قبل سنوات قدمت الخطوط التونسية للمجلة السياحية التي كنت أعمل بها دعوة لتدشين الموسم السياحي الجديد في تونس فذهبت مع رئيس تحرير المجلة وهو دكتور سوداني رحمه الله. وجلسنا على المائدة وبجوارنا صحفي سعودي الصحفي السعودي سألنا عن أحوال السودان وأخبار الوضع الإقتصادي وعن السلام وعن حرب دارفور وانه زار السودان وبعد أن أثنى على الشعب السوداني كان طبيعيا أن أسأله عن بعض التفاصيل الدقيقة التي تطرق إليها وكان هذا اللقاء في 2014 وحكى لنا القصة التالية: بعد تنفيذ إتفاقية السلام بين بعض حركات دارفور المسلحة والحكومة السودانية كلفتني الصحيفة أن أجري مقابلات مع بعض الشخصيات من الحكومة ومع شخصيات من الحركات المسلحة الموقعة على هذه الإتفاقية وكذلك أخذ عينات من الشارع السوداني أجريت كل القاءات المطلوبة وقررت أخذ رأي الشارع أن آخذ عامل وبكل تفاصيل حياته اليومية مع أسرته حتى يكون توثيق لي في أي عمل آخر فإخترت عامل وقررت أن أقضي أطول فترة ممكنة معه خلال اليوم في بيته ووافق فورا ورحب بالفكرة فذهبت معه مكان عمله ثم بعد نهاية اليوم ذهبت معه الى بيته حقيقة ذهلت لم أتخيل أن يكون في ناس فقراء الى هذا الحد هذا العامل يعيش في بيت صغير جدا مع زوجته وأطفاله ووالدته فهي الأخرى كانت مريضة ولها مراجعات دائمة في المستشفى ومعهم في نفس هذا البيت الصغير أيضا شقيق زوجته طالب جامعي وهذا غير الزائرين من خارج الخرطوم والبيت بالكاد يستطيع أن يعيش فيه هو وبقية أطفاله , وعن الراتب لا يستطيع أن يعيش به حياة كريمة نصف الشهر لكن بالرغم من هذه الظروف الصعبة لا تتخيل كيفية الإستقبال والحفاوة والكرم الذي استقبلوني به ودعوني معهم للغداء وأحسست بفرح بناته الصغار بوجودي وفي نهاية اليوم أو بعد الساعات التي قضيتها معهم حدثت واقعة غريبة وهي التالية : بعد الوداع أخدت أغراضي وكنت متأثر من فقرهم وبما إني سأكتب مقالا وسآخذ عليه مبلغ فقررت وأنا ذاهب أن أعطي البنت الصغيرة 200 ريال فكان هو المبلغ المتوفر معي في تلك اللحظة ومن غير أن يلاحظ والدها وأثناء وقوفنا في إنتظار التاكسي الذي سيقلني الى الفندق لاحظ والدها المبلغ في يدها سألها والدها : من أين لك هذه الفلوس قاطعته وقلت له مني أنا تغير وجهه وحلف (بالطلاق) أنه لازم ترجع فقال لي عيب فحاولت اقناعه لكنني فشلت وساد صمت بيننا ثم ودعتهم سأله رئيس تحرير المجلة : ماذا إستنتجت من هذه الواقعة ؟ قال هذه الجملة التي لن انساها ما حييت: (لقد علمني هذا العامل السوداني درسا لن أنساه عندما يعاني الإنسان من كل هذا الفقر والظلم ويظل يحتفظ بشجاعته وكرامته فإنه حتما سينتصر على الفقر وعلى الظلم) قد يمنحك أحدهم الأمل وداخله مدينة من الإحباط ، قد يمنحك النُور و داخله مملوءٌ بالعتمه .. هذا العامل اعطانا الامل وتعلمنا منه عزة النفس والكرامة . إذن من قال أن فاقد الشيء لا يُعطيه ؟