المسحة السمراء والملامح الإفريقية الغائرة في وجهه لم تكن تمنح نور الدين الكندي من أصول مغربية التقدير الذي يستحقه من اللبنانيين المقيمين هناك، والحق أن الرجل دقيق في شهادته تلك، فاللبنانيون من زملاء العمل - وحتى عابري العلاقات وهو يلتقيهم أثناء تمرير معاملة في إحدى دوائر الحكومة أو في ردهة الطعام بالمول وفي مواقف الحافلات العامة على سبيل المثال – لم يكونوا شديدي الجفاء معه وإنما قليلي الاكتراث. ولعل تلك هي الطريقة اللبنانية الأصيلة في التعامل مع الطرف الأدنى في العلاقة، وعندما تتعلق العلاقة بالعرب فإن الأخيرين هم ابتداءً الطرف الأدنى في عرف اللبناني حتى يثبت العكس أو على الأقل يثبت قدر من الندية يتيح اهتماماً أوضح. وجدير بالقول أن القدر المتوقع من الندية قد يكون لأي اعتبار مادي أو معنوي بعيداً عن العرق الذي يضمر فيه اللبنانيون شعوراً عميقاً بالتفوق لا يجد أمامه العرب بصفة عامة مناصاً من الاستسلام. بالعودة إلى نور الدين، فإنه سريعاً ما يستعيد التقدير الذي يتوقعه وزيادة عندما يستوجب المقام حديثاً بالفرنسية، وهو أمر غير بعيد الحدوث في المهجر الكندي ذي الشطرين الإنقليزي والفرنسي، فعندما ينطلق الرجل بلسان فرنسي مبين يعاود اللبنانيون استقباله بمزيد من الحفاوة والتقدير إنْ بصورة مباشرة أو على هيئة التفاتة إعجاب مخلوطة بغير قليل من الاندهاش حينما لا يكون الحديث مباشراً مع الطرف اللبناني المتغاضي أول الأمر. وللإنصاف، فإن تقدير المتحدثين بلسان أعجمي مبين ليس أمراً غريباً لدى العرب عامة، فالحديث بإنقليزية "نظيفة" يحمل في طياته إمارات الرقي سواء بسبب اكتساب اللكنة من مخالطة الإنقليز في ديارهم أو حيث يعملون في وظائف مرموقة بالبلد العربي نفسه، أو عن طريق التعليم في مدارس "اللغات" – حسب التعبير المصري – التي تستدعي ثروة طائلة للالتحاق بها. أما عندما تكون اللغة المتقنة هي الفرنسية فنحن أمام حالة أجلّ من الصفوية لا تحتاج لتعليل كبير إذا علمنا أن الأمر بحذافيره منطبق على المجتمع الأمريكي مع اللغة الأوربية التي أفلحت في اقتناص سمعة اللغة الأكثر رقياً في العالم رجوعاً إلى تقاليد أهلها المتسمين بغير قليل من الحذلقة المنطلية على العالم حباً وكرامةً. ومع نور الدين مجدداً، فإنه متزوّج من لبنانية يُكن لها كل تقدير، ولعل تلك المصاهرة هي ما أتاح له الوقوف على نظرة اللبنانيين للمغاربة بشكل أكثر فضولاً ودقة. وبعيداً عن هذا السياق، فإن العطلات السنوية التي يقضيها الزوجان في المغرب تحظى بأوقات هانئة ليس بسبب العلاقة الحميمة بين الزوجة من طرف والحماة وبناتها على الطرف الآخر، فتلك العلاقة بالفعل لا بأس بها ولكن لسبب طريف يكمن في صعوبة فهم أي من الطرفين لسان الآخر وهو ينطلق باللهجة الدارجة مضمّخة باللكنة القروية المستعصية على حدٍّ سواء في الجانبين المشرقي والمغربي. ولكن ما يستوجب الحمد للفريقين من النساء أن كليهما يحمل ما لا يفهمه من لسان الآخر محملاً حسن النية. روبرت فيسك الصحفي البريطاني الذي يحظي بشعبية لافتة وسط المعنيين من العرب بسبب مواقف نادرة من ميول الغرب تجاه القضايا العربية، روبرت هذا أقام طويلاً في لبنان، ووصف مرة عرَضاً الفرنسية التي يتحدث بها على أنها "اللغة المفضلة لمارونيِّي لبنان"، والأرجح أنه لا يقصد الفرنسية كلغة للحديث فحسب وإنما كمرجعية ثقافية كذلك مقارنة بالإنقليزية تحديداً، هذا رغم أن الأخيرة قد اكتسحت العالم (وفيه مارونيُّو لبنان) بسبب العولمة التي انتصرت للثقافة الإنقليزية بأكثر مما انتوت في غضون المهمة الاقتصادية السامية. ولكن الفرنسية لا تزال مبعثاً للفخر. ولعل ثقافة اللغات - وفي مقدِّمتها الفرنسية تحديداً عند اللبنانيين - هي ما وهبهم تلك المكانة الخاصة في المخيِّلة العربية إضافة إلى الصفوية العرقية المتداولة خلسة.. وربما بقدر محسوب من الجهر كلما استدعى المقام. غير أن المطارحة اللغوية بين لبنان والمغرب العربي تنتهي لصالح الأخير عندما تكون اللغة هي الفرنسية تخصيصاً، فالفرنسية متداولة في المغرب العربي – بكل ما في الأمر من عيوب ومزايا – على المستوى العام والخاص بطلاقة لم تفلح مجاهدات التعريب حتى اللحظة في تسديد الضربة القاضية (أو حتى الموجعة) لها، بينما اللغة ذاتها لا تبارح الصفوة في لبنان، وكما رأينا مع قصة روبرت فيسك لدى طائفة بعينها هناك. للرقيّ إشاراته من الوَهْم والحقيقة، وبصرف النظر عن التباس الصفتين على الناس في الحياة في مواضع كثيرة، فإن الرقي تحديداً يحتمل من الالتباس في الاشارات والمغزى فوق ما يحتمل كثيرٌ من المفاهيم. ولا يزال العرب يفصل بعضهم عن بعض بداعي المظاهر - مما هو على شاكلة ما سردنا في هذا الحديث - فوق ما يجمعهم من الأواصر المشار إليها مراراً بلقب "شقيق" و"شقيقة". وربما كان ما نظنه "مظاهر" يستحق أن نقف أمامه بتقدير أكبر إذا تعلّق باللغة والثقافة، شريطة أن تنفذ علاقتنا بأية لغة وأية ثقافة إلى الجوهر المراد من الموضوعين لا أن تتلذذ بالوقوف على سطحيهما المغريَيْن باستثارة دواعي الترفُّع والمكايدة لا غير. عمرو منير دهب هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته