نُسب أخيراً حديث إلى السيد علي محمود عبد الرسول وزير المالية والاقتصاد الوطني السوداني حول الكسرة والعواسة. وقد أثار ذلك الحديث ردود أفعال متباينة. وقد رجعت إلى مصدر ذلك الحديث لأعرف ما قاله الوزير عبد الرسول بالضبط. وقد وجدت أنه قد قال: (عندما اختارني السيد الرئيس وزيراًً للمالية، أجريت دراسات عن صادراتنا ووارداتنا، ووجدت أننا نستورد ما يساوي أكثر من تسعة مليارات دولار كل سنة، منها مليار للسيَّارات، وقرابة مليارين للقمح ، ومائة مليون دولار للزيوت، وقرابة مائة مليون للأثاث، ومثلها الفواكه ولعب أطفال، وسلع كمالية، وحسب سياستي الجديدة، لا بد من تخفيض هذه المبالغ بترشيد الاستيراد، وفرض ضرائب جمركية على الكماليات. وفعلاًً، أصدرت أوامر بوقف استيراد السيَّارات المستعملة لأنها في المدى البعيد ستكون عبئا على أصحابها وعلى الاقتصاد السوداني. وقد تحدثت إلى الشعب السوداني عن أهمية العودة إلى منتوجاتنا المحلية، إلى الذرة والدخن، إلى الكسرة «خبز سوداني من الذرة الرقيقة» والعواسة «عملية تقليدية لطهي الكسرة»). وأرجو أن يلاحظ القارئ قول الوزير عبد الرسول انه قد «تحدث إلى الشعب السوداني» عن أهمية العودة إلى منتجاتنا المحلية. كما قال في رد على سؤال وجهه اليه الصحافي فتح الرحمن شبارقة، حول دور الدولة في الترشيد الذي يدعو إليه السيد عبد الرسول، وما إذا كان الترشيد يقتصر على المواطنين فقط، وكان ردالوزير عبد الرسول: «أنا أبدأ بالدولة، ولا بد أن تعمل الدولة سياسات تقشفية وتخفض استهلاكها، لذلك أنا خفضت في هذا العام مصروفات الدولة، والحل الذي أتيت به في وزارة المالية أن الوزارة باستمرار تعمل ميزانية فيها عجز بين الإيرادات والمصروفات تغطيه إما بالاستدانة من البنك المركزي أو بقروض خارجية قصيرة المدى أو تمويل بأدوات الدَّين الداخلي مثل شهامة، وكذا لتمويل الصرف الجاري للدولة من إنشاءات ومبانٍٍ وشراء أثاث وعربات وسيَّارات للدستوريين وكبار موظفي الدولة، هذا خطأ وأوقفناه تماماًً.. والفصل الأول في الموازنة الجديدة وبما يسمى بتعويضات العاملين. والفصل الثاني ما يسمى بشراء السلع والخدمات والبنود الممركزة نموّلها من الإيرادات الحقيقية من إيرادات الجمارك والضرائب وعائدات البترول وعائدات الاستثمارات الحكومية وفوائد المؤسسات والهيئات الحكومية، لذلك ضبطت الصرف على قدر الإيرادات، وليس لدينا عجز في الموازنة الداخلية بعد أن ضغطنا الصرف الثاني في صرف الدولة». وإذا ما نظرنا إلى حديث الوزير عبد الرسول نظرة موضوعية بناءً على الحقائق واستبعاد التأثيرات السياسية والجمهورية والشخصية نجد: أولاًً: أنه خلافاًً لما يقول به بعض زملائه من رموز المؤتمر الوطني تلاميذ مدرسة الخداع والكذب والاستعباط، فأنه يعترف بأن انفصال الجنوب وفقدان جزء كبير من إيرادات البترول سيكون له تأثير سلبي كبير جداًً على الميزانية العامة للحكومة «انخفاض الإيرادات» وتأثير سلبي كبير جداًً على ميزان المدفوعات «الصادرات والواردات». وثانياًً: أن دعوته إلى ترشيد الاستهلاك دعوة صائبة ولا يقلل من أهميتها الحديث عن «الكسرة والعواسة» الذى وللأسف الشديد صرف انتباه الناس عن القضية الجوهرية. وثالثاًً: حديث الوزير عبد الرسول عن ضرورة أن تعمل الدولة سياسات تقشفية وتخفض استهلاكهاًً حديث صائب وجرئ، وقد يسبب له مشكلات وربما متاعب مع بقية المسؤولين في جهاز الدولة الذين يعملون بالمثل السوداني القائل «دار أبوك كان خربت شيل ليك منها شلية أو عود أو شملة». وعلى الرغم عن قناعتي الشخصية بأن إدارة الاقتصاد السوداني تحتاج إلى مراجعة شاملة، لتوجيه المزيد من الموارد من الاستهلاك إلى الاستثمار لبناء الطاقات الانتاجية لزيادة الدخول وتوفير فرص العمل، وتوجيه المزيد من الموارد إلى حكومات الولايات من الحكومة المركزية، وتوجيه المزيد من الموارد من الأغنياء إلى الفقراء ومن الطفيليين إلى المنتجين الحقيقيين، لكنني سوف أتناول في هذا المقال مسألة واحدة هي حديث الوزير علي محمود عبد الرسول حول ترشيد الاستهلاك. أين برنامج وسياسات الوزير عبد الرسول؟ قال الوزير علي محمود عبد الرسول في الحوار الذي أجراه معه الصحافي فتح الرحمن شبارقة: «وأنا أفتكر أن البعض تجاوز الموضوعي إلى الذاتي، ووصل إلى مرحلة التجريح الشخصي والتشكيك في قدرات الوزير. فيجب أن ينتقد الناس السياسات والبرنامج أكثر من انتقادهم الشخص في ذاته. فهناك فرق بين علي محمود بوصفه شخصاً وعلى محمود باعتباره وزيراً لديه سياسات وبرامج». وأنا اتفق معه في ذلك، ولكن أين هي سياسات وبرامج السيد علي محمود عبد الرسول وزير المالية والاقتصاد الوطني لترشيد الاستهلاك؟ يقول السيد الوزير عبد الرسول انه قد تحدث إلى الشعب السوداني عن أهمية العودة إلى منتجاتنا المحلية، وإلى الذرة والدخن وإلى «الكسرة والعواسة». ولكن لا اعتقد ان الحديث ومجرد الحديث عن أهمية العودة إلى الذرة والدخن يشكل سياسة لترشيد الاستهلاك. ويحتاج السيد الوزير عبد الرسول إلى أكثر من ذلك. أنه يحتاج أولاًً لأن تكون له سياسات فعالة effective بمعنى سياسات قادرة على تحقيق مقاصدها، ويحتاج ثانياًً إلى أن يقنع رئيسه المباشر الرئيس عمر حسن أحمد البشير، بتبني تلك السياسات، لأنه هو المسؤول التنفيذي الأول في الدولة، والمسؤول أمام الله والناس عن الإدارة الاقتصادية، ولأن الوزير لا يستطيع تنفيذ أية برامج أو سياسات بدون دعم رئيس الجمهورية. وثالثاًً: يحتاج الوزير عبد الرسول إلى تسويق سياساته التقشفية وإقناع الشعب السوداني بها. يتعلم طلاب السنة الأولى في كليات الاقتصاد أن الطلب الفعلي (demand) لأي شخص لأية سلعة استهلاكية مثل كسرة الذرة أو عصيدة الدخن أو رغيف القمح، وأقصد مقدار ما يشتريه أو يستهلكه فعلاًً من تلك السلعة وليس ما يرغب فيه أو يشتهيه، يعتمد على عوامل خمسة رئيسية: هي أولاًً: حجم أو مقدار دخل الشخص المتاح للصرف على السلع الاستهلاكية، وثانياًً: مدى أهمية السلعة المحددة وبدائلها لحياة الشخص، وهل بوسعه التخلي عنها تماماًً أو تخفيض الكمية التي يستهلكها تخفيضاًً كبيراًً، وهو ما يعرف في علم الاقتصاد بمرونة الطلب على السلعة (elasticity of demand) وثالثاًً: ذوق الشخص (taste) وما إذا كان يفضل الكسرة على الرغيف او على العصيدة، أو يفضل الرغيف على كليهما. ورابعاًً: سعر السلعة المعنية مثل الرغيف. وخامساًً: أسعار بدائلها مثل الكسرة وعصيدة الدخن، وتدخل في الأسعار التكاليف الضمنية (imputed costs) مثل الوقت الذي تضميه ربة المنزل في تحضير وصنع الكسرة أو العصيدة. وتغيير سلوك الشخص الاستهلاكي يعتمد على التغيير في واحد أو اكثر من العوامل الخمسة التي ذكرتها أعلاه. ولكن نجد في السودان أن السياسة الرسمية للدولة تعمل على تشجيع استهلاك الرغيف على حساب الكسرة وعصيدة الدخن، وذلك عن طريق دعم القمح. فالوزير عبد الرسول يقول إن القمح المستورد مدعوم ولا تفرض عليه رسوم ولا ضرائب. ولم يذكر الوزير عبد الرسول الأرقام، وقد بحثت عنها ولم أجدها، ولكن الاستنتاج المنطقي هو أن سعر الرغيف كان سيكون أعلى من مستواه الحالي في حالة رفع الدعم، وذلك هو الاجراء العملي الذي سوف يؤدي إلى تحول الطلب من الرغيف إلى الكسرة وعصيدة الدخن. وإذا ما كان الوزير عبد الرسول جاداً فعلاًً في دعوته إلى ترشيد الاستهلاك فإن عليه أن يزيل التشوهات distortions التي أدخلتها وعملت على إبقائها الحكومات السودانية المتعاقبة، وفى مقدمتها سياسات دعم الرغيف والوقود والكهرباء، لأنها سياسات خاطئة وغير رشيدة، تشجع الاستهلاك وتأخذ موارد مالية كبيرة كان يمكن أن تصرف على الاستثمار في بناء الطاقات الانتاجية أو الصرف على التعليم والصحة، وفوق ذلك سياسات ظالمة، لأن الأغنياء وسكان المدن يستفيدون من تلك السياسات على حساب المزارعين الفقراء الذين يكدحون في الريف، ويشكلون اليوم حوالي «80%» من سكان السودان. ولكن نسبةً لأن رفع الدعم عن القمح المستورد وعن البنزين والجازولين سوف يؤدي إلى ارتفاع أسعار تلك السلع، فإنه لن يكون مقبولاًً لسكان المدن وخاصة سكان الخرطوم، إلا إذا تم ذلك في إطار سياسة تقشفية شاملة في مقدمتها تخفيض أعداد الوزراء والمستشارين، وتخفيض أجورهم وامتيازاتهم تخفيضاًً كبيراًً، وأكرر تخفيضاًً كبيراًَ. ولهذا يحتاج الوزير عبد الرسول إلى برنامج شامل يقوم على سياسات يتوقع أن تكون فاعلة وتحقق مقاصدها، لأنها تقوم على منطق اقتصادي سليم وليس على المناشدة والدعوات والتمنيات، ويحتاج إلى إقناع رئيسه المباشر والمسؤول التنفيذي الأول في السودان، وهو عمر البشير، بتبني تلك السياسات وتسويقها للشعب السوداني، وإصدارها والإصرار عليها، مثلما يفعل اليوم باراك أوباما في أمريكا وساركوزي في فرنسا، وذلك لأن القرارات الكبيرة التي يتوقع أن يكون لها تأثير سلبي على بعض قوى الضغط السياسي المؤثرة، والتى تخشاها الحكومات مثل سكان الخرطوم الذين يشكلون الشريحة الأكبر المستفيدة من دعم الرغيف والبنزين والجازولين، تحتاج مثل تلك القرارات إلى قيادة سياسة ذات مقدرات عالية على الإقناع، ودرجة عالية من الشجاعة والاستعداد لتحمل المخاطر السياسية، وفي كل الأحوال سواءً انفصل الجنوب أو بقي السودان موحداًً، فإن الرئيس عمر البشير مطالب بمراجعة إدارة الاقتصاد السوداني مراجعة شاملة وترشيدها لتقوم على العدل والصواب.