حول العالم في 80 يوما كانت هدفا انتشر في القرن التاسع عشر بعد صدور رواية للخيال العلمي تحمل ذات الإسم من تأليف الكاتب الفرنسي جول فيرن، أما اليوم فقد وجه الناس عزيمتهم إلى تحقيق أهداف جديدة مثل تسجيل أرقام قياسية في السرعة وقطع المسافات مثل الرحلة حول العالم التي قام بها مغامر باستخدام المنطاد الذي يعمل بالهواء الساخن وسجل رقما قياسيا منذ عشر سنوات. فالرحلة التي قام بها المغامر ستيف فوست حول العالم في 13 يوما انتهت في الثاني من تموز/يوليو 2002 سجل فيها رقما قياسيا في السرعة وقطع المسافات بالطيران بمفرده داخل منطاد، إلى جانب تسجيل رقم قياسي آخر بقطع أطول مسافة بالطيران بمنطاد خلال 24 ساعة، وبعد ذلك بثلاثة أعوام سجل فوست رقما قياسيا بقيامه بأول رحلة طيران بمفرده وبدون توقف بطائرة ذات أجنحة ثابتة وبدون إعادة التزود بالوقود. ويرى الباحثون المتخصصون في السلوك البشري أن رحلات فوست تعد نماذج تعبر عن رغبة الإنسان الأصيلة في تسجيل رقم قياسي، وتعرف الباحثون على رغبة متزايدة لتحقيق أعلى أداء في جميع أنواع الأنشطة اعتبارا من سباق تزلج العراة إلى سباق مقاعد المكتب وهو سباق يجرى في الشوارع بين المتسابقين الذين يجلسون على كراسي ذات عجل مثل تلك الموجودة بالمكاتب، وتغذي برامج التلفاز والإنترنت هذه الطموحات. ولا يشعر بيتر فالشبيرجر وهو عالم نفس بالجامعة الحرة ببرلين بالدهشة من رغبة الأشخاص في تحقيق أهداف السرعة وقطع المسافات وتسلق المرتفعات، ويقول إن جذور التطور عند الإنسان تمتد إلى عصر الصيد وجمع الثمار في العصر الحجري الأول عندما كان أهم إنجاز هو الانتصار في الصراع من أجل البقاء. ويضيف إن البشر جميعا ينحدرون من هؤلاء الأسلاف الذين كانوا يفوزون في المنافسات، وبالتالي فإن الرغبة في تسجيل رقم قياسي متجذرة في الجينات الوراثية خاصة بين الرجال. ويوضح فاليشبرجر أن البرمجة الوراثية للنساء تتجه نحو الرغبة في الاستمرارية والحفاظ على الأجيال والاضطلاع بالمسئولية الاجتماعية والعناية بالأطفال، أما الرجال فهم من حين لآخر ينجذبون لمخاطر إغلاق إحساس التعقل لديهم، وأساس هذه الحقيقة يرجع إلى أن الأشخاص الذين ينجحون في الإختبارات الخطرة لمهاراتهم يشعرون أيضا بالسعادة الشديدة. ويقول إن ذلك إحساس يريد الإنسان تكراره مرات ومرات وهو تأثير يشبه الاعتماد على المخدرات والذي يصاحب زيادة في إنتاج الهرمونات الجنسية، وهذا هو ما يشجع على الحاجة للسعي لتسجيل الأرقام القياسية، ويعد المغامر فوست نموذجا واضحا لمثل هذه الشخصية فقد سعى وراء الأرقام القياسية في عدة مجالات من السباحة إلى سباق السيارات ومن سباق الزوارق الشراعية إلى الطيران. ومع ذلك فإن تسجيل رقم قياسي اليوم لا يتعلق فقط بالأداء الأعلى الذي يتطلب الكثير من التدريب والخبرة ، وتصنع الإنجازات الرائعة للناس العاديين موضوعات شيقة لبرامج التلفاز التي تمنح الشهرة والمال في نفس الوقت. ويؤكد فاليشبرجر أن البشر لديهم رغبة قوية في الحصول على الاعتراف بقدراتهم ويوجهون أنفسهم لتحقيق الأرقام القياسية في مختلف المجالات مهما كانت تافهة، مشيرا إلى أن المواقع الإليكترونية مثل يو تيوب تنشر صورا عن كل شخص يستطيع تحريك إذنه حول العالم. ويوضح ويبرمان الباحث في الاتجاهات الإجتماعية أن السعي لتسجيل الأرقام القياسية يتزايد، ويرى أن الدافع الأساسي لذلك هو البحث عن تأكيد الذات والاعتراف بأهمية الشخص، وأن مؤسسات المجتع التي كانت تمنح الناس في السابق الإحساس بالأهمية فقدت وضعها، فالأسر فقدت مكانتها بسبب ارتفاع معدلات الطلاق كما فقدت الأحزاب السياسية وضعها بسبب الإلتباس حول أهدافها، وينطبق الأمر أيضا على الكنيسة نتيجة المتغيرات الإجتماعية. ويقول ويبرمان إن الفوز بالمرتبة الأولى يعطي الفرد مرة أخرى الإحساس بأنه محور الإهتمام، وليس من المهم نوعية النشاط الذي يتم تحقيق الفوز فيه سواء كان سخيفا مثل نفخ الآيس كريم أو خطيرا مثل السفر حول العالم في سن السادسة عشرة أو المشي فوق حبل مشدود أعلى شلالات نياجرا، وينصب التركيز على تفسير العمل الرمزي ومنطق الصعود في ترتيب قائمة الإنجاز. ولا يعتقد جينز أسندورف أستاذ علم نفس الشخصية بجامعة هامبولت ببرلين أن عامل المرح والترفيه يزيد اليوم الرغبة في تحقيق الأرقام القياسية. ويقول إن الألعاب الأوليمبية التي كانت تجرى في اليونان القديمة عادت لتطل من جديد على شكل المنافسات على تسجيل الأرقام القياسية، مؤكدا أن البشر يرغبون في اللعب كلما أتيحت لهم الفرصة، ويقول إن الفارق يتمثل في أن أنباء الأرقام القياسية أصبحت تصل إلى أعداد أكبر من المشاهدين من خلال أجهزة الإعلام الحديثة، ونتيجة لذلك تتزايد الجوائز الاجتماعية للفائزين. ويضيف أسندورف إن الحافز لتسجيل الأرقام القياسية لم يتغير وإن كان رد الفعل قد تغير، وتم توسيع المجال بسبب تزايد إمكانية الاعتراف الاجتماعي. ويبقى السؤال : هل يأتي اليوم الذي تنتهي فيه إمكانية تحقيق أرقام قياسية جديدة بسبب وصول الجسم البشري إلى أقصى طاقته وعدم قدرته على تحقيق المزيد ؟. لا يعتقد الباحثون بإمكانية توقف الأرقام القياسية مستقبلا حيث أنها عملية حيوية وتكون هناك على الدوام تحديات أو قواعد جديدة وإمكانات فنية جديدة. ولا يريد فاليشبرجر أن يصور الرجال الذين يسعون وراء الأرقام القياسية بأنهم مجموعة من الحمقى، ويقول إنهم قد يتسم سلوكهم بالثقة الزائدة إلا أن استكشاف الفرص والتقدم فيما وراء الحدود هو ما يدفع الأشخاص صوب الأمام. وينطبق الأمر على رواد الفضاء مثلما ينطبق على كبار المفكرين مثل ألبرت أينشتاين، والبراعة تتمثل في كفالة ألا تهدد المواقف الخطرة البقاء على قيد الحياة، ولم يكن فوسيت محظوظا في هذه البراعة فقد فارق الحياة عام 2007 عندما سقطت طائرته في الصحراء بالقرب من لاس فيجاس بينما كان يستعد للقيام برحلة طيران يسجل من خلالها رقما قياسيا جديدا.