خاب تطلع كل من توقع صدور قرار حاسم من مجلس الأمن الدولي ينهي بشكل مباشر النزاع في سوريا ويمنع استمرار وتوسع تداعيات الأزمة الإنسانية والأخلاقية الكبيرة التي دُمرت فيها قدرات الوطن، وشردت الملايين من الأسر الآمنة بين شتات النزوح واللجوء، وأزهقت خلالها أرواح عشرات الآلاف من الأنفس البريئة، بينما فُقد مثلهم من الشباب والحرائر وانقطعت عن ذويهم سبل الاتصال ومعرفة حقيقة ما جرى لهم، في بلد كان الناس يأوون إليه من كل فج عميق يسيحون في مدنه التي تتدثر بعبق ماضي الأمة التليد. لقد ثار الشعب السوري منذ اكثر من سنتين راغبا في نيل حريته والإنعتاق من نظام البعث الجاثم على صدره منذ عقود خلت، أسر السوريون في صمتهم الطويل ذاك عدة وعتاد رحلة المواجهة فانتفضوا أفرادا وجماعات لأجل أن يتمتعوا بحرياتهم العامة وحقوقهم الأساسية المستمدة من الكرامة الإنسانية المتأصلة، ولأجلها كسروا الأغلال العصية. هي الثورة تولد في لحظة فارقة يمكن أن يتلمس الناس إشاراتها من بعيد لكن لا أحد يمكنه التنبؤ بوقوعها أو نجاحها قطعاً، فالسوريون تخطوا بسرعة البرق حاجز الخوف الذي بناه نظام لم يدر بخلد قادته أن لا يابه بعسفهم وقسوتهم أحد من أفراد الشعب. لكن هذا الشعب الأبي الذي خرج أفراده يهتفون "حرية حرية ثورتنا سلمية" تمت مواجهتم بالرصاص الحي، وقبل ذلك ألقي بالعديد من المعارضين منهم في غياهب السجون، ولم يعد بالإمكان قطف ثمار الثورة إلا بثمن كبير، وتضحيات أكبر. لقد فزع الناس من بشاعة الجرائم المروعة للإنسانية التي ارتكبتها مؤسسات الدولة السورية التي كان وسيظل واجبها حماية المواطنين وليس تعذيبهم وترويعهم وتشريدهم وتدمير ممتلكاتهم وقتلهم حتى بلغوا من القسوة أن قتلوا الأطفال ومثلوا بجثث بعضهم، حيث ستبقى صورة الطفل حمزة الخطيب، ومن تلاه من شهداء حتى فاجعة غوطة دمشق ممن غادروا الدنيا دون أن ينطقوا بأسماء آبائهم وأمهاتهم عنوانا لتخاذل البشرية عن نصرة الضحايا والمستضعفين، والذين هم بحاجة الآن لمن يقنعهم بمصداقية مبادئ عدم التمييز، والإخاء، والتسامح، والعدالة والمساواة التي قام عليها النظام الدولي لحقوق الإنسان. حيث لم يكن بوسعه أن يكون نظاما إذا لم يعتمد في بنائه على وجود مقومات بقاء وقوة تأثير تجسدت في قبول الدول الأطراف بعالمية تلك المبادئ وتقديسها أخلاقياً ومن ثم تحويلها إلى معايير دولية وإقليمية - إتفاقيات ومعاهدات – وآليات تنفيذ تُذعِن الدول الأطراف جميعا بمحض إرادتها لتوصياتها وملاحظاتها وقراراتها إحتراماً لحق الشعوب والأفراد أن يعيشوا ويستمتعوا في عالم خال من الظلم والقهر وإهدار الحقوق والحريات. "نحن شعوب الأممالمتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزانا يعجز عنها الوصف" بهذه الكلمات المباشرة عبرت ديباجة ميثاق الأممالمتحدة عن يقين الدول الأطراف حينئذاك على حتمية تجاوز آلام الحربين العالميتين الأولى والثانية. وجُرم بالفعل اللجوء للحرب وإستخدام القوة، في حل النزاعات بين الدول، وجرد سيف البند السابع من الميثاق لفرض السلم والأمن العالميين بالقوة الجبرية قانونا. لكنها الرغبة وحدها دون إرادة لن تكفي.. فقد وقعت الحرب عدة مرات وستقع حول العالم وبصفة خاصة في المنطقة العربية!!! ولا حاجة لنا هنا أن نُذَّكر بكتابات بعض فقهاء القانون الدولي الذين لا زالوا يتندرون بأن أيام السلم دون حرب التي شهدها العالم ومنذ صدور الميثاق وحتى اليوم لا تتجاوز أربعين يوما فقط. لقد شاركت سوريا إلى جانب مصر، والعراق، ولبنان، والسعودية في مؤتمر سان فرانسيسكو في سنة 1945م الذي اعتمد فيه ميثاق الأممالمتحدة. لكن سوريا وغيرها إرتدت على أعقابها. فلم تستفد أبدا من أسبقيتها ومشاركتها في صياغة وإعتماد ميثاق الأممالمتحدة أو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كأول وثيقة عالمية في مجال حقوق الإنسان، في بناء نظام ديمقراطي تحترم فيه سيادة حكم القانون والعدالة في جو رحيب من الحريات الأساسية التي كرسها الإعلان. وليس هذا النقص حصريا على الشعب السوري فشعوب كثيرة في منطقتنا تجهل أبسط مقومات الديمقراطية وتفهم الحرية على عكس ونقيض ما تفهمها شعوب العالم المتقدم. وياله من أسف أن في هذا النقص تتشارك شعوبنا والأنظمة السياسية ذاتها، فالشعب في الغالب ليس مشغولا بحراسة حقوقه وحرياته من خلاله الإحتكام إلى الدستور العقد الاجتماعي بينه والنظام الحاكم، إنما تكتفي الفئة الغالبة منه بالإذعان للأمر الواقع، وترتفع أصوات النخب المعارضة تفضح الفساد لأجل ان تحكم وليس من بين أولوياتها العملية أيضاً تمتع عامة الناس بحقوقهم وحرياتهم. وتتمترس الفئة الحاكمة إلى تخوين المعارضين وشيطنتهم متشبثة بكرسي حكمها حتى لا يزوغ فيذهب لم لا يستحق من وجهة نظرها. وهكذا تُغرثُ في نفوس أجيال من أمتنا بصمتنا إنكار مبادئ وقيم راسخة منها ما هو سبب رئيسي لأزماتنا الحالية وهي تفشي عدم احترام سيادة حكم القانون، وغياب المساواة في التمتع بالحقوق بدءا من الاعتراف بالشخصية القانونية، مرورا بالحق في التداول السلمي للسلطة، والحق في تكافؤ الفرص، والحق في تولي الوظائف العامة، والحق في الانتخاب والترشح، والحق في التفكير وإعتقاد وإعتناق الآراء والتعبير عنها، وغيرها من الحقوق التي أضحت ممارستها تجرى مجرى الدم في عروق أمم من حولنا. وفي الواقع السوري الذي نتحدث عنه كحالة فهو عتمة مستعصية لن تنقشع بيسر، وزاد عليها الآن نتائج الاقتتال التي مزقت النسيج الاجتماعي وفرقت الشعب الواحد إلى طوائف بينها ثأرات، ولم يزل النظام هو هو يمسك بعصاه الغليظة وتسند ظهره أنظمة عالمية لا يهمها كم قدر من الدماء يسيل، بل فقط تنظر في مسرح الصراع السوري لكسب مصالحها هي. وقد بان ذلك في تصريحات سياسية كير، منها أن المقترح الروسي بشأن وضع الأسلحة الكيميائية السورية تحت اشراف المجتمع الدولي وما تبعه من انضمام سريع للحكومة السورية إلى إتفاقية منع إنتشار هذه النوع من السلاح الفتاك لم تكن سوى مفاوضات قديمة ومتجددة لكنها تحت الطاولة. إذن نحن الآن أمام وضع عصي آخر، ما يقوله السياسيون في وسائل الإعلام أو أمام الحشود من ابناء شعبهم ليس سوى ذر للرماد في العيون. فالدبلوماسيون يقدمون فروض الطاعة والولاء للدول الكبرى ويضحكون علينا جميعا نحن الشعوب، يدرون أولا يدرون أنهم كمن يمد لسانه لأمه. إن الحل للأزمة السورية هو بيد السوريين وليس غيرهم. فكل العالم إذا تدخل بينهم لن يستطيع البقاء للأبد حارسا للسلام أو الحوار،، وفي ثقافتنا تعود الزوجة لبيت الطاعة بأمر والدها أو بأمر المحكمة ولا أحد يستطيع أن يقتفي أثر الصراع الكامن خلف الأبواب المغلقة والستائر المسدلة، وهكذا ليس من بيت أو وطن دون أزمات. لكن الأقوياء هم من يبنون أوطانهم على التسامح بعد الاعتراف بالحقيقة مهما كلف ثمنها، وبالمساءلة لمن إرتكب الجرم مهما علا قدره، وبرد الحقوق إلى أهلها وإنصاف المظلومين ورفع الظلم عنهم وتمكين الناس من التعبير عن آدميتهم في إطار قيم المجتمع التي هي المرجعية القانونية والأخلاقية التي يجب أن يتحاكم إليها الجميع بغض النظر عن تباينهم واختلافاتهم. مما تقدم أعتقد أن الحل لما يجري في سوريا هو القبول أولا بوقف كل أعمال الاقتتال وإخراج النظام الحاكم من الواجهة عبر تطبيق العدالة الإنتقالية (Transitional Justice) والعدالة التحويلية (Transformative Justice) والتي تتناسب مع الوضع السوري ويرتضيها السوريون وحدهم. وقد عبرت بها من قبل وفي التاريخ المنظور بلدان كثيرة مزقتها الحرب وبطش الأنظمة الظالمة. وثمة توصيات حري بي قولها للسوريين أولها: ضرورة الاعتراف بحقوق الضحايا بغض النظر عن إنتماءاتهم لأي طرف من أطراف الصراع، ضرورة المساءلة لأنها في تحقيقها شفاء لنفوس الضحايا وذويهم، وإصلاح للجناة، وتحقيقا لمبدأ عدم الإفلات من العقاب ضرورة إعادة بناء الثقة في مؤسسات الدولة، لأن الوقوف عند ذكر ظلم الدولة ومؤسساتها يجعل من الصعب امتثال الناس لها، وفي غياب الامتثال يتلاشى الأمل في بناء شعب يرغب أن يعود مؤثرا وفعالا. هذه الضرورات لا يمكن إعمالها إلا من خلال دراسة ونظر فاحص لاختيار الآليات والأدوات المناسبة للواقع السوري. ولأن التجارب العالمية التي أشرنا إليها أرست نماذج فعالة، فيمكن الأخذ بمفهومها وتوطينه ليناسب ثقافة وتقاليد الشعب. فأفضل أنواع العدالة الإنتقالية هي التي تنجح في بناء سياق وطني من ماض وحاضر المثل القائمة في المجتمعات المحلية لكفالة التعايش ورد المظالم، والعلاقة مع الدولة بسلطاتها الثلاث. ويعبر عن هذا السياق بالتشاور الوطني الواسع حيث تعرف مجتمعاتنا باعتزازها بموروثاتها في السراء والضراء، هذه الموروثات التي تواضع عليها الناس يجب على الدولة أن تبني منها مشروع العدالة الإنتقالية... في محاكمة الجرائم البشعة إذا لا يعقل أن يساق المجرمون بالآلاف إلى المحاكم الطبيعية وبتدرجاتها العادية المعروفة إذا لن تنتهي معظم الأحكام حتى يموت معظم الضحايا ويفقد ذووهم الأمل في العدالة. لذلك تصبح اهمية بناء لجان الحقيقة ذات أولوية قصوى خاصة في الوضع الذي يجري في سوريا، عبر هذه اللجان تعرف الأسر مصير أحبائها المفقودين، ويعرف ذوو الضحايا كيف واين ومتى ولماذا قتل أحباؤهم. ونتائج أعمال هذه اللجان تستخلص منها الجرائم التي يمكن أن يتم العفو عنها من قبل الضحايا وذويهم بينما تقدم للمحاكم العادية الجرائم البالغة الخطورة. ويسبق كل هذا بالطبع تحديد نوع الجرائم التي يجب استعرضها، ثم المدة الزمنية التي يرى الشعب أن معالجة ما حدث خلالها يمكن أن يؤسس للمصالحة الوطنية ولتجاوز عثرات الماضي. ثم يشرع في إصلاح المؤسسات وفي مقدمتها المؤسسات المعنية بإنفاذ القانون – قوات الجيش، والأمن، والشرطة، لأنها هي أول من تتحمل المسؤولية عن ارتكاب الجرائم أو حماية المواطنين منها، وينطبق الأمر أيضا على إصلاح قطاع العدالة، الجهاز القضائي والقضاة، ووكلاء النيابة، والمستشارين، والمحامين. ثم قطاع السلطة التنفيذية، من الوزراء مرورا بكبار موظفي الدولية. ولضمان نجاح عملية مثل هذه لا بد أن تشكل آلية وطنية خبيرة ومحايدة تستعرض ملفات هذه المؤسسات وقياداتها وأفرادها، فتقوم بتصحيح سجلاتهم لتبقي من لم يتورط في جرائم فساد، أو جرائم جنائية او سياسية اضرت بالوطن والمواطن خلال فترات الأزمة والصراع. ويتاح لكل من طاله قرار إبعاد الحق في مراجعته أمام القضاء العادل،، ويستحق من ثبت تعرضه لانتهاكات جسيمة لحقوقهم التعويض المادي والمعنوي، فالدولة مسؤولة عن التعويض المادي والاعتذار لأفراد شعبها بسبب تقصيرها عن حمايتهم لأن المسؤول الأول عن احترام وأداء وحماية حقوق الإنسان لشعبها. كما أنها مسؤولة عن تطبيق مبدأ عدم إفلات الجناة من العقاب وتقديمهم للعدالة. ما ذكرته أعلاه ليس سفسطة فلاسفة أو كثير حديث بلا طحين إنما هي تجارب موجودة نجحت دول عصفت بالإستقرار فيها النزاعات المسلحة والإضطرابات الداخلية لسنوات فقدت خلالها الأرواح بل السجلات التي تحفظ وجود الناس كمواطنين قبل حقوقهم. وسبب النجاح هو توفر الإرادة السياسية للنخب المتجردة من إنتماءاتها تحت مظلة الوطن، وإستعداد الشعب لقبول المصالحة والعفو رغم مرارة الإنتهاكات. ففي إرثنا أبواب من الرحمة تفتح لمن عفا وصفح، وابواب من السند والأمن والطمأنينة تتنزل على من حكم فعدل بين الناس باختلاف معتقداتهم وأديانهم والوانهم وألسنتهم وأجناسهم وأعراقهم. وخاتمة القول إن أي عدالة انتقالية تبنى على الرمل لا على حجر صلب ولو كانت قصرا منيفا سيذيبها كوب ماء لا يروي ظمآنا. وبالله التوفيق