لعلنا وقد وصلنا إلى هذه الوضعية التي لا نحسد عليها، بعد ذهاب جزء عزيز من الوطن، ينبغي العمل من أجل الحفاظ على ما تبقى منه، بينما الطموحين منا، وهم على حق في ذلك، لا يرون بأسا من محاولة استعادة الوحدة، ولو بعد حين، لكن وفي كل الظروف، علينا أن نقنع في الوقت الحالي بالحفاظ على علاقة طيبة مع الأشقاء في الجنوب، وألا ننسى الفضل بيننا كأخوة عاشوا طوال قرون على ذات الرقعة الجغرافية.. وفي الجانب العملي، ومن باب المصالح، يبقى السلام بين شقي الوطن هو الأمر الضروري، وهو يقتضي من الجانبين جهدا متصلا لحلحلة مصاعب جمة بما في ذلك ابيي والحدود والجنسية والديون والنفط، وطائفة واسعة من الشؤون التي تبرز بين وقت وآخر.. ومع ذلك فهناك من يحاول ترسيخ نوع من العداوة مع الجنوب، ولا يهمهم أن يذهب الجنوب إلى الجحيم بعد الانفصال، لكنهم، وبافتقار شديد للحكمة، يتجاوزون الروابط والمصالح التي يفترض وجودها بين مجرد جارين، دعك من شعب واحد باعدت الظروف بين ابنائه.. فالترويج قبل أيام لڤيديو يحوي مشاهد لحرق البشر بدعوى أنه حدث في السودان يفيد أن هناك من يسعى إلى توريطنا في مثل هذه الفظائع دون أن يطرف له جفن، بل هو فرح بفعلته التي اعتقد أنها سبق صحفي بل وفتح إعلامي مبين .. إنه تدبير يعكس قدراً كبيراً من الحقد والكراهية على بني جلدتنا في الجنوب حتى بعد انفصالهم تلاحقهم لعنات مريضي النفوس، ولا ندري الوجهة الجديدة لهؤلاء بعد أن تتآكل أطراف السودان الواحد تلو الآخر.. ويتطلب الأمر معالجة عميقة تتيح اعادة العافية إلى هذا الوطن المكلوم والمتوجس من تداعيات فاجعة الانفصال و مآلاتها الغامضة المخيفة، خصوصا مع وجود أناس توفرت لديهم كل أسباب الممارسات السلبية غير الانسانية، وفي جو سياسي موات لكل ما يتيح لهم نفث سمومهم ، حتى وإن كان ذلك من خلال استغلال ظروف موضوعية تتمثل، في جانب منها، في عدم الالمام بتقنيات العصر ومستحدثاته لتمرير مثل هذه المشاهد المؤسفة على الجماهير وشحن نفوسها بالكراهية والتعصب ضد الجنوبيين.. لقد أثبتت الوقائع أن الشريط الذي روج له البعض ، ليس جديدا وهو موجود منذ العام 2009 في موقع اليوتيوب، ويتضمن مشاهد لحرق بشر، وهم احياء، في رواندا أو نيجيريا، لكن المروجين للشريط في اصداره الجديد بالسودان حاولوا استغلال المسألة ليزعموا أنها حدثت في جنوب السودان في عامنا الجاري، وادعوا أن الحركة الشعبية تحرق مواطنين جنوبيين حاولوا العودة إلى الشمال، وسرعان ما كشف المتابعون للأمر الخدعة.. لقد تتابعت طوال سنوات عديدة مثل هذه الأعمال ليس على شكل فبركة أشرطة ڤيديو فقط، ولكن من خلال الكثير من الكتابات والتصريحات، وقد أدى تراكمها إلى الاسهام في هذه القطيعة المقيتة مع الجنوب، وذهاب جزء عزيز من الوطن، لأن البعض لا يريد أن يكون الجنوبيون ضمن هذه التشكيلة المتميزة لشعبنا السوداني، وتلقف آخرون في الجنوب الدعوة وعملوا على تمتينها والبناء عليها، ولم يكتف اولئك النفر في الشمال بمجرد الانفصال بل أرادوها قطيعة نهائية من خلال صب المزيد من الزيت على النار، ولا بأس من حرب لتتويج جهدهم بحالة دائمة من العداء.. وينبغي على الذين دبروا لهذه المسألة، بعد افتضاح أمرهم، أن تكون لديهم الشجاعة الكافية للاعتذار لشعب السودان في الشمال والجنوب، هذا على الأقل، فما قاموا به لا يمكن تصنيفه ضمن دور الإعلام في التثقيف والتوعية والتنوير، وإنما في مربع التجهيل والتضليل والصيد في الماء العكر.. ** وفي محاولات احداث المزيد من التباعد بين ابناء الشعب السوداني في الجنوب والشمال، اثيرت مسألة أوضاع الدستوريين وغيرهم من الجنوبيين في حكومة الشمال حيث يرى الاقصائيون ضرورة مغادرتهم فور اعلان نتيجة الاستفتاء، ذلك على الرغم من الضرورات التي قد تستوجب بقاء بعضهم، وعلى الرغم من وجود فترة انتقالية عمرها ستة أشهر.. وهم بذلك إنما يهيئون لبداية غير ودية مع الدولة الجديدة، في وقت يفترض فيه أن تكون هناك استهلالة طيبة للعلاقة يمكن البناء عليها من أجل مستقبل واعد إذا أحسنا استثمار ما بين ايدينا من معطيات ومن عناصر تجمع بين الجنوب والشمال.. فالسلام مع الجنوب مطلب استراتيجي لشقي السودان، وإلى جانب العلاقات الانسانية التي ينبغي أن تظل مستمرة، إن لم نقل، مزدهرة، فإن مصلحة الجانبين تستوجب تنسيقا لا يمكن أن يكون فاعلا في ظل البغض والتوتر، وقد سمعنا مؤخرا في المؤتمر الصحفي لنائب رئيس الجمهورية، حرصا على أهمية ديمومة السلام، وقبل ذلك أكد الرئيس البشير أن الجنوبيين سيظلون اخوة بعد انفصالهم و تعهد أيضا بتقديم كل عون يحتاجونه من الشمال، وقد جاء خطابه في جوبا قبل خمسة أيام من الاستفتاء ملبيا لتطلعات مناصري العيش في سلام في الجانبين، وهناك تصريحات مماثلة من رئيس الجنوب سلفاكير الذي أكد أنه لن يضم أبيي بقرار من جانب واحد، وأكد قدرته والبشير على حل المشكلة، وناشد المسيرية والدينكا أن يحافظوا على رباطة الجأش لحين التوصل إلى حل.. وفي الأفق المتفائل يعرب جنوبيون عن الأمل في تنسيق كامل في الشؤون الخارجية والدفاع، بينما تتردد مناقشات في الشمال والجنوب حول أفكار عن أشكال محتملة للارتباط مستقبلا بين الدولتين بما في ذلك الكونفدرالية.. ويبقى الأمر رهن ترسيخ مبادئ وأعراف الديموقراطية التي من شأنها تعزيز التوجهات الحميدة والسماح بظهورها وتبنيها للحفاظ على علاقة جيدة مع الجنوب، بل والانتقال بها إلى تعاون يثري ويعزز مقومات التواصل لديهما بطريقة يفيد منها الجانبان.. وإلا فإن غياب الأجواء الديموقراطية المواتية قد يسمح فقط بتردد الأصوات الاقصائية التي تمتعت بحرية في الحركة السياسية والاعلامية لتفرز هذا الوضع الذي نعايشه حاليا، فهؤلاء يتطلعون إلى قطيعة تامة مع الجنوب، ولا ندري الوجهة التي يطمحون إلى التواصل معها وقد رفضوا أبناء جلدتهم.. [email protected]