في حين يعتقد البعض أن العنف الزوجي ناجم عن إحساس بالعجز تعود جذوره إلى مراحل الطفولة الأولى، يعتقد آخرون أن هذه الظاهرة الاجتماعية مرتبطة بعوامل مختلفة، مثل سلوك الوالد المذلّ والمؤذي، والتعلّق بأمّ دائمة الانشغال، وتوزيع الأدوار على أساس الجنس، بالإضافة إلى المجتمع الذكوري الذي نعيش فيه. برزت عدة نظريات لتفسير العنف الزوجي وسلوك الرجل الذي لا يتردد لحظة عن ضرب زوجته. إليكم في ما يلي أبرز هذه النظريات. في السبعينيات، ظهرت نظرية جديدة لتفسير العنف الزوجي. في إجابة عن سؤال حول سبب ضرب الرجل زوجته، قال المدافعون عن المرأة إنّ السبب الرئيس هو المجتمع الذكوري الذي نعيش فيه، فهم يرون أنّ الرجل يعامل زوجته بعنف لأنه من الطبيعي جداً بالنسبة إليه أن يكون هو السيد وصاحب السلطة المطلقة. ترسّخَت هذه الأفكار الاستعبادية في ثقافتنا من خلال طريقة تربية الفتيان ومنحهم «امتيازات الذكر»، فالمجتمع يهيّئ الرجال ليكونوا مسيطرين، لذا إما يمارسون هذا الامتياز بالقوة وإما بالعنف إذا اضطرّ الأمر. من هذا المنطلق، يبدو العنف ضدّ المرأة أمراً عادياً، لا يستلزم أن يكون الرجل مريضاً نفسياً ليتمكّن من ممارسته على زوجته، بل يكفي أن يكون رجلاً ليكون مقتنعاً أن المجتمع الذكوري يمنحه حق السيطرة المطلقة على زوجته، حتّى إنه قد يشعر بنقص أو بخلل في رجوليته في حال لم يمارس هذه السيطرة التامة! التربية السبب الثاني للعنف يعود إلى طريقة تربية الفتيان والفتيات، وإلى تفسير مفهوم الرجولة والأنوثة لدى الأهل، فتتم تربية الفتيان منذ الطفولة على سلوكيات تنمّ عن توكيد الذات والعدوانية على عكس الفتيات اللواتي يتربين منذ نعومة أظفارهن على ضعف الشخصية، والتسامح، وتفادي المشاكل. في الواقع، هذه التربية تهيئ الفتيان والفتيات لأداء دور المعتدي والضحية. لتبرير السلوكيات الذكورية والأنثوية، وتوزيع المهام على أساس الجنس، اعتبر الفلاسفة الأخلاقيون هذا السلوك طبيعياً أو فطرياً. كذلك أظهرت أحدث الدراسات في هذا الشأن أن تصرّفاتنا كافة المرتكزة على عامل الجنس مغروسة في ذهننا نتيجة التربية التي نشأنا عليها. لماذا الضرب عوضاً عن الكلام؟ في كثير من الصراعات بين الرجل والمرأة، نرى الرجل يكلّم الزوجة بطريقة قاسية، وغالباً ما تترافق كلماته مع بعض الضربات. وهو يعبّر بكلامه عن الأفكار والدوافع السائدة في نفسه في تلك اللحظة: فنراه يُسكِتُ زوجته، ويطلق عليها الكلمات النابية، ويهدّدها بالقتل... يعتقد البعض أن الرجل يلجأ إلى الضرب عندما ينفد منه الكلام ولا يبقى عنده ما يقول. لكنّ هذه النظرية ليست دقيقة جداً، إذ إنّ العنف لا يُعتبَر مشكلة تواصل، لا بل تكمن المشكلة وراءه في السيطرة على النفس وضبط الانفعالات، والعواطف، والشهوات... فيجد الرجل نفسه عاجزاً عن إيجاد الكلمات لأن أفكاره تتشوّش إلى حدّ الإبهام. لكن الجسد يكون، هو أيضاً، تحت الضغط، ما يولّد إحساساً بعجز بل بهلاك، وبعنف داخلي لا يُحتمَل. فيفقد الرجل القدرة على تحمل كلام زوجته ولا حتى صمتها، فلا يجد أمامه سبيلاً سوى الانهيال عليها بالضرب. التربية الاجتماعية الولد الذي ينشأ في عائلة يخيّم عليها جوّ من العنف الزوجي معرّض بشكل كبير لإقامة علاقات غير صحية تؤثر حتماً على تربيته وكينونته في الحياة. تركّز نظرية التربية الاجتماعية على كيفية اكتساب التصرفات العادية من خلال مراقبة الآخر وكيف أن هذه التصرفات مدعومة ب «فوائد اجتماعية». من هذا المنطلق، نفترض أنّ الرجل الذي يمارس العنف الجسدي ضدّ زوجته أو حبيبته يقوم بتقليد العنف الذي عايشه في منزل أهله. وقد أثبت الكثير من الأبحاث أن الرجل الذي عايش العنف المنزلي في منزل والديه يميل إلى ممارسة العنف ضد زوجته أكثر بكثير من الولد الذي تربّى في جو عائلي سليم. علاوةً على ذلك، يمنح العنف الزوجي الرجل «مكافآت» مباشرة، فهو نتيجة هذا العنف يخرج دائماً منتصراً من المواجهة التي كان من الممكن جداً أن تنقلب ضدّه. فأمام تفوّق المرأة في الكلام أو حساسيتها المفرطة، لا يجد الرجل سوى سلاح واحد يعول عليه وهو تفوقه الجسدي. فيشعر بالتالي أنه سيد الموقف، إذ إنه قادر على التحكّم بالوضع كما كان ليفعل أي رجل «حقيقي». العامل البيولوجي يعزو التيار المعني بالطب العصبي سبب العنف إلى عطل في الجهاز الحوفي (وهو مقرّ الانفعالات). في هذا السياق، يعتقد الطبيب النفسي الأميركي فرانك إليوت، الذي يُعتبَر أحد أشدّ المؤيدين لهذه النظرية، أنّ العنف ناتج من تفريغ كهربائي عشوائي في الفص الصدغي. ومن الممكن أن يكون ناتجاً من صدمة مبكرة في الدماغ، كاختناق موقت خلال الولادة أو مراحل الطفولة الأولى. ويظنّ إليوت أيضاً أن اضطرابات الأيض مثل نقص السكر في الدم قد تؤدي هي أيضاً إلى العنف الزوجي. من الناحية الوراثية، تَعتبِر البيولوجيا الاجتماعية التي شهدت تطوراً في السبعينيات أنّ العنف الزوجي ما هو إلا استراتيجية ذكورية للسيطرة على المرأة للتاكد من أن يكون الرجل هو الشخص الوحيد الذي تمارس معه العلاقة الجنسية وتحمل منه. كذلك تعتبر البيولوجيا الاجتماعية أنّ الرجل يلجأ إلى العنف الزوجي بهدف إشباع حاجة بيولوجية ملحّة عنده. أما الغيرة المجنونة التي تترافق مع تصرفات وحشية فسببها عدم ثقة الرجل بقدرته على المساهمة في الإرث الجيني حيث تؤدي المرأة دوراً أكيداً وحتمياً. فإن الأم، في طبيعة الحال، حقيقية، بينما الوالد لا يبقى سوى افتراضياً. من الواضح إذاً أن العنف الزوجي يحمل في طياته أبعاداً أكثر تعقيداً. فقد يكون الرجل الذي يمارس العنف ضد زوجته يمرّ بحالة اكتئاب شديد، أو يشعر بغيرة عمياء، أو يمرّ بضغوطات كثيرة لا يجد لها حلاً سوى تفجير غضبه العارم في حياته الخاصة. ولا شكّ في أنه يختبر حالة اضطراب أعمق بكثير مما تصفه نظرية التربية الاجتماعية المترسّخة. الجريدة