هيومن رايتس ووتش: الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها ارتكبت جرائم ضد الإنسانية وتطهيراً عرقياً ضد المساليت.. وتحمل حميدتي وشقيقه عبد الرحيم وجمعة المسؤولية    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    لماذا لم يتدخل الVAR لحسم الهدف الجدلي لبايرن ميونخ؟    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    أفضل أصدقائي هم من العرب" :عالم الزلازل الهولندي يفاجئ متابعيه بتغريدة    توخيل: غدروا بالبايرن.. والحكم الكارثي اعتذر    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    النموذج الصيني    تكريم مدير الجمارك السابق بالقضارف – صورة    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    أليس غريباً أن تجتمع كل هذه الكيانات في عاصمة أجنبية بعيداً عن مركز الوجع؟!    مكي المغربي: أفهم يا إبن الجزيرة العاق!    بأشد عبارات الإدانة !    موريانيا خطوة مهمة في الطريق إلى المونديال،،    ضمن معسكره الاعدادي بالاسماعيلية..المريخ يكسب البلدية وفايد ودياً    الطالباب.. رباك سلام...القرية دفعت ثمن حادثة لم تكن طرفاً فيها..!    السودان.. مجلسا السيادة والوزراء يجيزان قانون جهاز المخابرات العامة المعدل    ثنائية البديل خوسيلو تحرق بايرن ميونيخ وتعبر بريال مدريد لنهائي الأبطال    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل مصري حضره المئات.. شباب مصريون يرددون أغنية الفنان السوداني الراحل خوجلي عثمان والجمهور السوداني يشيد: (كلنا نتفق انكم غنيتوها بطريقة حلوة)    ضياء الدين بلال يكتب: نصيحة.. لحميدتي (التاجر)00!    شاهد بالفيديو.. القيادية في الحرية والتغيير حنان حسن: (حصلت لي حاجات سمحة..أولاد قابلوني في أحد شوارع القاهرة وصوروني من وراء.. وانا قلت ليهم تعالوا صوروني من قدام عشان تحسوا بالانجاز)    شاهد بالصورة.. شاعر سوداني شاب يضع نفسه في "سيلفي" مع المذيعة الحسناء ريان الظاهر باستخدام "الفوتشوب" ويعرض نفسه لسخرية الجمهور    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الخليفي يهاجم صحفيا بسبب إنريكي    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    كرتنا السودانية بين الأمس واليوم)    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«كِياح»..من يدين من .. قراءة في الايديولوجيا والفن
الواقعية الخشنة في رواية خالد عويس
نشر في الصحافة يوم 25 - 01 - 2011

«إن الكتابة ضد السلطة لا تعني أن نلعن الوطن، وندين الأبرياء، وننشر غسيلنا القذر، ونحاكم الحاضر بالتاريخ الماضي.»
ديناو منجستو روائي أثيوبي.
تنبأ «هيجل» في كتابه «محاضرات في الاستطيقيا» بظهور الرواية بوصفها نثر الحياة الحديثة، وهي تعبر عن إنكسار الوحدة الرابطة بين الفرد وبين الكلية الاجتماعية، التي ينتمي إليها، وتزايد شعور الفرد بالإغتراب. وإذا كانت رواية «كِياح» ومن خلال بطلها «السلبي» تريد أن تؤكد الجوانب اللإنسانية في المجتمع الذي يعيش فيه هذا«البطل»، والمتحدث بضمير الأنا، والذي يبدو ظاهرا بأن هذا المجتمع الذي يعيش فيه هو شمال السودان. والبطل ايضا يبدو بأنه من بقايا الرقيق هناك. أراد به الكاتب، أن يحكي معاناة تلك الطبقة، ويريد ايضا أن يقول بأن هذه المعاناة القديمة موجودة ومستمرة حتى في تاريخنا الحاضر والحديث. وهم يبيعون الحرام بكل انواعه وكأنما تريد الرواية أن تبرر هذا الفعل، عندها يسأل شيخ القرية والدة الروائي «سعيدة» لماذا تفعل ذلك؟
ترد مجاوبة «نسوي شنو يا سيدنا، نحن زي ما إنت عارف، ناس على قدر حالنا، أنا والله بشتغل شُغل الجن، عشان قُوت العيال ديل، لمن النخل يشيل وينضج، بمشي أجمع التمر مع الناس، ولما يكون في عرس، والا وفاة، بمشي أساعد ناس العرس، او ناس البكا، عشان الرزق فيرد عليها الشيخ، يا سعيدة هل ستر الحال بالحرام؟ فالبداية في الرواية تلخص المضمون الذي يريده الكاتب، «الغاية تبرر الوسيلة» «الفقر والاضطهاد وعدم وجود الرجل العائل.» وهذا التبرير تحس بأنه يريده لكل فعل من أفعال هذا الوسط الذي أنتج بطل الرواية. وهذه القاعدة التبريرية «الحاجة تبرر كل فعل» فإن الرواية تآهت بين «القص، والحكي، والوصف» وهناك فرق كبير بينهما، بوصفهما استراتيجيات مختلفة للوعي الجماعي داخل النص كما يقول «جورج لوكاتس» وهذه العناصر الثلاثة، هي التي تجسد العنصر الاجتماعي للأدب. فرغم إن الكاتب خالد عويس «قد أراد للبطل أن يكون سلبياً، حتى في ذهابه مجنداً قسراً، واجباراً للجنوب، وبهذا أراد أن يكشف وبتقليدية مباشرة الجوانب اللإنسانية في المجتمع والسلطة التي تحكمه. وقد أخفقت الرواية في هذه الفكرة المضمونية الأولى والرئيسية لها، وهذا الدور الذي ألبسه، للراوي كان ناقصا، فيجب أن يكون زمان هذه الشخصية وفي مثل مواقفها هذه أن يكون متفتتا، ومتناثرا حتى تكون شخصيته معانية ومتشظية ومغتربة في كل مكان تكون فيه. فالراوي البطل، لم يكن كذلك، رغم رجوعه المفاجيء والمبتور بين حين وآخر إلى مشاركته القسرية في حرب الجنوب. وكأنه كان مجبرا على القتل وإراقة الدماء ودوره ايضا سلبيا وضد أعراف المجتمع في المكان الذي نشأ وترعرع فيه «شمال السودان» وكان همه الأكبر هو إرضاء شهوته الجسدية ورغبته النفسية الكامنة وهي مضاجعة فتيات القرية من غير طبقته الاجتماعية. وهو عندما يذهب إلى الجنوب يتقمص الطبقة الاخرى التي تضطهده ويصف فتياتها «بالفتيات السود» في حديثه اللاشعوري العادي. وهي شخصية المؤلف التي لم يتخلص منها رغم إدعائه ذلك. والراوي لاشتهاره بالفحولة «تقليداً لمصطفى سعيد» أصبح آلة جنسية مسخرة في المجتمع الذي يعيش فيه وفي غيره. إما إنتقاما سلطويا، أو إشباعا للذة جنسية غائبة ومحرومة. يقول الراوي متداعيا في لحظات نادرة «هي المرة الأولى التي يجرب فيها إمرأة من العالم الآخر الذي لا ينتمي إليه، العالم الذي يشعر أنه لو دنا منه، فسيجعله كله أُنثى ليكون هو الذكر إلى أقصى درجة». وكان يمكن للكاتب أن يجعل من البطل شخصية توازي شخصية مصطفى سعيد، لو جعله يستمر في تداعياته الحيوانية المبرمجة. بعيدا عن الاحساس بالدونية والقهرة. والبطل «ساتي» لم يستطع أن يعبر عن خلجاته العميقة وآلامه الدفينة كنموذج للشخصية المضطهدة والمقهورة. وهو فنيا وأسلوبيا لا يستطيع ذلك، لانها شخصية جاهلة ومحرومة من العلم والمعرفة، وهذه من أكبر أخطاء الرواية، فهي شخصية غير واعية بما حولها، رغم إن الكاتب أراد أن يفرض عليها لغة خاصة أكبر منها، ومن مستواها، فلم تستطع أن تعبر عن الآخرين ايضا، لذلك كانت أغلب الأصوات الروائية الاخرى ضعيفة والشخصيات مسطحة، سرعان ما ينساها المتلقي سريعا، ولا يتذكرها الا على الورق، وهي شخصيات عادية، أقحمها الكاتب حتى يملأ الفراغ الحدثي والفراغ اللغوي. مثل «عم يحيى العميان الذي لا يفارق المسيد ويعيش على حسنات وصدقات الآخرين» و«عم إسماعيل، صاحب الدكان الذي يثرثر ويحكي عن فضائح أهل القرية الجنسية»، وشخصية «عمران الحلبي» واسطفيانوس المسيحي، وود أم بشاير العربي، وهي شخصيات تقول البذاءة في أشبع مفرداتها وجملها، دون تبرير او حاجة. وهي شخصيات تدين نفسها، وليس المكان الذي اواها وضمها. أما الراوي نفسه والذي يمثل عماد الرواية، فنحن لا نعرف عنه غير البيئة التي ولد فيها وعن والدته التي تبيع الحرام بكل أنواعه، والرجل الذي ذهب ليقاتل في الجنوب، كان يستمتع ويتلصص على أُمه وهي تتأوه باللذة مع الآخرين. وبطاقته الشخصية ناقصة، لا نعرف شكله ولا هيئته، ولا نستطيع أن نتمثله أمامنا، عمره وتكوينه النفسي والجسدي. فالقراءة البصرية لكل الشخصيات في الرواية ناقصة وهو خلل كبير، وجد كبير، خاصة إذا أردت أن تميز الوجود العنصري في المجتمع والذي هو أساس المشكلة كما يعتقد الكاتب، أو كما يجب عليه ذلك. خاصة عندما يقول الراوي «مثلنا ومثلهم، ونحن وهم» ولم نعرف المعاناة التي جابهته في صغره وطفولته، وفي شبابه لا نعرف سوى فحولته ومقدرته الجنسية. وحياته العادية كبقية الفقراء من أهل المنطقة أنفسهم، والذين لم يسلكوا سُلوك اُسرته. وهو ما يصيب منطق النص بخلل كبير. لم يستطع الكاتب وحتى نهاية الرواية أن يعالجه. وهو دون أن يشعر كان يدين ذلك المجتمع الصغير الذي أراد أن يعتبره نموذجا لظلم الإنسان لاخيه الإنسان، ذلك المجتمع الذي خالف أعرآف وعقيدة وقانون المجتمع الذي عاش فيه وتشرب بثقافته وليس له دخل فيما حدث له من قبل. ورغم ما يفعل من قذارة فإن المجتمع لم يعاقبه وإنما كانت تعاقبه السلطة، والا ما هذا الوصف المسهب من الراوي لادق خصوصيات المجتمع وتراثه وثقافته؟ ماذا أراد الكاتب أن يقول؟ كيف يضطهد مجتمعا احد حاملي ثقافته وتراثه؟ كانت الرواية ستكون عميقة لو أثبت لنا الإضطهاد الذي كان يمارسه المجتمع على البطل ومن شابهه، وكانت تكون رواية تيار وعي لو ترك البطل يتداعى متألما ومتفتتا ومعانياً، وكل ذلك لم يحدث. فتاه السرد في الوصف المسهب والمترهل في طقوس الزواج، والمآتم والأعياد والأفراح. فجغرافية البطل الشخصية كانت عادية تجيد الوصف والتماهي مع ثقافة المكان، والإندماج فيها. كشخص أصيل في المكان وليس دخيلاً اوغريباً مضطهدا.
فالغريب والمضطهد والمعذب، لا يحسون بجماليات المكان، ولا بحركة شخصياته، ولا بثقافته، وأصالته. فبقدر ما تكون الروح معذبة، ومضطهدة تكون العين رمداء كليلة. والرؤية غبشاء. والكاتب قد تورط في هذه الشخصية، وهي تحتاج إلى درجة كبيرة من الخيال الموهوب وليس الأفكار السياسية والايديولوجية فقط. ذلك الذي يجعل الشخصية تحترق امامنا سردا موظفا واحداثا نبصرها امامنا تجعل الشخصية تتقلب في جمر المعاناة والإضطهاد، وعوضا عن نقص التخييل في النص، لجأ الكاتب للإسهاب والإطناب في الوصف لدرجة مملة ومكررة.
وهذه الأفكار والإدانة المسبقة التي كتب بها روايته جعلته يتخيل احكاما موهومة ومغلوطة حتى أن شارب الخمر تقطع يده من خلاف وهذا ما لا يحدث بديهيا. ولقد تعارضت ثقافة الكاتب مع ثقافة الراوي الذي من المفترض أن تكون جزءا من ثقافة المكان لذلك لجأ دون أن يحس ويشعر باستخدام كلمات وجمل السرد والشهادة السماعية «يقولون أن...» «ويحكون أن ...» و«سمعت أن ....» وخاصة عندما تأتي روايات أساطير الجن والشياطين والأماكن المسكونة. وهي مطبات سردية وقعت فيها كثير من الروايات السودانية. «تعارض الاسُطورة مع عقلية الكاتب وثقافته العملية او فكرته الايديولوجية» وكل هذه المعلومات الثقافية عن المجتمع النوبي الذي تعيش وسطه شخصية البطل «ساتي» واُسرته كانت هي القشرة الخارجية لذلك المجتمع والتي لم يستطع الكاتب كسرها والدخول في فجوات الواقع الحقيقية، لانها كانت كتابة ذاكرة، يريد أن يوظفها سياسياً وليس فنياً. وهي ذاكرة بعيدة، لطفولة قد تكون بعيدة، وهي كانت حشوا سرديا يريد ان يعوض به نقصان الاحداث المتسلسلة داخل الرواية. والإبداع من الذاكرة يجعل من الأدب تكرارا، وتبعية، لقضايا وموضوعات قد سبق تناولها، فالتجربة الذاتية، ببساطة كما يقول النقد الحديث، هي الزمان، والمكان، فالمكان هو جسد المبدع، الذي ينتمي إلى جسد طبيعي وكوني خاص، يخلق علاقة عضوية معه، وحركة الجسد في المكان، هي تجسيد لعمر المبدع، وهي زمانه الخاص، مثلما تصنع حركة الشمس مع الأرض زماننا الموضوعي الذي يتموضع في ظلال الكائنات. والخيال وحده، والذي ذكرته من قبل، هو القادر على إقامة تلك العلاقة بين المكان العام «البيئة أو الفضاء الجغرافي» والمكان الخاص «الجسد» وبين الزمان العام «التاريخ» والزمان الخاص «عمر المبدع وحركته الزمكانية» وتظهر قوة الإبداع، بين العلاقة الحوارية التي بين «الجسد» وهو الشخص المبدع، وبين المكان، والأرض، والطقس، الذي يعيش فيه. والثقافة التي أخذها منه، والأدب الذي يتخذ من المكان موضوعاً، يجب أن يضيف للتراث الانساني والقومي أبعادا لم يكن من المتاح التعرف عليها، لان المكان طبيعة صامتة، وهو يكون محفورا في وجدان المبدع، هكذا جاءت تجليات الطيب صالح وماركيز، ووليم فولكنر، وجون شتاينبيك، ونجيب محفوظ حول المكان.ومعهم عرفنا دروبا وآليات سردية تعبر عن هذا التداخل، والجدل بين الفردي والكلي، بين الشخصي والتاريخي. لذلك كان «الزين» في عرس الزين» جزءا من المكان وثقافته تعايش معه واحترم أعرافه وتقاليده، رغم تفلتاته العفوية، والمغفورة من المجتمع حوله، لذلك كافأهُ وزوجه أجمل بناته «النعمة».
وإذا كان ضعف الحدث داخل رواية «كِياح» لم يعوضه الكاتب بقوة الشخصية، وتجذرها، او بإنهيارها التام نتيجة لهذا الإضطهاد الذي لمح به الكاتب ولم يستطع اثباته، لان الإضطهاد هو قول وإساءة او تصرف وعمل قد يكون طردا او حرمانا من الحقوق الانسانية المتعارف عليها. وليس الحق في مخالفة قوانين المجتمع وأعرآفه. ولم يجد الكاتب بعد الإسهاب في الوصف الكلامي والشفاهي للبطل، واسترجاع بعض الذاكرة عن الحرب التي إشترك فيها مرغما، لم يجد غير تكرار المشاهد الجنسية المتبذلة، حتى يكون تعويضا وتحفيزا للمتلقي للمواصلة وتكملة الرواية حتى الآخر، عشما في ان يجد بين عدة صفحات وأخرى مشهدا جنسيا مثيرا، وهو تحفيز رخيص وساذج لم يعد يجدي موقعا في الروايات الحديثة الجادة، وهو ايضا تقليد ساذج لعلاء الاسواني في رواياته والتي لم تجد ترحيبا حتى الآن في النقد الروائي الجاد والرصين، والتي لم يرحب بها الغرب الا ليقول هذه هي المجتمعات التي تدعي المحافظة والاخلاق انها تبطن خلاف ما تظهر. وقد اخذ للأسف كثير من الاُدباء العرب والمسلمين، يستجدون الغرب ويتقربون إليه ويبتغون الشهرة بمثل هذه الكتابات الرخيصة والساذجة.
والكتابة المستجدية لا تخلق أدباً رصيناً، وكما قال الكاتب الصيني «جاو اكسينجا جيان» الذي نال جائزة نوبل للعام 2000م والذي يعارض الحكم في بلاده ويعيش في فرنسا «إنني لا أكتب لاستجدي الغرب لأنال شهره،أوالجوائز، بل أكتب لروح بلادي، وثقافتها العظيمة فالسلطة زائلة، والصين هي الباقية. فاذا كان النظام قد حاربني وطردني فأن الصين لم تفعل ذلك فهي موجودة في أعماقي إلى الأبد. واذا كنت أكتب عن الظلم والحرمان والإضطهاد فلأنه موجود في كل زمان وكل مكان إنني أكتب دون وصاية من احد ودون اخصاء للذات، ودون تقريرية».
والنقد لا يحاكم النص، ولا كاتبه، محاكمة أخلاقية، او دينية، وانما يحاكم النص اسلوبيا، وشكليا، وفنيا، ومضمونيا، وله الحق أن يقول بأن الاسلوب هو الرجل، وأن هناك إسقاطات نفسية فيه، وأن نعيش مخيال الكاتب، والترهل والزوائد السردية، والجنس اذا لم يوظف في الكتابة، يصبح عبئا على النص، ومحسوبا على كاتبه في ما قلناه سابقا. وأسهل أنواع الكتابة هي كتابة المشاهد الجنسية الصارخة والحوارات البذئية الفاحشة، واصعبها الدخول في أعماق النفوس لاستخراج الدوافع والاغراض والامراض والحرمان، لذلك كانت اضعف الروايات السودانية والعربية هي التي يوظفها «الجنس والتاريخ والايديولوجيا»، ولا توظفهم.
واذا اعتقد البعض بأن «بنت مجذوب» في رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» كانت تتباذى وتتفاحش من أجل الإثارة الرخيصة، او الثرثرة الفارغة، فانه لم يتعمق جيدا في النص، فبنت مجذوب، كانت تمثل بحكم تجاربها وسنها وهي تجارب مشروعة مع أزواج وزيجات معلنة، كانت تمثل الخبرة الانثوية، ذات التجارب المتعددة، وهي فوق كل ذلك أراد بها الطيب صالح، أن تكون مثالاً للمجتمع المتسامح الذي يبحث عن الحكمة حتى من أفواه النساء، وهي فوق ذاك، كانت تستغل حكمتها وقوة شخصيتها، وهي تتصرف التصرف الصحيح عند انتحار زوجة مصطفى سعيد وقتلها لزوجها ود الريس، فقد كانت تستعيد بالله من ما وقع على القرية المستورة الحال، وكانت توقظ الرجال لستر الجنائز، وتمنع النساء من الدخول لمشاهدة مناظر الدماء والعنف، فقد هيأت القرية كلها لتلقي هذا الحدث الجلل. فقد كانت تمارس الثقافة المكانية فعلاً وليس شفاهة وقولاً. وكانت عندما تروي ما حدث «للراوي» كانت متألمة بآكية رغم إنها من بقايا الرقيق فلم تكن مضطهدة، ولكنها كانت رقما في القرية حتى وسط أعتى الرجال.
كانت لغة الكاتب في هذه الرواية ذات الاسم الرائع «كِياح» كانت مهووسة «بالجنس» ومشتقاته اللفظية، رغم سرده الوصفي الجميل في بعض المواقف الانسانية البعيدة عن الجنس بألفاظه النابية، وهي من حيث لا يدري قد أحدثت فجوات كبيرة وعميقة في الإيقاع السردي والتعبيري، فقد كانت لغة الكاتب عاجزة في كثير من الاحيان في التعبير عن ما يريد قوله الراوي خاصة في استخدام ادوات الربط والاستطراد، والدخول في الموقف الجديد. وهذا ما يحاسبه عليه النقد.. وهذه الفجوات والألفاظ المصنوعة صنعا، هي التي عملت على شرح العملية السردية كلها، في صالح الإثارة الرخيصة للمتلقي. وهي ناتجة من سلطان ثقافة القاع الشفاهية في مجتمعاتنا، وهو ما لم يستطع الكاتب استيعابه جيدا في النسيج الحكائي والسردي للرواية. وهذه الشفاهية الزائدة في الرواية، والثرثرة الحوارية بين الأشخاص، هي التي حرمت بطل الرواية «ساتي» من أن يسرد معاناته وتوتره، وتاريخ الظلم الاجتماعي لطبقته، وهي فكرة الرواية الرئيسية، مما جعل قراءة المتلقي لكل الشخصيات هي قراءة بصرية وسماعية وظاهرية سطحية.
واذا كانت الرواية قد كتبت بتقنية الواقعية القذرة، وهي مدرسة ظهرت حديثاً في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث توجد كثير من الأقليات المظلومة والمضطهدة وليست من اساسيات هذه المدرسة طرح المشاهد الجنسية للشخصيات المضطهدة والمهمشة، بكل توابعها وألفاظها، وانما تعنى قبل كل شيء الحفر والدخول في فجوات هذه المجتمعات التي توجد في قيعان المدن، لاستخراج النماذج الانسانية، والثقافات المنسية، ثم مقارنتها بالشخصيات، المسطحة في المدن المزيفة والذين قد يشكلون مجتمعا واحدا وفي مدينة واحدة.
لقداستغل الكاتب وجوده خارج الوطن فتحرر من الرقيب الداخلي والخارجي، مبررا كما جاء في مقدمة روايته، إن هذه الكتابة «للذين تجرعوا العذاب، وأدميت أرواحهم، وخدش نقاءهم وانسانيتهم»، وقطعا فهو ليس واحدا منهم لذلك كانت كتابته عنهم مصنوعة تفتقد الصدق الفني والصدق الواقعي، وقد كانت ادانة لمن كان يريد ان يدافع عنهم. لان الفقر ليس دافعا ومبررا لمخالفة القانون وأعراف المجتمع.
لقد درج بعض كتاب الاغتراب، والذين يملكون امكانية النشر والماضي الايديولوجي وحدهما، ان يتحفوننا سنوياً بزياراتهم، يحتفي بهم السياسيون يميناً ويساراً، لنكتشف بأن اغلبهم وخاصة في مجال النقد، بأنهم كانوا بالونات نفختها السياسة والايديولوجيا، وعندما طارت بعيدا تبددت هباءً منثورا. وإكتشفنا فعلاً لماذا كانت الأعمال الرائعة والعظيمة في السبعينات والثمانينات لم تجد حظها في الدراسة والنقد، لان الذي يغذيه الحقد الثقافي لا يمكن أن يرفع كاتبا. ونقول دائما بأن اي حكومة في الدنيا، او معارضة او ايديويوجيا، لا تستطيع أن تصنع كاتبا، والكاتب المصنوع تنتهي صلاحيته عاجلاً او آجلا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.