلة في القاهرة حول الأدب والهوية. العرب أوس داوود يعقوب تؤكد الكاتبة اللبنانية لنا عبدالرحمن، أنها لم تستطع حتى اليوم، بعد التطهر في أعمالها القصصية والروائية من ذاكرة الحرب اللبنانية التي عايشتها في أيام الطفولة والصبا، والتي كانت خلفية لمجموعتها القصصية "الموتى لا يكذبون"، ورواياتها الثلاث "تلامس" و"أغنية لمارغريت" و"قيد الدرس"، الصادرة مؤخرا عن دار الآداب البيروتية، والتي عادت فيها إلى أجواء بيروت في عمل سردي طويل يرصد حياة أكثر من جيل، حيث يمتد زمن الرواية إلى ما قبل الحرب اللبنانيّة ليستمرّ إلى ما بعدها. التساؤلات الكبرى تشير لنا عبدالرحمن في بداية حوارنا معها إلى أن الحديث عن الشتات في هذه المرحلة من التحولات العربية التي تحدث حولنا ربما لا يكون متعلقا بالهوية اللبنانية فقط، مبيّنة أنه ثمة شتات أوسع وأشمل من أن يكون محصورًا في أرض لبنان كبلد صغير. إننا، في رأيها، نعيش شتاتا عربيا – عالميا وتحولات في الهوية الجغرافية والنفسية، تسببت بها الحروب، والثورات، والنزاعات الدينية الطائفية، والدمار، والعطب الجسدي والنفسي، كل هذا أدى إلى هجرات لم تعد مقصورة على الذين فقدوا هويتهم، بل على كل من أصبحت حياته مهددة وكل من يعاني من الخوف، وترى أن الخوف يحكمنا بأشكال مختلفة، هذا الخوف وعدم الأمان هو شتات أيضا في رأيها. وعن سبب اختيارها عنوان "قيد الدرس" لأحدث سردياتها، تقول "هي بطاقة هوية، أعطيت في لبنان لبعض الفئات من: بدو، وأكراد، وأرمن، وسريان، وكلدان، وأيضا من جاؤوا من الحدود بين لبنان وفلسطين، تحديدا من القرى السبع. صدرت هذه الهوية، وفي الحقيقة هي ‘اللاهوية‘، عام 1962، وظل أصحابها يحملونها حتى سنوات التسعينات، حين تم منح الجنسية اللبنانبة لجزء من حملة هوية ‘قيد الدرس‘، ولا يزال قسم كبير منهم من دون هوية، أي أن المشكلة ما تزال قائمة. هذا من الجانب التاريخي، لكن إنسانيا مسألة الهوية أعمق من أن تنتهي بحمل بطاقة تقول إننا نأتي من هذا البلد أو ذاك، لذا تختتم الرواية بكلمة حسان بأن قيد الدرس هي حالة مفتوحة لا تحسم بسهولة. وبسؤالها، ما الذي أملى عليها تناول هذا الموضوع الشائك "مكتومي القيد في لبنان" "البدون" الآن؟ تجيب ضيفتنا "كنت أنوي الكتابة عن هذا الموضوع منذ عدة أعوام، السبب الرئيس أن هذه الفئة لم تتم الكتابة عنها روائيا في الأدب اللبناني. في الرواية تناولت مصير عائلة باسم عبدالله التي جاءت من قرية حدودية بين لبنان وفلسطين، وتتبعت مصيرها منذ سنوات السبعينات وحتى 2012، تمر الرواية بأحداث الحروب التي عاشها لبنان، وصولا إلى الحرب في سوريا وأثرها على الأبطال". تحاول عبدالرحمن الكشف عن الانعكاس الإنساني لأي مأساة كبرى، تتواجد في حياة الإنسان، بالسؤال عما تسببه نفسيا وواقعيا، وقد قسمت روايتها "قيد الدرس" إلى مجموعة من الفصول، مانحة كل فصل عنوانا فرعيا منها "ذهب مع الريح"، و"طي ذاكرة معتمة"، و"ملعقة ذهب صغيرة" وغيرها. هنا نسألها لم اختارت هذا الشكل السردي لروايتها هذه؟ لتقول "إن الشكل السردي للعمل الروائي يتوازى في أهميته تماما مع مضمون الحكاية، في "قيد الدرس" التي شملت مرحلة زمنية طويلة، والعديد من الأبطال، كان من الضرورة الفنية للنص وجود تنوع في الأصوات مع وجود راو عليم، وهذا يساعد على تقديم الحدث الواحد وانعكاسه عبر أكثر من رؤية، ووجهة نظر، لا أريد تقديم أبطال مثاليين أو جامدين، أبطال العمل الروائي هم من الواقع بكل ما فيهم من حسنات ومثالب، من اختيارات ناجحة أو مخفقة". التحرر من الانتماء عن سبب استخدامها للتقنيات السردية المركبة، التي تحاكي حياة شخصيات رواياتها وتنسجم معها، توضح صاحبة "تلامس" أن هذا ليس مقصودا بشكل مباشر، غير أنها تجد نفسها أكثر ضمن جوقة من الأصوات السردية والتقنيات التي تتداخل في ما بينها، وأنها تشعر بالملل مع السرد المستقيم. وتقدم لنا عبدالرحمن مجموعتيها القصصيتين "أوهام شرقية" و"الموتي لا يكذبون" لقراء "العرب"، تقول "مجموعتي القصصية ‘أوهام شرقية‘ هي الأولى، صدرت عام 2001، أذكر أني حكيت فيها كثيرا عن النساء، كانت معظم بطلاتها من نساء عاملات مسحوقات، يعانين من سلطة مجتمع ذكوري. أما في مجموعتي ‘الموتى لا يكذبون‘ فقد حضرت أكثر في كتابتي أجواء ميتافيزيقية متنوعة، تتعلق بالموت، بالخيالات التي تتحكم بنا وفي اختياراتنا. أما ‘حكايا الغرباء‘ فربما تصدر مع نهاية هذا العام، وكما يتضح من عنوانها إنها قصص عن الغرباء، وعلاقاتهم المختلفة المكانية والزمانية. وعن علاقتها بالنقد، وهي المتحصلة في العام 2010 على درجة الدكتوراه عن موضوع "السيرة الذاتية في الرواية النسائية اللبنانية"، وكان أن صدر لها من قبل عام 2002 كتاب نقدي بعنوان "شاطئ آخر (مقالات نقدية في القصة القصيرة والرواية)"، تعلّق ضيفتنا "إنني أستمتع بكتابة النقد وقراءته أيضا، أحب أن أرى المنظورات المختلفة للعمل الإبداعي بين ناقد وآخر، هذه التأويلات المختلفة تمنح ثراء وعمقا للرؤى بالنسبة إلى الكاتب. في المراحل التي لا أكون منشغلة فيها بكتابة عمل إبداعي أعمل على أبحاث نقدية، لدي حاليا كتاب نقدي يتناول مجموعة من الأبحاث الروائية انتهيت منه، وأعمل على مراجعته بشكل نهائي لأدفع به إلى المطبعة. وأما عن علاقتها بالمدن خاصة بيروتوالقاهرة كما تتجلى في كتاباتها، وماذا أضافت لها كإنسانة وكاتبة؟ تشير عبد الرحمن إلى أن هذا السؤال كثيرا ما يطرح عليها، وتلفت إلى أنها في بداية انتقالها للإقامة في القاهرة كانت مصابة بما يسمى "مرض الحنين"، فكان أي شيء طفيف كفيلا بتذكيرها ببيروت، لكن بمرور الوقت صارت ترى القاهرة مدينة صاخبة ومزدحمة، وفيها عوالم مشتبكة ومتجاورة، كان هذا مغر لها للاكتشاف كإنسانة وكاتبة. تضيف "يمكن أن أقول الآن بعد كثير من الأسفار إني صرت كائنا ‘أمميّا‘ متحررا من سطوة الانتماء إلى مكان محدد، أو الانحياز إلى هوية، أو التعصب إلى جنس ما، أو دين، أو طائفة. الإنسان فحسب، بكيانه البشري المجرد، بمأساته الوجودية الكبرى، بتحولاته التي لا تنتهي هذا ما يشغلني". وتكشف الكاتبة في ختام حوارنا معها أنها تعمل حاليا على إنجاز كتاب يتضمن رحلاتها إلى عدد من المدن العربية والغربية التي وقعت في غوايتها سيحمل عنوان "شموس المدن". مبينة أنه كتاب عن المكان، عن المدن وهوياتها الكثيرة، عن الطعام، عن الرائحة، عن الشوارع والأزقة، عن الابتسامات في وجوه الغرباء، وعن رفضهم أيضا. وتختم قائلة "أحب كثيرا الكتابة عن الأماكن التي أمر بها، عن أشياء صغيرة وأشخاص عابرين يحفزون المخيلة، نساء غجريات يبعن الورد في شوارع إسطنبول، عرافة هندية تقرأ التاروت في كامدن تاون في لندن، درويش يطلق الحكم قرب جامع في أحد شوارع الرباط، مطعم من سقف زجاجي تشاهد عبره المطر في الشام القديمة، أحياء منسية وفقيرة جدا في بيروت، كل هذه تفصيلات ليس الغرض منها تدوين اللحظة بقدر التأمل فيها في وقت لاحق".