الرجلان المحسوبان على المكوّن الاجتماعي المغضوب عليه بدارفور، وصلا قمة هرم الدولة بكسبهما الذاتي على المستوى القومي، الأول تدرج عبر مسيرة طويلة من النضال الطلابي حتى وصل لما وصل اليه صدقاً واتساقاً والتزاماً ثورياً مشهوداً، لم يتاجر بمأساة أهله في الاقليم المنكوب كما فعل الكثيرون بامتطاء صهوة جواد القضية التي تكسب منها عدد غفير من الانتهازيين، والثاني دفعت به ظلامات ذوي القربى شركاء الأرض والتاريخ عندما استهدفوه في وجوده بارض الأجداد، الرجلان وبعد اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة المكللة بالنجاح الباهر المزيل لسطوة حكم الطاغية، جنّدا نفسيهما ليكونا فارسين من فرسان السلام لتحقيق الوئام الذي كان بعيد المنال في عهد الدكتانور، قادا حملة دبلوماسية وسياسية مع رفاقهما بحكومة الانتقال (القحتاويين) عندما قام الاخيرين باقصاء من اسماهم رئيس الوزراء بقادة الكفاح المسلح، ذلك الكفاح الذي ازهق ارواح ملايين المدنيين من مواطني دارفور، ووضع الملايين الآخرين بمعسكرات النزوح واللجوء، حمامتا السلام هاتين ابعدتا الغبن العرقي عن قلبيها وطفقتا تجوبانالعواصم الافريقية وبوادي وحضر الاقليم من اجل أن ينعم المواطن الدارفوري بالأمن والاستقرار، حتى كللت الجهود بانجاز وثيقة السلام المثقوبة التي اعادت انتاج بؤر التوتر والفرز القبلي والحقد العرقي القديم. التعايشي المسؤول الرفيع بمشروع السلام المزعوم خطب في الناس بكولقي وحذّر من مغبة التماهي مع خطاب الكراهية الأول الذي أسس لهذه المأساة، ووضع محاذير مشروعة تطال من يتجاوز الخطاب المعتدل الداعم للسلام المزعوم، لكن المتطرفون لم يروا في رجل السلام غير أنه امتداد لذلك العدو المجنون المعتلي لصهوات الاحصنة الملعونة، العدو المفروز عرقياً والمقصي قبلياً والممنوع تعسفياً من التمتع بحقوق المواطنة والوفاء بواجباتها المتساوية بأرض المحرقة، لم تجد حمامة السلام هذه نصيب من الآية الكريمة (هل جزاء الاحسان الا الاحسان)، بل على العكس من ذلك تلقفت سعيها الصادق تلك الالسن والقلوب الغلف بالسباب واللعن المتتالي وسيل من الشتائم السايبرية المبثوثة عبر اثير الانترنت، من حلاقيم شباب هربوا من مواجهة مصير اهاليهم واكتفوا بالشجب والادانة خلف شاشات الهواتف الذكية بعواصم الثلج في بلدان ما وراء البحار، المتطرفون لا يصنعون السلم المجتمعي والمغبونون لن يحملوا غصن الزيتون ليقدموه للمسامح الكريم الذي يمدد يده بيضاء من غير سوء، لأن غشاوة الكره والبغض قد استوطنت قلوبهم وعقولهم، لا يرون في رجل الدولة ذي الخلفية العرقية المنتمية للجماعات المغضوب عليها سوى شيطان رجيم يجب أن يضرب بالسهم على مؤخرته – كما تقول المقولة المأثورة لأصحاب الاحقاد المستوطنة – مهما قدم من عمل طيب. اما حمدان فقد كان فارساً في الحرب واراد أن يكون بطلاً للسلام لكن خاب ظنّه وطاش سهمه، عندما لم يشكره رفيق دربه بقطار جوبا الذي توج امبراطوراً على ارض محرقة البؤساء المكتسية بجماجم الاطفال، لقد اكتفى الامبراطور بتقديم كلمة الشكر لرأس الدولة فاخطأ في ذكر اسمه عندما تقدم باسمى آيات الشكر والعرفان لرمز سيادة الجارة الشمالية، هكذا جنى ولد حمدان الثمار المسمومة لاتفاق المحاصصات القبلية، فبعد أن ادّى دوره بامتياز وضعوه على الرف لكي يشاهد مسلسلاً دموياً آخراً يجري الاعداد له خلف كواليس العرق والقبيلة، هكذا هي لعنة ارض البؤساء الغنيّة بالموردين البشري والطبيعي، قدرها أن تحمل الماء على ظهرها بينما جوفها يحترق عطشاً ووعاءها يعتصره الجوع مثل عير الصحراء، لا احد يرغب في ازاحة اثقال الحرب اللعينة من سويداء الفؤاد المحموم بهواجس الماضي، لسوء استخدام هذا (الأحد) لفوهة البندقية التي كان يوجهها لصدر الدولة، ليقوم بتعميرها وتصويبها نحو صدر الراعي الفالح للأرض مبتغياً رزقاً حلالاً وستراً عفيفاً لمحارمه المفجوعات بمجنزرات الدفع الرباعي الهاتكة لتربة الارض البكر والقاتلة للشباب الغض اليافع، لقد عقد حمدان اجتماعاً رأس فيه رؤوس افاعي الحرب اللعينة ووجههم لما فيه خير الجميع، لكن لا جدوى ترجى من تجار الحرب لانطباق المثل الدارفوري (الكلب ما بخلي قُعاد الم قنقوز) عليهم. التحدي الماثل امام حكومة الانتقال هو الملف الاسود لسلام جوبا المزعوم، السلام المكتفي بادخال مجموعات عرقية بعينها واقصاء اخرى واحضاره لمصاصي دماء لهم تاريخ قاتم في سفك الدماء، الآن المشهد قد وضح بكل جلاء، وعلى آلية تنفيذ الترتيبات الأمينة ان تختار ما بين جنّة دارفور ونارها، فان ارادت لطفاً وخيراً بأهل الاقليم عليها تكوين القوة المشتركة المعنيّة بارساء دعائم أمن الناس، من افراد من خارج نطاق الحركات المسلحة والدعم السريع، لأن الحرب أولها كلام، وقد اتضح جليّاً أن افراد هاتين الترسانتين يوالون اهاليهم عرقياً وقبلياً، و(الدشمان) سيندلع مرة اخرى بين العرقين طال الزمان ام قصر، لما في النفوس من غبن مدفون، وما حادثة (كولقي) الا (المناظر) التي تسبق عرض الفيلم المأساوي القديم المتجدد، فهذه الشجرة المسقية من ماء القبيلة لن تخرج ثماراً صالحة وسيتوالى منتوجها المسموم بعقدة العرق وحنق العشيرة واحتكار منفعة الأرض التي بسطها الله لعباده، لكي يمشوا في مناكبها ويأكلوا من رزقه حتى يحين ميعاد نفخ الصور وحدوث النشور. [email protected]