لا تختلف أكبر الخيانات السياسية والعسكرية عن خيانة رجل لامرأة أحبته. ذلك أننا في العالم الذكوري لن نفهم أبدا كيف تُقَيَّم الخيانات. فبعض الخيانات ينتهي صاحبها بإعدامه رميا بالرصاص، وبعضها مبارك كنمط حياة. وفي كل الحالات كانت ولا تزال الخيانات الذكورية مغفورة وخيانات المرأة لا تغفر رغم قلّتها. والدّارج اليوم عبارة تحمل رسالة مؤلمة للمطعونين في قلوبهم تقول: «الخيانة حلوة» سمعتها أكثر من مرة من أفواه قالت الشعر وروت لنا أجمل الروايات وغنت لنا أجمل الأغاني ومثلت أروع أدوار الوفاء على الشاشات. شيء لا يصدق ولكنه موجود ويدمر المنظومة الثقافية أساسا ويهشمها أمام الجمهور العريض الذي يتابع سلوك المثقف لا نتاجه، سلوك الفنان لا فنه، سلوك الممثل لا أدواره. الخيط الذي يفصل الشخص عن شخصياته المنتجَة أدبيا أو فنيا، رفيع يُرى ولا يرى، ومع ذلك فهو مؤثر عظيم في سلوك المتلقي. ذلك أن الأمر تحوّل إلى ما يشبه العادات المتوارثة، اللصيقة بالفنانين والشعراء والكتاب. وعظيم أن أشار أحدكم إلى أني أدور في فلك النخبة العربية منذ فترة وهذا صحيح، لكن الموضوع جارح حتى العظم، عند التعامل بلامبالاة مع المبادئ والأخلاق والثوابت، التي لا تقبل تأويلات وتسامح لا تتناسب مع المعطى الأساسي للإبداع. ومن باب التذكير فقط فإن الحب والكراهية ومشاعر إنسانية أخرى تشغل الحيّز الأكبر في حياة الكتاب والشعراء، وتنطلق من وعيهم عاكسة حقبتهم بامتياز، ويبدو أن الحب النبيل ذهب مع حقبة سحيقة في الماضي، كان فيها الشاعر أو الكاتب فارسا في علاقته مع حبيبته، كتوما وحاضنا لها بحيث يحميها من الطامعين فيها بنبل أخلاقه ورقي كلامه لها. يمكننا العودة لغوستاف فلوبير في «التربية العاطفية» لنقتفى آثار الحب واكتشاف أسراره، ومعرفة نوافذ الخيانة، ومنافذها لقلب الإنسان، كما يمكننا الدخول في عوالم فلوبير من محطات حياته المختلفة لمعرفة سرّ نصه وفهم سلوك شخصياته. سر لا يمكنه أن يبعدنا عن حقيقة الرّجل فقط، بل سيأخذنا لحقائق أخرى مرتبطة بقواعد الكتابة المتّكئة على التجارب الخاصّة، فقد أخلص فلوبير لإليزا منذ أحبها وهو في الخامسة عشرة من عمره، وظل ذلك الحب منبعا لأدبه، خاصة ما انعكس في كتابه الشهير هذا في نظري حتى وإن كتب فلوبير حلمه بطريقة خالفت الفطرة البشرية، فإنه على الأقل لم يكتب ما يشوش إيمان القارئ بالحب الحقيقي الذي يمكننا إيجاده، ولم يدخله في متاهات أخرى. وهذا موضوع آخر قد نتطرق إليه بشكل أوسع مستقبلا. في الغالب يكتب المبدع من منظوره الخاص، ومن منطلق نظرته للآخر، دون تشابه في الخلفيات التي تلّون فكرة الحب والخيانة والخذلان والسقوط في قاع العواطف المشوشة. إنّها الوصفة السحرية التي تجعل من الأدب بصمات فريدة في الذاكرة. بلغة أكثر تعبيرا عمّا أقصده، فإن الكاتب عالق في شباك حقيقته حتى حين يكتب قصة في الخيال العلمي. وهذا سرٌّ آخر حاول اللغويون تجاوزه لإنقاذ الكتّاب من تهمة كتابة الذات. مع أن التّعاطي مع أي نص أدبي يقوم أيضا على المكنونات الذاتية التي تتحكم في قبول النص أو رفضه أو الإعجاب به. كل كلمة حاملة لمعنى، وكل معنىً حامل لدلالة تقودنا إلى فكّ ألغاز النص ومواطن غموضه، وإلاّ لماذا ندرس الأدب؟ وهذا ليس نوعا من القراءة القمعية التي تزج بالكاتب في قفص الاتهام وتنتهي بمحاكمته، بقدر ما هو استقراء لحقبة ونمط حياة، فالحب في أدب شكسبير تقابله الضغينة والأحقاد والخيانات، وكل ينال عقابه حسب الأذى المعنوي الذي لحق بالآخر، أمّا نبل العاطفة النابعة من صفاء الفؤاد فهو الغاية لاختتام الصراعات النفسية والعاطفية في ساحة مليئة بعناصر الخير والشر. لم يستطع شكسبير أن يكون منتصرا لغير الخير. ثمة تحقير للخيانة يتجاوز أي تصور عنده، وهذا يفسر أن مكانة الحب مركزية في حياة الإنسان حينها. بعدها بقرون تخطّت العواطف معابر الجسد، ورُبط الأدب بهذه العلاقة المركبة التي شرّعت باب المتعة على مصراعيه مع اتساع كبير لاحتواء صراعات المادي والمعنوي في المعيش. كل التفاصيل طفت على السّطح حين لم تبق مختفية في أعماق الشعراء والكتاب. وكأنّ ما يحدث ليس أكثر من ميكانيزمات لا مفرّ منها لكشف التغيُّرات الكبرى التي أحدثتها هزّات الحروب واتساع دائرة الفلسفات الباحثة في هوية الإنسان. إذ بدا جليا أن دورة الحياة مرتبطة بالأخطاء والتصحيحات، ومن هنا ولدت فكرة الإشباع الداخلي للإنسان، التي أنجبت بدورها جيلا بأكمله من الدعاة لإطلاق العاطفة المكبوتة والأجساد المقيدة في فضاء بدون قضبان. فُتِحت آفاق فكر الانغماس في المتعة واكتشاف الجسد وممارسة الحب مكتملا بشقيه المعنوي والمادي خارج المنظومات الشرعية. وطرحت أسئلة لم تطرح من قبل قلبت إجاباتها كل المفاهيم السائدة، كأن ينبني الشعر على جماليات جديدة تتعلّق بالمشاعر المحرمة، وتنبني الروايات على «الخيانات الجميلة» التي تخلق إثارة خارج المألوف وتسافر بالقارئ إلى حدود الشغف والمتعة. لمَ لا عدد من العشيقات الرّاغبات في الإثارة، وحياة طليقة مثل حياة كازانوفا؟ أو لمَ لا تكون الانتصارات الوهمية قائمة على خلق فلسفات تشبه المخدر، تحضُّ على التجريب والبحث في الذات الغامضة عن الأشياء المفقودة، بدل الإصرار على البحث عنها في الخارج المضغوط بالأثقال الدينية والأخلاقية التي لم تتناسب مع التغيرات الكبرى التي أصابت المجتمعات. كالارتباط بزوجة وتكوين أسرة مع إبقاء فتحة سرية في الجدار الخلفي لتلك الحياة يقود مباشرة إلى المحرّمات الممتعة. كان هذا هوالنوع المطروح من الاحتمالات التي صنعت جيلا يبحث عن المتعة بتبريرات شرّعها شعراء وكتاب، ولكنها في الحقيقة كانت عاكسة لفقدان الثبات في حياتهم اليومية. فقدان الوطن واستبداله بالمهجر واحدة من تلك الأسباب التي هزمتهم. ثم لا شك أن المغامرة اليومية لاختراق الجدار تتطلّب الكثير من الشجاعة والإبداع لبلوغ ذلك الانتشاء الغريب حين يحصل «الدونجوان» على زوجة وعشيقة أو عشيقات، مع قدرة عجيبة في التحكم بهن، وكسب رهان الإبقاء على عائلته وأخذ ما يريد من «حريمه»! لكنها شجاعة في غير محلها، وإبداع هش. تنمو الخيانة في النص كسم صامت وقاتل، كما في الحياة تماما، وقديما كانت خيانة الزوجة أو الحبيبة سبب وجيه لرفض أي شخص للالتحاق بالثوار في أي ثورة، كما يمكن لأي خيانة أن تطيح برئيس أو قائد أو جنرال تماما، كما تنهار بسببها عائلات وينتهي أفرادها منكسرين ومحبطين وكثيرون انتهوا انتحارا. غابت الخيانة كموضوع للدراسة في الأدب، ظلت المسكوت عنه الأكبر في كل القضايا الشائكة، إنّها التابو الوحيد ربما الذي لا يزال تحت ركام التابوهات الكثيرة التي كسرت، ولعلّه أخطر من الثالوث الشهير «الدين، السياسة والجنس» لأنه العامل المحرك لهذا الثالوث، ولأنه لا يلامس الأجساد فقط بل اللغة والذاكرة والأرواح. ٭ شاعرة وإعلامية من البحرين القدس العربي