«هذه إعادة نشر لقصاصات نشرت على الفيسبوك بناء على طلب من مجموعة من الشباب. وهي ليست رواية تاريخية للأحداث ولا ترمي إلى إيراد رؤية نقدية للشخصية المعنية، بل هي قصاصات كتبت ابتداء بنية إبراز ملاحظات إيجابية أو انطباعات ذاتية عن الشخص المذكور» شارع الدومة شارع مشهور بود نوباوي، سمي على شجرة دوم عريقة ظلت لعقود مضت تتوسط الشارع في الناحية الغربية منه . هناك قريباً منها يقع البيت الكبير لأسرة الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد. وقد ارتبط الشيخ صادق في مخيلتي بتلك الدومة ارتباطاً وثيقاً، أولا لأنني عرفته أول ما عرفته في ذاك البيت ، الواقع في ذاك الشارع، المسمى على تلك الدومة؛ وثانياً لأنه كان يشبه عندي تلك الشجرة: نحيلة ومستقيمة ووحيدة وصامدة أمام الرياح التي تأتي بها المواسم عاماً بعد عام. لقد غمط المؤرخون شيخ صادق عندما لم يبرزوا تأثيره على أجيال متعاقبة من أبناء الحركة الإسلامية. ركزوا على خلافات مؤتمر 1969 بين مدرستي السياسة والتربية تلك المجادلة التي كان من أبرز شخوصها الشيوخ جعفر شيخ إدريس ومحمد صالح عمر وحسن الترابي. وليس صحيحاً أن شيخ صادق لم يكن له شأن بتلك المجادلة، كان له فيها رأي لكنه لم يبلغ بذلك الرأي حد المفاصلة. كانت المفاصلة ستأتي بعد أقل من عشر ستوات في موضوع مختلف للغاية. ظل شيخ صادق بالنسبة لأبناء الحركة الإسلامية الذين تربوا على يده، بمثابة «علامة التسجيل» للانتماء للحركة، فهو الوحيد من بين القادة آنذاك ممن استمدوا مباشرة من الشيخ حسن البنا ذلك الداعية الذي كان لاسمه وقع سحري في نفس أبناء الحركةحتى هذه اللحظة . فأصبح ما يقوله شيخ صادق أو يفتي به هو بمثابة القول الفصل. فوق ذلك فالشيخ صادق ذو وعي عميق وإدراك لقضايا السياسة، وله فن في أدب المحادثة، وهو يفهم الدعابة العميقة ويستسيغها ، فلا تجد في مجلسة تزمتاً أو قلقاً من إبداء رأي أو إرسال ملحة. وكان فوق ذلك خطيباً مفوها تعرف المنابر صوته العميق المتميز. كان واضحاً أنه وحسن الترابي من مدرستين مختلفتين، لكن ذلك لم يكن حاجزا للتعاون بينهما. وبرغم أنه قد جرت محاولات حثيثة لإبراز الفروق بين التجربتين المصرية والسودانية وبالتالي نفي مرجعية تجربة حسن البنا، إلا أن تلك المحاولات لم تنجح وظل أثر البنا موجوداً حتى هذه اللحظة، وظلت أقوال شيخ صادق ذات مرجعية خاصة في هذه الصدد. في عام 1977 عندما مل طرفا حكومة جعفر نميري والمعارضة التي كانت تقودها الجبهة الوطنية الحرب الدائرة بينهما، برز مصلحون توسطوا للحوار بينهما. والقصة معروفة، كانت قمتها هي المقابلة التي جرت في بورتسودان بين النميري والصادق المهدي والتي آذنت بمغيب شمس الجبهة الوطنية . إثر ذلك بدأ كل طرف من أطراف الجبهة الوطنية يتحرك وحده تجاه الحكومة. لذلك الغرض قرر «الإخوان» في الداخل إجراء مشورة واسعة داخل السودان وخارجه لاستبانة آراء الأعضاء حول المصالحة. كنت حينها طالباً مشردا يطلبني الأمن في السودان فخرجت منه متردداً بين السعودية ومصر وليبيا. أوكلت إلي مهمة استشارة الإخوان في الكويت فذهبت إليها لألتقي بهم حاملا لذلك السؤال الذي يلخص البند الوحيد في الأجندة» :في ضوء الظروف التي هي كذا وكذا ، هل توافقون على مبدأ المصالحة مع نميري.» كانوا حوالي سبعة من الإخوان من بينهم شيخ صادق. لا أذكر مواقف الآخرين فرداً فرداً، لكن موقف شيخ صادق كان صارما ومستقيما كالدومة التي أوردنا ذكرها سالفا :ً لا أوافق. وظل هذا رأيه الذي قدم في سبيله دفوعات قوية ، لكن الآخرين كانوا قد ملّوا المعارضة أو لعلهم ملّوا الجبهة بأحزابها، أو، كما قال بعضهم آنذاك، «إن التعامل مع النميري هو أفضل من التعامل مع الأحزاب.» بالنسبة لشيخ صادق لم يكن ذلك شرطاً ضروريا ، فالمعارضة ينبغي أن تمضي حتى بدون الأحزاب. لم يوافق الأخوان على المصالحة فحسب بل قرروا الاستجابة لمنطقها ودخول الحكومة التي كان الممر إليها عبر الاتحاد الاشتراكي. كان ذلك أكبر مما يستجيزه شيخ صادق لنفسه في السياسة فكانت المفاصلة ، وبرغم ذلك يظل شيخ صادق مرجعية خاصة لأبناء الحركة الإسلامية في أي فصيل كانوا.