٭ كالعادة صدرت السياسات النقدية للعام الحالي من البنك المركزي وعلى نهج صياغتها في الاعوام الماضية حوت العديد من العبارات والوعود المكررة خلال العقدين الماضيين رغم اختلاف المؤشرات النقدية للقطاعين الداخلي والخارجي متمثلاً في فقدان ايرادات البترول وآثارها السلبية العديدة على ايرادات الموازنة العامة، وعلى ميزان المدفوعات بقدر كبير جعل الكثيرين من قيادات الطبقة الحاكمة يحذرون ويخيفون اهل السودان من سنوات عديدة عجاف قادمة عليهم ابتداءً من هذا العام..! ٭ السياسات النقدية الجديدة خيبت آمال معظم السودانيين الذين يهتمون بموسم صدورها السنوي رغم عدم الالتزام بها في مرات عديدة..! - فمثلاً كانوا يتوقعون ان تأتي هذه المرة مختلفة وموجهة بالارقام المحددة لتوفير التمويل لقطاعات الانتاج المباشر كالصناعة والزراعة والانتاج الحيواني بنفس القدر والمنهجية التي تعاملت بها بالتحديد الرقمي لشهادات الاستثمار حيث حددت لها «52%» خمسة وعشرين في المائة وللتمويل الاصغر الذي حددت له ايضاً «21%» إثنى عشر في المائة؟! - لان الواقع الفعلي الحالي ان معظم الموارد المتاحة في البنوك للتمويل تتجه نحو شراء شهادات الاستثمار وتمويل شراء العربات وهنالك قلة قليلة من البنوك تلتزم بتوفير التمويل الاصغر كاملاً في حدوده «21%» وآخر إحصائية نشرت بالصحف عن الاداء الفعلي الاجمالي للتمويل الاصغر في كافة موارد البنوك الوطنية والأجنبية كان في حدود أقل من «2%» اثنين في المائة للعام 0102م! ونأمل ان يكون الزخم الرسمي حول التمويل الاصغر خلال العامين الاخيرين قد رفع هذه النسبة! - بالتالي كان المتوقع ان تصدر السياسات النقدية هذا العام بأرقام محددة لتمويل القطاعات الانتاجية مثلاً ان تحدد ايضاً «21%» اثنى عشر في المائة للقطاع الزراعي ومثلها للقطاع الصناعي وأيضاً مثلها للانتاج الحيواني وكذلك للصادر بحيث تحدد حوالي «84%» من اجمالي موارد البنوك لتمويل وتحريك هذه القطاعات للاستهلاك المحلي والتجارة الداخلية والصادر. لان ذلك اذا ما حدث فعلياً فإنه يعني ان حوالي نصف موارد البنوك التمويلية قد وجهت فعلياً وحقيقياً نحو الانتاج مما يوفر السلع المحلية ويقلل من الاستيراد ويزيد من الصادرات. - كنت اتوقع لو بدأت السياسات النقدية بتقديم عرض فعلي وحقيقي لمعدلات اداء التمويل من كافة البنوك خلال عامي 0102 و1102م لكي يعرف اهل السودان كم من هذه الموارد استغل في شراء شهادات الاستثمار؟! وكم منها فعلاً ذهب لتمويل العربات والعقارات؟! وأيضاً كم منها ذهب لتمويل الزراعة والانتاج الحيواني والصناعي ولقطاع الخدمات بفروعه العديدة..؟! لان بداية السياسات بمثل هذا العرض توضح لاهل السودان الواقع الفعلي لتنفيذ السياسات النقدية للعام الماضي بحيث يعرف الجميع بالشفافية بالارقام موقف تنفيذ السياسات النقدية التي درج البنك المركزي على اعلانها في مطلع كل عام وسط زخم اعلامي لا نجده بتاتاً عند السؤال لمعرفة موقف تنفيذها.. ٭ موضوع تشجيع الادخار بالعملة المحلية كالعادة لم يجد أدنى اهتمام من ادارة السياسات النقدية لان ما يحدث الآن من معاملات الادخار بالعملة المحلية به نوع من التناقضات العجيبة، فمثلاًَ نجد أن معظم البنوك تعطي المودعين في حسابات الاستثمار ارباحا سنوية تتراوح بين «7% الى 01%» سبعة في المائة الى عشرة في المائة بينما هذه البنوك عندما تشتري شهادات الاستثمار تعود عليها بأرباح سنوية تتراوح بين «91% الى 12%» تسعة عشر في المائة الى واحد وعشرين في المائة مع ملاحظة ان متوسط معدل التضخم خلال العام الماضي رسمياً في حدود «32%» ثلاثة وعشرين في المائة. كما ان العملة المحلية فقدت ما يقارب «29%» اثنين وتسعين في المائة من قيمتها مقابل الدولار الاميركي والذي تحرك سعره في السوق الحر من حوالي «007،2» الى «000،5» الفين وسبعمائة جنيه الى خمسة آلاف جنيه «بالقديم» وبالتالي فإن المودعين بالعملة المحلية في البنوك فقدت ودائعهم بالعملة المحلية خلال العام الماضي «29%» اثنين وتسعين في المائة من قيمتها الحقيقية وقوتها الشرائية مقارنة بقيمتها في مطلع العام الماضي. ٭ ودون شك فإن اي مودع اذا ما قام بإجراء مقارنة بالارقام للقوة الشرائية لوديعته في مطلع العام الماضي بالنسبة لما حدث من ارتفاع في معظم اسعار مواد البناء خاصة المستوردة فإنه سوف يجد انها كانت سوف تشتري له ضعف الكميات التي سوف يشتريها بها اليوم بأرباحها، وتقريباً نفس المقارنة للعربات وخلافها من السلع المستوردة والمحلية.! بالتالي فإن الجنيه السوداني في ظل الانهيار الحالي لقيمته خاصة بعد ان وقع الفأس على الرأس بانفصال الجنوب و«جرسة» الطبقة الحاكمة على ضياع عائدات صادرات البترول خاصة في جانب بعض قيادات الادارة الاقتصادية الحالية والسابقة بشقيها «النقدي والمالي» والذين كان من المفترض عليهم حسب مسؤولياتهم الاستعداد لهذه المرحلة فلقد اصبح هذا الجنيه خطرا بالنسبة للاحتفاظ بالثروة وسوف يحاول معظم المودعين التخلص منه بشراء عملات أجنبية أو سلع مستوردة وهذا يعني المزيد من التدهور والانهيار للجنيه السوداني «المغلوب على امره». ٭ إذن المطلوب من الادارة الاقتصادية مجتمعة بشقيها النقدي والمالي التحرك السريع لانقاذ ما يمكن انقاذه من قيمة عملتنا الوطنية بالآتي:- ٭ أولاً: التوقف عن المكابرة والعناد والتمسك بالسياسات الفاشلة التي جربت من قبل والتوجه بسرعة حول تقييم الموقف الحالي لانهيار العملة الوطنية السودانية مقابل قيم كل العملات الاجنبية بمنهجية علمية وعملية وتوسيع قاعدة المشاركة في ذلك من خلال مجلس ادارة البنك المركزي وروافده من لجان فنية ان «وجدت».! ٭ ثانياً: أنا شخصياً أقترح التوجه كلياً وبصدق حسب الاستراتيجية القومية الشاملة نحو تطبيق حرية تداول النقد الاجنبي وتشجيع تحويلاته من الخارج بحيث تصرف لاصحابها بالنقد الاجنبي الذي حولت به وذلك لاعادة الثقة في التحويلات الخارجية والتي تقريباً اصبحت متوقفة نتيجة لاصرار السلطات النقدية على صرفها بالعملة المحلية لاصحابها، علما بأن احصائية رسمية صدرت في العام الماضي أن جملة تحويلات المغتربين بالخارج خلال عام 0102م بلغت «4،3» ثلاثة مليارات واربعمائة مليون دولار اميركي، ودون شك فإن مثل هذه التحويلات لن تصل للسودان مرة اخرى في ظل قرارات ومنشورات البنك المركزي الذي تؤدي الى ان يفقد المغترب نصف قيمة تحويله بالنقد الاجنبي عندما يقوم بتحويله عبر البنوك بالطرق الرسمية مقابل اذا ما حوله عبر آليات السوق الحر خارج النظام المصرفي وما اكثرها! كما يجب اعادة حرية تداول النقد الاجنبي عبر المصارف بحيث يتمكن المودعون بالنقد الاجنبي من صرف المبالغ التي يريدونها بالنقد الاجنبي دون عوائق مثل التي تحدث لهم حالياً بالاعتذار بعدم توفره في كثير من الاحيان، كما يجب التفكير الجاد من جانب البنك المركزي لجذب المزيد من التحويلات والودائع بالنقد الاجنبي من خلال تقليل بيروقراطية المنشورات العديدة حول النقد الاجنبي التي صدرت من البنك المركزي خلال العامين الاخيرين. ٭ ثالثاًَ: التوجه نحو اعادة فتح الاستيراد بدون تحويل «النل ڤاليو» بهدف تخفيف الطلب الداخلي على النقد الاجنبي وبهدف الاستفادة من مدخرات السودانيين بالخارج في تمويل الواردات لكافة انواع السلع خاصة الرأسمالية منها، ومدخلات الانتاج على ان تصحب هذا التوجه سياسات جديدة مالية بتخفيض ضريبة القيمة المضافة والرسوم الجمركية على الواردات بهدف تخفيض تكلفتها وتحريك الاقتصاد من حالة الكساد الحالية التي تعيش فيها البلاد وتخفيف المعاناة عن كاهل المواطنين بدلاً عن تخويفهم بالمزيد من زيادة المعاناة كما جاء في تصريحات بعض قيادات ادارة السياسات النقدية الذين وعدوهم بزيادة اسعار المواد البترولية بحجة سحب الدعم الوهمي عليه حالياً. ان التجارب السابقة للسماح بالاستيراد بدون تحويل أثبتت جداوها في توفير العديد من السلع وتحريك الانتاج من خلال توفير مدخلات الانتاج للقطاع الصناعي ولقطاعات الخدمات المتنوعة، وبالتالي توفير فرص عمل لمزيد من القوى العاملة. اتمنى ان يجد اقتراح اعادة الاستيراد بدون قيمة «النل ڤاليو» حظه من النقاش العميق داخل الادارة الاقتصادية بشقيها المالي والنقدي. ٭ رابعاً: ضرورة ثبات سياسات تحرير وحرية تداول النقد الاجنبي لفترة طويلة لا تقل عن خمس سنوات حتى يتمكن المستثمرون من التخطيط بموجبها، وبالتالي خلق نوع من الاستقرار لاطول فترة ممكنة بدلاً من حالات عدم الاستقرار في سياسات النقد الحالية خاصة بعد انفصال جنوب السودان. ٭ ان التمسك بالسياسات النقدية الحالية خاصة في مجال النقد الاجنبي سوف يؤدي للمزيد من الانهيار لقيمة الجنيه، وبالتالي سوف يعمل كل من لديه جنيه سوداني على التخلص منه بأسرع فرصة وتحويله لعملات أجنبية كمخزن للثروة؛ لانه لا يعقل ان يحتفظ شخص بعملة مبرئة للذمة تنهار قيمتها كل صباح لدرجة ان قيمتها قد تحركت خلال الفترة من ديسمبر 9891 من «21» جنيها مقابل الدولار لتصبح اليوم حوالي «000،5» جنيه «بالقديم» بزيادة بلغت حوالي «004» مرة ضعف سعره خلال حوالي «42» أربعة وعشرين عاماً، أو «000،04%» أربعين ألف في المائة بحيث فقد الجنيه السوداني حوالي «99%» تسعة وتسعين في المائة من قوته الشرائية مقابل الدولار، أو كما يقول البعض ان الجنيه السوداني اصبح «ببلاش»!! ٭ ارجو ان تتحرك القيادة العليا للبلاد من خلال أجهزتها الاقتصادية الفنية العديدة لانقاذ قيمة الجنيه السوداني وذلك حفاظاً على قيمة اصول البنوك والقوة الشرائية للمرتبات؛ لان معدلات الانهيار لو استمرت بهذه المعدلات سوف تؤدي لافرازات سلبية عديدة سياسياً وأمنياً واجتماعياً، وان المكابرة والصلف والتمسك بالسياسات المجربة الفاشلة سوف يؤدي للمزيد من الانهيارات. نواصل ان شاء الله في الحلقة القادمة