بعض الحكايات لا يُمّل تكرارها، ليس لقيمتها فقط ولكن لقلة مثيلاتها، ومنها التي ستبقى نضراء مخضرة قصة أشهر صانع عناقريب بالجهة الجنوبية الشرقية لولاية سنار يدعى (جابر جمعة جكنو). الرجل الذي نحكي بعضاً من سيرته المهنية هنا هو واحد من عشرات يشبهونه أخذوا على عاتقهم دون قصد مهمة الحفاظ على واحدة من المهنة القديمة من الاندثار، ولولا جهد هؤلاء(الصنايعية) ومثابرتهم على مواصلة حرف ومهن ورثوها عن آبائهم وأجدادهم لما بقيت لنا هذه الحرف التقليدية حتى اليوم. احتفاء الحروف لا يستطيع (معول) التطور الإطاحة بكل القديم مهما كانت قوة ضرباته، ولأن الناس أضحوا يخشون (موت) الصناعات التقليدية جراء التطور المذهل، فإن (اليوم التالي) دأبت على الاحتفاء بتلك الحِرف التقليدية، وإعلاء قدرها، حتى تساعدها على البقاء، وفي هذا السياق اتجهنا إلى (الدندر) التي تعد أهم سوق للعناقريب الجيدة (الصنعة) في السودان، ووقفنا على ما يُشاع عن اندثار تلك الصناعة المهمة التي طالما وفرت مراقد مريحة للناس في سالف العصور ولا تزال. العناقريب.. البند الأول الحقيقة أن الحداثة والتطور لن تستطيعا اجتثاث جذور القديم الذي يحتل مكانة كبيرة في وجدان الناس، ويتبع في ذلك سنناً تعمل على إحداث نقلات (تطويرية) في الصناعة، فتمضي كل يوم من صورة إلى أخرى وفقاً لقانون الطبيعة الشهير (الأشياء لا تفنى، ولا تستحدث، لكنها تتحول من صورة لأخرى)، وبين من يسعى لإنقاذ مهنة صناعة العناقريب التي جرفتها موجة أسرة الحديد، قضينا وقتاً ممتعاً، نتداول فيه شأن الصناعات التقليدية كلها، كسروج الدواب، والأزيار، وحدادة تقليدية بال (كير) وخلافها، لكن في صدر كل ذلك التداول كانت العناقريب تمثل (البند الأول) لأنها كانت وستظل تهم الجميع مع اختلاف الثقافات والأمكنة. اتقن صنعتك.. يأتونك وحدهم يبقى (جابر جمعة جكنو) واحداً من أهم (الصابرين) على احتراف صناعة العناقريب، التي ورثها عن والده، كما ورث منه الصبر وقوة التحمل، والابتسامة التي لا تفارق محياه، و(جكنو)، إذ يحترف نجارة العناقريب في قرية نائية على تخوم محمية الدندر تسمى (أم بقرة) لا يرى سوى أنه قد خلق لها، لأنه ومنذ الصغر كان يعاون والده الذي كان أعظم (نجاريها) لذلك لم يفكر مطلقاً في التمرد عليها، إلى أن أصبح أشهر (صنايعية) تلك الأصقاع، ورغم تقطع السبل بين (جكنو) والأسواق التي يبيع فيها منتجاته (عناقريبه)، إلا أنه استطاع مد أواصر المنفعة مع تجار العناقريب في أسواق (سنار)، إذ أصبحوا يأتونه في قريته ليأخذوا حصتهم مما صنعت يداه، يستلم (قروشه)، ويتوجه بعدها في رحلة جديدة نحو الغابة لاحضار ال (حطب) المادة الخام لصناعته. البيع بالنيّة رفض (جكنو) بقوة اتهام (اليوم التالي) بأن صُنّاع العناقريب يقومون بدور سلبي تجاه البيئة، ويهددون المراعي بقطعهم أشجار الغابات، وأكد أنهم لا يقطعون شجرة خضراء، وإنما يأخذون من (حطب) الأشجار الجافة والساقطة، ولهذا هو يرى أن اتهامنا له غير صحيح ورفضه تماماً، حين تمسك برفضه لاتهامنا له لم أشأ إفساد حجته، فانتقلت معه إلى محور الأسعار، فقال دون أن يرفع رأسه: "أنا لا أريد أن أصبح ثرياً، سكت برهة وكأنه يستمع إلى إيقاع احتكاك (القدوم) بال (مرق)، أمارس هذه الصناعة لأتحصل على لقمة عيش كريمة لي ولأسرتي، لذلك لا أتوقف كثيراً على الأسعار وبنبيع بالنيّة". النبق واللالوب للعناقريب أنواع كثيرة، وأسماء وأشكال تميز كل واحد عن الآخر، وتمنحه شخصيته المميزة، لكن ليس هناك أجود من العناقريب المصنوعة من خشب شجر السِدِرْ (النبق)، يليها عناقريب اللالوب، ثم تأتي الأشجار الأخرى على مسافات شبه متساوية، بعد هاتين بكثير بحسب جابر جمعة الذي أوضح أن الأسعار تختلف باختلاف نوع الشجرة التي صنع منها العنقريب السوم التالي