تأتي على أهل السودان ذكرى الإستقلال السابعة والخمسين من استعمار جثم على بلادهم قهراً وقسراً لفترة مماثلة منذ الغزو الإنجليزي بقيادة هربرت كتشنر الذي مثّل غزوه لدولة مستقلة وذات سيادة نوعاً من الهمجمية الاستعمارية التي شهدتها تلك الحقبة من التاريخ السياسي الإنساني الملأى بالمظالم، والتي طغت فيها الدول الأوربية دونما استثناء فاستغلت تقدمها التكنولوجي والثورة الصناعية في سوم بقية دول العالم في أفريقيا وآسيا وأمريكا أسوأ أشكال الطغيان والامتهان للكرامة الإنسانية والاحتقار للقيّم الوطنية؛ وعلى الرغم من المرارات التي صاحبت تلك الفترة الظلامية في تاريخ بلادنا التي قام فيها الإنجليز مع معاونيهم من المصريين بتغيير دستور بلادنا التي ظلت تحكم بالشريعة الإسلامية منذ قيام السلطنة الزرقاء في سنار عام 1504م مروراً بالغزو التركي في 1821م ثم فترة المهدية منذ 1885 وحتى 1899م دون إرادتنا ولا استفتائنا أو استشارتنا؛ وكان من الآثار السالبة على الوطن من ذلكم التخطيط الإنجليزي الماكر تقسيم البلاد وبذر الشقاق بين أبنائه فكانت نتيجته المتوقعة انفصال الجنوب في الخمس والخمسين سنة التالية التي كانت حروباً ودماءاً ودماراً. وحيث أن الأجداد الذين ابتلوا بالغزو الأجنبي في باكر تاريخنا السياسي قد أدوا الدور الوطني المطلوب بجدارة وبطولة فضحُّوا بالدماء الغالية، فاستشهد منهم في يوم واحد في موقعة كرري ما يفوق الأربعة وعشرين ألف شهداء في سبيل العقيدة والوطن، وتوّج الاستشهاد بقائد الدولة الخليفة عبدالله التعايشي وحكومته، الذين رفضوا الفرار من أرض المعركة عند تيقن الهزيمة حتى لا يصبحوا لاجئين في الأقطار يتكففون الناس، وحتى تظل قبورهم المنيرة في ظلامات جهل ذلك العصر نبراساً عزيزاً يثبت لأهلهم اليوم الكرامات وتنبئ بالشرف الباذخ والعزة القعساء التي كان يتحلى بها الأجداد. أما التحدي الماثل اليوم أمام الأحفاد فهو الإجابة على تساؤل ما حققنا وأنجزنا بعد مضى 57 عاماً على ذهاب الاستعمار الذي ظللنا نعلق عليه كل إخفاقاتنا وفشلنا وتنازعنا وتفرق كلمتنا؟ فالواقع أننا لا نستطيع بعد اليوم أن نركز على الاستعمار كسبب وجيه لإخفاقاتنا باعتبار أن الفترة التي أصبحنا فيها مستقلين تعادل التي كنا فيها مستعَمرين، ولذا فيتعين علينا إجراء جرد حساب لتحديد مسيرتنا وخارطة مسيرنا للمرحلة الخمسينية القادمة؛ فإذا ما نظرنا في السجلات الوطنية نجد الخطة الربع قرنية التي تخطط للمرحلة 2007-2031 وهي خطوة جريئة وجادة وجديرة بالتقدير، نقرأ في تفاصيلها مشاريع النهضة الزراعية التي أضحت حاضنة لبعض تفاصيلها وخاصة فيما يتعلق بالقطاع الزراعي، ولكن في ذات الوقت لا نجد بالمقابل نهضة صناعية وبالتالي يكون حالنا كمن صنع طائرة لتطير بجناح واحد وهو أمر لا يزال يعجز التكنولوجيا الحديثة؛ فالمعروف لدى خبراء وباحثي اقتصاديات التنمية أنه لا يمكن النهوض بالدخل القومي والناتج الاجمالي وتحقيق الطفرة الاقتصادية بالاكتفاء بتصدير الخامات الأولية دون التصنيع الزراعي، لأن مسألة الاعتماد على تصدير الخامات أصبحت لا تجدي كما أثبتت تجربة الدول النامية منذ الستينيات؛ ففضلاً عن الفاقد من القيمة المضافة الذي تخسره البلاد تخسر كذلك الأيدي العاملة التي يمكن أن توظّف في التصنيع المفقود. ولذا فإن الالتفات الى التصنيع الزراعي أصبح ضرورة وحتمية قومية؛ وهو أهم الأسباب لكي نبقي على الزراعة كأحد روافد الاقتصاد القومي والاستفادة من الكوادر الوطنية. وفي مجال الاقتصاد القومي الكلي ولتحقيق العدالة الاجتماعية الشاملة وفق النمط الاقتصادي الإسلامي فيتعين على البلاد العمل على إحداث شراكات اجتماعية في الشركات العامة التي تود الدولة إحالتها للقطاع الخاص وذلك عبر تحديد نسبة لا تقل عن 50% من الأسهم للمواطنين السودانيين، مع التأكيد على ألا يحوز شخص واحد أكثر من نسبة محددة حتى نتجنب الاحتكارات الضارة التي يعاني منها الاقتصاد الرأسمالي حالياً والتي أضحت تشيع الفساد في أجهزة الدولة وسياساتها، بل أصبحت هي دولة داخل الدولة، فنجم عنها انتشار الحقد والضغائن بين الفئات الضعيفة في تلك المجتمعات بحيث أصبحت هناك نسبة 1% من المواطنين يمتلكون حوالي 40% من الاقتصاد بينما لا تملك ال99% الغالبة سوى 60% وهنا تحدث الانتفاضات ويتفشى الحقد الطبقي وينتقل الداء القديم الذي أفنى الأمم من قبلنا، الحسد، فهذا ظلم يتعين على الدولة الوقوف ضده ونشر قيّم ومبادئ العدالة الاجتماعية وتحقيق الرعاية لكافة المواطنين وخاصة الضعفاء منهم. هناك تحدٍ وطني ماثل أمام إدارة الدولة يعكسه شعور بعض مواطني المناطق الطرفية بانعدام توازن التنمية والبنيات الأساسية، وهي مطالب مشروعة ومعقولة أكدت عليها مقررات التنمية المستدامة ومؤشرات الألفية التي شارك فيها السودان منذ عام 2000م بالأممالمتحدة، بيد أن المهم في هذه المرحلة الاقتناع لدى الجميع بأن حمل السلاح ضد الوطن هو أكثر الأساليب ضرراً وتدميراً للوطن ويدخل المتورطين فيه في قائمة الخيانة العظمى، لا سيما عندما يرتبط بالتعاون مع الأجنبي وتحريضه وتمويله لتمرير أجندته لإنتاج الاستعمار مجدداً، فلا توجد دولة في العالم تسمح لمواطنيها بأن يتسلحوا ويتمولوا من الأجنبي لكي يستأصلوا شأفة وجودها مهما كانت الذرائع، بل تقابل الدول المسئولة ذلك بالحسم الدفاعي والقانوني الرادع والناجز، وهنا تكمن أهمية تقوية أجهزة الأمن والدفاع الوطني والشعبي. ولكي يتحقق العدل الناجز فيتعين أن تتاح وسائل التعبير وأدوات العدالة المشروعة لكل متظلم أن يقدم مظلمته حزباً أو جماعة أو فرداً، وفي حالة عدم الاقتناع بالحلول المطروحة تتاح الفرصة في القوانين لإرتقاء أعلى درجات الإنصاف وصولاً للمحكمة العليا التي يلزم حكمها الدولة؛ كما يتعين على الدولة السعي في توسيع مواعين المشاركة السياسية والإدارية لمواطنيها والتعرف على تجارب الآخرين لا سيما الدول التي أصابت نجاحات مشهودة في هذا المضمار، وخاصة التجربة الهندية وأفريقياً التجربة الإتحادية النيجيرية. ففي الهند استطاعت الفيدرالية التي تشمل 35 ولاية، سبع منها تُدار مباشرة من المركز، أن تمتص النعرات الإقليمية والانفصالية، وعلماً بأن البلاد منذ استقلالها تجابه تحديات واقعية مع مواطنيها في الأصقاع النائية في بلاد بمساحة 8ر3 مليون كلم مربع، وتضم أكثر من مليار ومائتي مليون من البشر من ذوي النعرات والسحنات والديانات المختلفة، ولكنهم يتعايشون تحت مسمى وطني واحد جامع، ويحكمهم دستور يتيح لكل ولاية حكومة برئيس وزراء وحاكم منتخب ومجلساً تشريعياً، ولها وفق الدستور أن تتخذ من التشريعات ما يراه الناخبون في مصلحتهم. وتدار الأمور بالشفافية والحوكمة الراشدة التي يشارك فيها الجميع؛ ونعتقد أن بلادنا يمكن أن تفيد من تلك التجربة بما يناسبها كتراث انساني نأخذ منه وندَع. وعلى الرغم من التحديات والتحرشات الماثلة والتي لا نتوقع أن يتوقف عنها أعداء الأمة لأن ذلك هو واقع التاريخ الإنساني منذ عهد قابيل وهابيل الأخوين اللذين اقتتلا لإستدامة المطامع والتحرش الظالم، فلا يجب أن نشعر بالدونية والفشل طالما أننا نتحلى برؤيا رسالية واضحة المعالم، ونحقق قفزات معتبرة في مجال التعليم حيث توجد بالبلاد حوالي 70 جامعة خاصة وحكومية وكذا في مجال الصحة العامة وغيره، وتتوسع الممارسة الفيدرالية في ولايات نتمنى أن تتزايد أعدادها لتشاع التجربة الإدارية الولائية والمشاركة الديمقراطية في البناء الوطني مع ضرورة إعادة النظر في تقليص المصروفات الولائية لأدنى حد ممكن، وتحديد حجم الحكومات الولائية بحيث تتناسب عضويتها مع الموارد المتاحة لكل ولاية لتنطلق الكفاءات وتتقلص الظلال الإدارية التي كرّسها الحكم الاستعماري وظلت تحجب المواطن من نيل حقوقه بشفافية وكفاءة، وهذا هو التحدي الأكبر اليوم في التجربة السودانية. فبلادنا بعد الانفصال تظل بمساحة حوالي 2 مليون كلم مربع، وهي الثالثة أفريقياً بعد الجزائر والكنغو الديمقراطية، ولذا فهي بحاجة لإدارة تنفيذية مبدعة وشراكة فعالة؛ فإدارة البلاد لا تشمل البشر فقط كما يتوهم البعض، بل الموارد الطبيعية والحياة البرية والثروات الباطنية والظاهرية والبيئة والمناخ؛ وهذا أمر نرى أنه يتعين على أبنائها التفكر والنظر فيه وهم يحتفلون بحلول الذكرى العزيزة. في هذا المقام يجب أن نزجي التحية والتجلة لشهداء العقيدة والوطن الذين أضحت مجاهداتهم حياة أخرى، لا يموتون بعدها، ونحن مأمورون شرعاً بألا نحسب قتلهم موتاً بل عزّة نتنسم عبقها، ونحتفي بها عاماً بعد عام شكراً لله العلي القدير الذي حفظ السودان وأهله طارفاً وتليداً، وأن اختارنا على علم بين كافة أهل الأرض لنكون أمم سودانيين، فله الحمد والمِنّة على فضله الذي يؤتيه من يشاء من عباده وهو ذو الفضل العظيم. ٭ سفير السودان لدى الهند