بعد تخرجت من الجامعة كنت من ضمن الالاف الذين لا تربطهم علاقة بالنظام الحاكم لذلك كانت الفكرة الاولى بعد التخرج الهجرة أو الهروب لأن احتمال حظوظك في الحصول على بعثة او وظيفة معدومة تماما وكانت البوابة هي القاهرة وكنا نلتقي في مقهى يحمل اسم الميدان العريق في مصر وهو ميدان التحرير وكنت أسأل جميع من التقيتهم وكانت الغالبية منهم ليس لديهم وجهة معينة بل الكثير منهم انهم يريدون الخروج من السودان والى اي بلد آخر فكرت انذاك كيف ان خسارة السودان فادحة في ابنائه ان هؤلاء اطباء ومهندسين واقتصاديين وفنانيين وقانونيين يحتاجهم الوطن لكنهم بمجرد ان يتموا تعليمهم يهاجرون . وسألت نفسي لماذا يرغب هؤلاء الشبان في الفرار ؟ اول ما تبادر الى ذهني هو الفقر لكن كانت الاسباب غير ذلك فكان السبب الاساسي في هجرة هؤلاء الشبان هو فقدان الاحساس بالعدالة .. الاوضاع كانت مقلوبة الاجتهاد ليس شرطا للتقدم والكفاءة ليست معيارا للحصول على الوظيفة وحتى الثروة وصناعتها لا علاقة لها بنبوغك واجتهادك بل بمدى علاقاتك والانسان في السودان يعلم تماما ان القانون إنتقائي لايطبق الا على الضعفاء أما أصحاب النفوذ فهم دائما فوق القانون. وسوء الاوضاع الحالية يجب ان لا ينسينا أسوأ تجربة مرت على تاريخ السودان الحديث لعلنا نذكر الموظف الذي سرق مروحة وتم معاقبته بسرعة فائقة اما ابن الوزيرة الذي تم ضبطه يتعاطى مخدرات ويحمل كمية كبيرة تم اطلاق سراحه… وأينما وليت وجهك ستجد ظلما فاحشا، ستجد من يأخذ شيئا لايستحقه وآخرين محرومين من أبسط حقوقهم. أينما نظرت ستجد محسوبية ووساطة واستثناءات. وهذا الانحدار في الأخلاق كان يصاحبه حرص على مظاهر التدين والخطأ الشائع والذي اجل الحلول لاصلاح الاخلاق ان كثير من الناس وحتى رجال الدولة فهم يقدمون الأخلاق باعتبارها شيئا ثابتا منفصلا تماما عن الظروف الاجتماعية والسياسية وهم غالبا ما يرجعون سوء الاوضاع من رشوة واحتكار إلى سوء أخلاق السودانيين أنفسهم. إن الخلق الحسن ليس سلوكا انسانيا منعزلا يمكن اكتسابه بعيدا عن ظروف المجتمع، وانما تنتج الأخلاق عن السياق الاجتماعي السياسي الذي يخرج من الناس أسوأ أو أفضل ما فيهم لا يجوز أن نحاسب الناس قبل أن نوفر لهم الحد الأدنى من العدالة.لا يمكن ان تحارب الدعارة ما لم تحارب الفقر لا يمكن ان تحارب الرشوة ما لم تحقق العدالة في مستوى الاجور والاسعار مشكلة السودانيين ليست في قلة الموارد ولا في سوء الاخلاق وانما تتلخص في كلمتين : غياب العدالة. وان كان لهذه الثورة هدف واحد يجب ان يكون هذا الهدف عودة دولة القانون والانسان اينما كان يستعيد إحساسه بالانتماء ويوجه طاقته على العمل وليس لسواه إذا استعاد احساسه بالعدالة ان تردي الاخلاق والبذاءة المنتشرة ليست هي المرض وانما أحد أعراض المرض الاساسي وهو الظلم .لايمكن علاج الأعراض الا بالقضاء على المرض الاساسي ثم بعد ذلك الاخلاق لا تحتاج فقط الى خطب في المساجد او الى دروس ومحاضرات دينية ستأتي تلقائيا عندما تاتي العدالة .