لم نعرف أبدا أن نكتب بيوغرافيا شخصياتنا الأدبية، وإن أمعنا النظر والتفكير في حيواتهم باختلاف جنسياتهم العربية وألوانهم الكتابية سنكتشف أننا نجهل كتابنا جهلا يكاد يساوي جهلنا بنصوصهم، وأننا في الغالب نمنح أوسمة وهمية لكل من يموت تعويضا عن تهميشنا له خلال حياته. أوسمة من النوع الكاذب الذي ننشره في صحافتنا ونردده في إعلامنا المسموع ولا نعطيه أي أهمية في الإعلام المرئي. بعض هؤلاء «العظماء» الذين قرأناهم عنوة خلال سنوات طفولتنا ضمن البرامج المدرسية غير المدروسة جيدا كانوا يكتبون أي كلام، ربما كان لديهم مستوى لغويّا جيدا لكن على مستوى المخيلة والتجربة الحياتية خالفوا المنطق لدرجة غير مقبولة. اليوم وأنا أعيد قراءة نصوص لبعض الكتاب أصطدم بحجم الحلقات الفارغة في نصوصهم. كتاب كتبت سيرهم الذاتية بمبالغة فائقة، وكأنهم قديسون، فيما بين نصوصهم ما يشير بشكل مباشر إلى أنهم أخطأوا في حق قرائهم وذويهم. يلزمنا إن كنا جادين في هذا الموضوع أن نفتح باب محاكمة كتاب تطفلوا على عالم الكتابة وجرفوا قراءهم إلى قاع مظلم. كما زرعوا في قلوبهم جرثومة الانهزامية والانغلاق على الذات والعدائية تجاه الآخر، وبناء علاقات قائمة على الشك والقلق. وإن لم تكن محاكمة فلتكن قراءة نقدية معمّقة تقوم على المنطق لا على الأهواء والنزوات العاطفية. بدون أمثلة وذكر الأسماء لأننا لا نزال شعوبا تقف عند الرموز الوهمية والأسماء شبه «المقدسة» وتهجم على من ينتقد فلانا وعلانا من دون الرجوع لما يثبت كلامه أو ما يدحضه، يمكننا أن نعطي بعض الأمثلة. مثلا لم نتوقف يوما عند مقولات مدمرة كالتي تقول: «المرأة عقرب حلوة الملمس» لأن النبش في معناها المعمم على كل النساء يحيلنا إلى شخصية لديها أسبابها الشخصية لقول ذلك. ما قيل دوما يكشف جزءا من شخصية القائل، وإن كان القائل هنا أحد عظمائنا فهل مناقشته تجوز أم لا؟ إن قلنا نعم، فقد فتحنا باب النار على أنفسنا، وإن قلنا نعم فقد رمينا بأنفسنا في النار نفسها، حتى وإن نسبت المقولة لقائلها بعد وفاته بعشرات أو مئات السنين. تلك «العظمة الثابتة» تلاحقنا حتى من خلال مقولات كتاب ومفكرين أجانب. لأننا في الغالب لم نتخطّ مرحلة التلقي إلى مرحلة المناقشة وإبداء الرأي. وكأننا بحاجة إلى ما يثبت أفكارنا المتخلفة والسيئة فقط لتستمر ونبرر سلوكنا الخاطئ نحو الآخر. جان جاك روسو يقول مثلا: المرأة كائن طويل الشعر قصير التفكير» والعبارة تتقافز أمام أعيننا على شبكات التواصل الاجتماعي كأنها حقيقة علمية مثبتة، فيما روسو نفسه لو ولد في هذا الزمن وعاش حياة مختلفة لما صدرت عنه مقولة كهذه. حتى حسب مقاييس الجمال لم يعد الشعر الطويل علامة من علامات الجمال لدى المرأة، بل من علامات جمال الرجل أحيانا، كما أن قصر التفكير شمل الجميع ذكورا وإناثا... وبالمختصر ومن دون لف أو دوران الجملة لا معنى لها تماما، وفي الغالب كتبها في لحظة سكر وليس في لحظة تأمل واع. روسو الذي عاش بدون أم لم يعرف عظمة الأمومة ولم يعش حبا نقيا ليعرف عظمة المرأة، ولو أنه ولد في ظروف مغايرة واحتوته أم مثل أم مارسيل بروست لكانت مقولاته أكثر اتزانا. والسؤال ليس هنا بل في هذه المقولات التي تعمّر لقرون ويتخذها أناس كثر مصابيح لإنارة دهاليز حياتهم المعتمة، بدون أن ينتبهوا أحيانا إلى أن الدهليز قد يؤدي لنفق قاتل. أما شارل بودلير الذي قال :»يجب أن يكون المرء دوما في حالة سكر، حتى لا يشعر بالثقل الكبير الذي يكسر كتفيه..» فقد أعطى مبررا لفئة شاسعة من الشعراء المبتدئين بعده ليتحولوا إلى مدمني خمر بدون أن يصبحوا شعراء، لأن الرجل ذهب للشعر قبل أن يذهب لكل أنواع المسكرات والملذات المحرّمة للانتقام من أمه التي أحبها حبا عظيما وخذلته حسب طفولته التي لم تنضج أبدا فأحبت غيره. لا شك أننا كنا دوما من أنصار «اللافتات القصيرة»، وكل ما هو «مختصر» سواء كان مفيدا أو غير مفيد وإلاّ لما وجدت هذه المقولات أرضا خصبة في أدمغة أجيال بأكملها ومنها جيل الإنترنت الذي يتوفّر له ما يريد من كتب كاملة للقراءة المجانية، كما تتوفّر له مواقع علمية لا حصر لها ويحيل على تجارب إنسانية عظيمة فعلا يكفي الاطلاع عليها لنخرج لفضاء فسيح يغمره نور المعرفة والوعي. كثيرا ما تساءلت عن هذه الكراهية المجانية التي يروج لها البعض لتغذية حساباتهم البنكية، وينقاد خلفها البشر بدون تأمل في ما ينقلونه. لكنني في الغالب أعتب على من جال وصال بين عواصم العالم، حاملا «عظمته» الوهمية من مؤتمر لآخر ومن منصة لأخرى ويستدل بما يكسر أفئدة مستمعيه تاركا شروخا أبدية فيها. لقد رفضنا على مدى قرون أن نعقد مصالحة متينة وصادقة بين أنفسنا، رجالا ونساء ننتمي للثقافة نفسها واللغة نفسها، ولم تؤثر فينا المقولات العقلانية كثيرا أمام كل ما هو متطرف وعاصف هبّ علينا في الغالب من أفواه نتنة. لماذا؟ يكبر السؤال أمام أعيننا التي لا ترى الحقيقة بشكل واضح، ونتساءل مرات ومرات عن الموضوع نفسه بما يمكنه أن ينير بصيرتنا: هل نحفظ البيت القائل: «وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال» للمتنبي؟ أعتقد أننا حفظة سيئون، لأننا لا نحفظ للمتنبي سوى بيته الشهير: «الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم» مع ملاحظة أننا لا نتعاطى مع الخيل لا من قريب ولا من بعيد مع أنها ثقافة شاسعة ورياضة سامية، لا نعرف الليل بالمعنى الذي قصده الشاعر، ولا نعرف البيداء إلا إذا ذهبنا في رحلة سفاري، والسيف والرمح والقرطاس أشياء نعرفها من خلال المسلسلات القديمة والأفلام التاريخية، وربما لا نعرف معنى كلمة «قرطاس» لأننا في قطيعة طويلة مع القواميس.. أمّا القلم فحكاية أخرى يطول سردها في هذه العجالة، لكنه أكثر اختراع ظلم عبر العصور.. نقرأ في قرآننا كلمة «القلم» مرتين، وكلمة «إقرأ» ثلاث مرات ونرى المعنى مخالفا لما يجب أن نراه. لأننا لا نقرأ بعقولنا الحاضرة وقلوبنا التي تنبض الآن بل بعيون غير عيوننا وعقول أتلفتها كثرة النعاس، وهذا أيضا موضوع آخر. نجزئ النصوص كما يحلو لنا، نقطعها تقطيعا، نكتفي بالقليل القليل منها بدون أن نستمتع بقراءة كاملة لنصوص تحمل ذخائر في محتواها. وحتى بالنسبة لكتابنا وشعرائنا اليوم، نكتفي باختصارهم بمقولات، بعد أن عجزنا عن كتابة تفاصيل مسيراتهم الحقيقية في عالم الأدب والشعر والنضال الإنساني من أجل الحريات واحترام أبناء هذه الأمم. عجزنا لأننا لا نعرف أن نكتب الحقيقة عنهم. فإما أن نسهب لتحويلهم إلى عظماء أو نختصرهم في مقولات تدغدغ مشاعر مجتمعاتنا البدائية الرافضة لكل أشكال التطور الفكري. ٭ شاعرة وإعلامية من البحرين القدس العربي