اصبحت الرواية في هذا العصر باعتبارها جنسا سرديا مميزا مفتوحة على كل المعارف والاجناس الادبية الاخرى، من شعر ومسرح ودراما وسينما فابوابها مفتوحة لتدخل هذه الاجناس بهدوء، بشرط ألا تطغى على فنيات وتقنياتها المعروفة. واصبح علم السرد او ال Narratologie منهجا لفهم الماضي وقراءة الحاضر. والرواية هي كتاب المجتمع الذي ينكتب فيه سرديا. لأن الكاتب والروائي بخاصة هو عضو مميز في هذا المجتمع. وإذا كانت الرواية في بداياتها قد كانت على الهامش مع الاجناس الادبية الاخرى، لانها كانت خيالا بعيدا عن الواقع، اي بعيدا عن المجتمع وثقافته وقضاياه ومشاكله. ولكن الروائيين العظام في التاريخ الادبي وصفهم أديبنا الطيب صالح بأنهم الذين جعلوا الرواية تتقدم في المركز الادبي، بعد ان كانت على الهامش، بل تتقدم على كثير من المجالات المعرفية الاخرى. او كما قال الشكلاني الروسي «باختين» «ان الرواية تمثل المعنى العميق للجدلية الاجتماعية» او كما يقول الدكتور جابر عصفور في كتابه «زمن الرواية» «يبدو ان خاصية الافق المفتوح التي انطوت عليها الرواية منذ البداية على مستوى التشكل والتحول، ومن منظور العلاقة بغيرها من الانواع، هي الخاصية التي جعلتها ارهف من غيرها في التقاط النبرة المتغيرة لتعقد الازمنة المتحولة لعصرنا، فحملت دائما هاجس التغير والتحول بوصفه الحامل والمحمول في علاقات بنائها. وظل هذا الهاجس موضوعها الذي لم تكف عن التهوس به على مستوى الرؤية وحلمها الذي لم يفارقها على مستوى البناء». ويمكن أن نقول إن الطيب صالح واحد من الروائيين القلائل الذين جعلوا الرواية تنفتح من مجتمع صغير على شاطئ النيل على الكون الانساني الكبير، فقد جعل منها صيغة معرفية ضرورية لمعرفة الحياد في جوانب عديدة ومتعددة، وأثبت الطيب صالح في كل رواياته ومشروعه السردي الضخم، أن الانسان في اي مجتمع صغير منسي يمكن أن يثري ويكون جزءا من الثقافة الانسانية الكونية، وجزءا سيخلده التاريخ الانساني المعرفي ابدا. بمعنى ان الرواية عند الطيب صالح تنفتح على الإنسانية التي لا يحدها مجتمع ولا حدود جغرافية ولا عرق عنصري. وهو يؤكد مقولة أن العالمية تنطلق من المحلية المتجذرة ثقافيا مهما كان ضيق المكان الذي أتى منه. وبرواياته جعل من القص والسرد مثل الروائيين الكبار الذين خلدهم التاريخ، جعله سبيلنا الذي نعقل به الاشياء في الحياة التي لا تتبع المنطق العلمي بقدرما تتبع منطق القص والسرد. ومعروف أن المنطق العلمي لا يحكم حتى التفسير التاريخي، لأن هذا التفسير التاريخي يتبع ايضا منطق السرد والقص. وهؤلاء الروائيون الكبار ونتشرف ان يكون اديبنا الطيب صالح واحدا منهم، هم الذين جعلوا من الرواية ملتقى الاجناس الادبية المختلفة الذي تتحاور فيه وبه، جعلوا منها روايات مواقف، ولغات واصوات مختلفة. وخصوصية الرواية عند الطيب صالح تأتي من خصوصية شخصياته التي لا تتكرر. وكما قال أرسطو «ان الشخصية تعطينا صفات ولكن سعادتنا او شقاءنا ينحصران في الاعمال التي نقوم بها» فالسعادة والشقاء والبؤس تتخذ دائما افعالا تؤكد ذلك، والروائي العظيم هو الذي يجعل شخصياته تفعل البؤس أو تفعل السعادة كما عند شخصيات الطيب صالح، فمصطفى سعيد كان يمثل قمة الحزن بأفعاله، والزين يمثل قمة السعادة بأفعاله. وهي ليست سعادة مطلقة ولا حزن مطلق مما يجعلهما شخصيتين انسانيتين عميقتين وخالدتين. وهذه الشخصيات «الزين ومصطفى سعيد» هما اللذان يطرحان عدة اسئلة لعدة اجابات، وهي اسئلة لا تنتهي ولا تنفد. لماذا فعل مصطفى سعيد ما فعل؟ وما الذي جعل نساء لندن يتكالبن عليه لدرجة الموت والانتحار؟ وهو المثقف الذي يعرف ثقافة المكان اكثر من اهله؟ ولماذا اختار اقصى الشمال ليعيش فيه؟ وكان يمكن ان تبتلعه الخرطوم ولا يدري به أحد؟ ولماذا ولماذا؟ وهي أسئلة يمكن ان تبقى الى الابد، بل هي اسئلة قابلة للتوالد والتناسل. وما ينطبق على مصطفى سعيد ينطبق على شخصية الزين، ما الذي وجدته نعمة فيه لتختاره وحده، وهو لم يطلبها ولم يخترها، بل كان اعجابه بها خافتا وليس صريحا كما يفعل مع الاخريات. ولماذا كان الزين يستكين لشخصية الحنين، ويكره امام المسجد وكلاهما رجل دين؟ وما الذي وجده الحنين في الزين وهو لا يؤدي شعائر الدين، وهو شخصية متحررة ومنطلقة؟ وهذا ما يعني أن تميز وعمق الرواية وخصوصيتها عند الطيب صالح تأتي من هذه الاسئلة المنداحة والمنفتحة. والرواية التي تطرح الاسئلة هي الرواية والكتابة التي تبقى وتدوم، بمعنى ان نصوصه مغلقة وصامتة، ولكنها نصوصا فاعلة وناطقة، وقابلة للاستنطاق. ومن بين هذه الاسئلة التي مازالت دائرة وستدور ابدا، هل كتب الطيب صالح سيرته الذاتية في «موسم الهجرة الى الشمال»؟ وهل هو مصطفى سعيد؟ ام هو الراوي؟ فإن كان هو الراوي فهو قطعا يعرف مصطفى سعيد شخصيا، بمعنى انها شخصية حية وواقعية، اي انه يكتب سيرة غيرية يعرف خصوصيات صاحبها واسرارها. واذا لم تكن كذلك فهي شخصية ايضا قابلة لان تكون واقعية، وما فعله الطيب صالح هو انه اضاف اليها بهار السرد وخيال المبدع واللغة الشعرية. ومهما كانت رواية «موسم الهجرة الى الشمال» سيرة ذاتية ام سيرة غيرية فإنها بكل المقاييس هي رواية ادبية وليست فيها شروط وقوانين وقواعد رواية السيرة الذاتية. ولا يضيف لرواية «موسم الهجرة الى الشمال» ان تكون سيرة غيرية ام ذاتية، بقدرما انها شخصية رواية. فيها كل شروط وما فوق شروط الرواية الادبية، وفيها كل الاجناس السردية الادبية الاخرى. وشخصية مصطفى سعيد يحق لها ان تخلد في عمل روائي، سواء أكانت حقيقية ام غير حقيقية، ولا يستطيع كاتب عادي او روائي مغمور أن ينقل حتى في الواقع الحقيقي الشخصية التي يمكن أن تخلد وتدوم وتبقى. واذا كانت رواية موسم الهجرة الى الشمال رواية ذاتية ام غيرية الأمر الذي يتخذه البعض قدحا في مقدرة الطيب صالح التخييلية، فمعنى ذلك أن شخصيات مثل شخصية الزين هي شخصيات منقولة بواقعية تسجيلية من الواقع السوداني او البيئة الشمالية. وصحيح أن نموذج الزين موجود في الريف وحتى في المدن الصغيرة في السودان، ولكن يحتاج الى مقدرة سردية وتقنية روائية عالية، كما فعل الطيب صالح في «عرس الزين» وكما فعل فيكتور هوجو في «أحدب نوتردام»، وجيمس جويس في «صورة للفنان شاباً» وهذه الروايات العظيمة لا يستطع احد ان يقول بأنها ضعيفة، لانها تنقل شخصيات واقعية اقرب للكاتب او اقرب لاشخاص حوله. وحتى الكاتب الفرنسي الكبير سارتر قد ذكر صراحةً وهو ينشر جانباً من سيرته الذاتية بعنوان «الكلمات» «لقد حان الوقت لكي اقول الحقيقة، اخيرا، لكن لا يمكن ان اقولها الا في عمل تخييلي» ولكنه يستطرد ويقول «سيكون هذا التخييل رهيفا جدا لاني سأبدع شخصية يمكن للقارئ ان يقول عنها هذا الإنسان الذي يتعلق به الامر هو سارتر»، وذلك هو ما يقصده الفن الروائي وهو ابداع شخصية حية، سواء أكانت حقيقية ام غير حقيقية، فلا يؤثر في الكاتب والروائي أن يكتب الروائي ذاته، او ذات غيره، ولا يهم أن نعرف من هو مصطفى سعيد؟ اوالزين، او انيس في «ثرثرة فوق النيل»، او..او، بقدر ما يهمنا هل اضاف الطيب صالح ونجيب محفوظ، وجيمس جويس وفوكلنر وغيرهم من عظماء الرواية، هل اضافوا للقارئ والمتلقي من هذه الشخصيات خبرة معرفية جديدة؟ وخبرة مغايرة، لذات متميزة فاعلة وحية، شريرة كانت أم خيرة، هل اضافت موقفا من المواقف الإنسانية؟ فشخصية مصطفى سعيد شخصية متميزة ونتعاطف معها او ضدها. وشخصية الزين شخصية متميزة نضحك منها، او نضحك عليها. فالذات القارئة لروايات الطيب صالح هي ذات تقارن، وهي ذات تدري بوعي مشترك ما بينها وشخصيات الطيب صالح، ولا يسأل القارئ وهو يقرأ النصوص من هي هذه الشخصيات في الواقع؟ وما علاقتها بالكاتب؟ طالما انها شخصيات داخل الدائرة الانسانية العميقة والمميزة. بل ان قوة الشخصية وتميزها في الرواية القوية والخالدة تأتي من أن المتلقي ربما يكون قد مرَّ على المواقف التي مرت بها هذه الشخصيات، بل قد تكون شخصيات قريبة منه ولكنه لا يستطيع ان يقف ليتذكرها ويتأملها ويكتب عنها ويعرِّيها كما يفعل الروائي المقتدر متخطيا كل الرقابة والخطوط الحمراء. فروايات الطيب صالح هي التي تقدم الشخصية مكشوفة وعادية، ولكنها اكثر ظهورا وبروزا وانسانية. وهناك ثالوث قوي في روايات الطيب صالح، هو الذات الكاتبة والذات المكتوبة والذات القارئة المتلقية، يشكلون دائرة متحركة من المعرفة تصل كل واحد بالآخر، فالذات الكاتبة ليست منفصلة عن الذات المكتوبة، فهي تعرفها وتعرف ثقافتها ومكانها وخليفتها وتأثرها وتأثيرها خيالا كانت أم حقيقة. وعلاقة الكاتب او الذات الكاتبة بالذات المتلقية هي علاقة معرفة ولغة إنسانية مشتركة منفعلة بالموقف الإنساني الذي يصيغه ويتحدث عنه. وعلاقة الذات القارئة بالشخصية المكتوبة هي علاقة وضوح وكشف ومواقف انسانية موجودة في الحياة اختلف القارئ معها ام اختلف. ومقدرة الروائي الطيب صالح تأتي من أنه استطاع أن يجمع في رواياته بين فن التحقيق Faction وفن التخييل Fiction وهذا التحقيق يعني انها قابلة ان تكون واقعية وحقيقية، وليست منبتة الجذور ولا تعيش في جزر معزولة. وقوة التخييل تعني أن هذه الشخصيات لا يمكن أن تكون قد تركها الطيب صالح لقانون المصادفة ولعبة القدر، وما يدل على قوة التخييل Fiction عند الطيب صالح هو اللغة التي كتب بها الطيب صالح رواياته، فقد كتب بلغة التحقيق ولغة التخييل، بحيث كانت لغته واقعية وسهلة ولكنها عميقة، ففيها من لغة التحقيق وظيفة الإشارة والمباشرة، وفيها من لغة التخييل الانفعال والشعرية «الميتا لغة». وروايات الطيب صالح لا تقف في منطقة التماس بين رواية السيرة الذاتية والرواية الأدبية، كما تقف رواية طه حسين «الأيام» في خط التماس حتى الآن، او كما تقف اعترافات جان جاك روسو وآلام فرتر لجوته، ولكنها روايات دخلت الدائرة الادبية بجدارة، ففيها كل الاجناس الادبية ومن بينها السيرة الغيرية أو الذاتية، ولكن فيها كل خصائص الرواية الحديثة والقديمة، وفيها خصائص نادرة ستحتاج دوماً لمن يدرسها ويكشفها، بل ستصبح إطاراً مرجعياً لمن اراد ان يقلدها او يكتشف ويجرب ويستحدث.